النقش ..النحت.. التشكيل جميعها مسميات أطلقت فى أزمنة مختلفة والمقصود بها أن تأتى بنتائج شبيهة باختلاف التقنية والخامة، فالنقش المقصود به النحت وذلك ما أقرته الكتب القديمة التى سجلت وأرخت فنون الحضارات وهى تعنى النحت البارز لأنه أشبه بالرسم عدا تحديد الخطوط التى قام المصرى القديم بتحزيزها، وعندما انتقل إلى النحت المجسم استخدم لفظ النحت أى الحذف أو القطع وأطلقت على جميع الأعمال التى نحتت من الخامات الطبيعية كالأحجار وما زلنا نستخدمه فى عصرنا هذا لكل ما هو مجسم، فالصواب أن نستخدم لفظ التشكيل عند استخدام الطينات أو المعادن بواسطة اللحام وغيره من الخامات الأخرى التى تقيل الحذف والإضافة
يعد النحت واحدا من فروع الفنون البصرية وواحدا من جوانب الإبداع الفنى، وهو أحد أفرع الفنون التشكيلية التى ترتكز على تنفيذ المجسمات الثلاثية الأبعاد وهو من الفنون القديمة وأقدمها، وفى أصل اللغة النحت هو الطرح أو الحذف أو إزالة أجزاء من المادة، وهو أيضا شكل فنى مختزل من خامة بعينها أو التشكيل من مجموعة خامات، فللنحت أنواعه وهى:
* النحت البارز وهو إزالة كل ما هو محيط بالأشكال لتبقى الأشكال بارزة
* النحت الغائر وهو تحزيز الأشكال والعمل على تجسيمها من الداخل
* النحت المجسم وهو وجود الكتلة فى الفراغ ورؤيتها من جميع الزاويا أى من 360 درجة
وقديما كان الغرض من إقامة التماثيل هو خدمة العقيدة والدين وتسجيل الحياة اليومية بغرض الاستمرارية والخلود، فالنحت نراه في الحضارة المصرية والرومانية واليونانية وهو أكثر الفنون انتشارا وتعبيرا عن المحيط مع فارق ما قدمته كل حضارة، وجاءت أهميته لتمثيله الآلهة والمعتقدات الدينية وكان النحت واقعيا أى يجسد الأشكال تجسيدا واقعيا.
وحديثا تأتى فى الغالب الأعمال لتزيين الأماكن أو للتعبير عن المشاعر أو لسرد قصة أو مناقشة القضايا الاجتماعية بغرض توصيل رساله للجمهور، وعناصره الخط والفراغ والكتلة والقيمة والتوازن والإيقاع ولا يفرغ أى عمل نحتي من عناصره هذه.. ثم يأتى التجريد والغرض منه الفن للفن.
ساهم الفن المصري القديم وخاصة فن النحت فى الارتقاء بالحضارة المصرية القديمة وجعلها في هذه المكانة التى استلهم منها فنانو العالم إبداعاتهم حيث شهد له الجميع بقدرتهم الإبداعية فى تطويع الخامات وتجسد التماثيل بهذا التميز الجمالي والدقة والجمال وأسلوبه المنفرد، فكان الفن المصرى القديم فنا عقائديا ورمزا من رموز الخلود فأسرفوا في إنتاج تماثيلهم ووضعها في مقابرهم لتتقمص أرواحهم عند البعث، وجاءت تماثيلهم بين الفن الرسمى بتجسيد تماثيل الآلهة والملوك وتصويرهم فى أبهى صورهم، فجاءت تماثيلهم خالية من التفاصيل وتتسم بالكتلة دون الفراغات ليقاوم عوامل الزمن، وتميزت أيضا باستقامة الهيئة فجاءت منتصبة فى الوقوف والجلوس ولا يوجد فراغ بين الساقين والأيدى مبسوطتين بموازاة الجسد وبعضها تمسك بصولجان الحكم أو العصا وجاءت الرأس تنظر إلى الأمام ليس بها أى التفاتة، وتماثيل أخرى جسدت الأفراد وعرفت بالفن الشعبى فظهرت تماثيلهم وبها حرية وانحناءة وترهل فى الجسد ووضع التربع كما في تمثال الكاتب وأخرى راكعة وأخرى وهى تقوم بالوظائف المنزلية وهناك تماثيل عائلية كتمثال عائلة القزم سنب وأسرته
وفى النهاية جاء اهتمام النحات المصرى محافظا على السكون الإلهى والاتزان والهدوء والتعمق لدى المتأمل
كانت مصر أول من استقبلت المفهوم الغربى للتصوير والنحت بتوافد عدد من المصورين والنحاتين الأجانب فى عصر محمد على وحفيده إسماعيل لتزيين قصور الحكام والشوارع بالتماثيل، وكان من أجمل ما تم تنفيذه تمثال إبراهيم باشا وأسود قصر النيل، وبفضل الأمير يوسف افتتحت مدرسة الفنون الجميلة عام 1908 بإشراف فنانين أجانب وكان المثال محمود مختار أول طالب مصري، واستمرت معارض الرواد تنتشر من مكان إلى آخر ثم أنشأ المرسم الحر عام 1942 تابعا للمدرسة، وفى عام 1952 أصبحت المدرسة أول كلية للفنون الجميلة وفى الإسكندرية افتتحت المراسم الخاصة وظهر النحات محمود موسى وجمال السجينى ثم أنشئت كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية وكان المثال أحمد عثمان أول عميد لها فى عام 1957، وفى عام 1976 أنشئت نقابة الفنانين التشكيليين وكان الفنان عباس شهدى أول نقيب لها ثم فرع الإسكندرية عام 1982 برئاسة محمد حامد عويس، وكانت المعارض والمحاقل الفنية قاصرة على الوجه البحرى خاصة القاهرة والإسكندرية حتى أصبحت لوزارة الثقافة مؤسسة ترعى الحركة الفنية فى جميع أنحاء الجمهورية.
وسار الفن التشكيلى بخطى واعية لرسالته متأثرا كثيرا بالحركات الفنية فى أوروبا خاصة بعد سفر مجموعة من الفنانين وأساتذة الكليات الفنية فيما بعد لأوروبا، لكن محمود مختار رائد النحت الحديث أصر على أن تكون إبداعاته مزيجا من ما تأثر به من الغرب وإضافة كل ما هو مصرى من موضوعات وبساطة وصرحية الفن المصرى القديم، وتصدى مختار وأقرانه لكل ما هو غربى أمثال أنور عبدالولى وجمال السجينى ومنصور فرج وأحمد عثمان وفتحى محمود وعبدالبديع عبدالحى ومحمود موسى ومصطفى متولى، وآخرون أصروا على استكمال مسيرة من سبقوهم، واستطاعت الحكومة أن تخلق مزيدا من رعاية الفن بإرسال الكثير من المصورين والنحاتين إلى أوروبا خاصة إيطاليا وروسيا وفرنسا وإسبانيا من بينهم فاروق إبراهيم والوشاحى وصبحى جرجس وصلاح عبدالكريم وآدم حنين... وغيرهم
وبدا للعالم كله أن حركة الفن المصرى الحديث والمعاصر كانت حركة قوية استطاعت أن تسارع تطور الثقافة والتحولات الاجتماعية والسياسية
ومع بداية الألفية الثالثة اشتمل النحت المعاصر على العديد من الظواهر الجمالية المتنوعة من الناحية الشكلية أو التعبيرية، وتنوعت وسائل التقنية في خطى سريعة لم تكن موجودة في العصور السابقة فخرج النحت من جذوره ليصبح لفظ التشكيل لدى الأكاديميين هو الغالب حيث أصبح ما يتم إنتاجه من الطين ثم الصب والقولبة والاستنساخ من المواد القابلة للصب كالبوليستر أو سباكة المعادن كالبرونز وندرت الأعمال المنحوتة من الخامات الطبيعية كالأحجار إلا قليلا وهى من إنتاج السيمبوزيومات كسيبوزيوم أسوان وأعمال أخرى فردية، كما استخدمت اتجاهات فنية فردية تعتمد أغلبها على التجريد والتكعيب ولم تقدم ما يحقق الهوية الثقافية التراثية المميزة إلا القليل.
ونحن الآن أمام استخدام التكنولوجيا الحديثة منها الفن الرقمى والطباعة الثلاثية الأبعاد وماكينات الـ cnn والفن الاصطناعى الذى يعتمد على برامج الذكاء وجميعها تكنولوجيا مبهرة تعتمد على الحاسب الذى يوفر التعامل مع الخامات كالطينات وأصبح التلاعب بالأشكال التى يسطير على أغلبها الهندسيات متاحة وسريعة وتعزز من القدرة التصميمية ومع هذ التطور افتقدنا الروح الإبداعية وفقدنا معها شخصية المبدع وأسلوبه واتجاهه الفنى فأصبح من الصعب أن نتعرف على صاحب العمل من خلال ما ينتجه وهى البصمة الفنية الخاصة بكل فنان.
فإن أول تمثال تم عرضه بمتحف العلوم والتكنولوجيا فى استكهولم (تمثال المستحيل) وهو أول تمثال يتم إنتاجه من خلال اندماج الذكاء الاصطناعى مع التصنيع الدقيق، وهو يجمع بين أعمال خمسة فنانين هم مايكل أنجلو، ورودان، وكاثي كولويتز، وتاكامورا، وأوغستا سافاج وهو مصنوع من الفولاذ المقاوم للصدأ ويبلغ طوله خمسة أقدام، ومصمم على شكل إنسان يحمل بيده كرة ضخمة تتعارض مع قوانين الجاذبية.
فالفنان الحقيقي سيبقى له محبوه الذين لم يستوعبوا نتائج الفن الذكى، وسيصبح كل ما هو ناتج من التكنولوجيا له محبوه أيضا والأمر مختلط مثل الكتاب الورقى والكتاب الرقمى، فدائما وأبدا سيبقى الفن المصرى نتاج استلهامات الفن المصرى القديم رغم كل التطورات لأنه أبقى وأوفى، ورغم كل ما تقدمه التكنولوجيا الحديثة من إمكانات.