كتاب قرأته، أعجبنى، فقدمت ترجمته إلى القارئ العربى٠عنوان الكتاب: «تحرير تولستوى»مؤلف الكتاب: الشاعر والأديب الروسى إيفان بونين صدرت الترجمة العربية عن دار نشر كلمة، أبو ظبى، 2020 (نفذت طبعة الترجمة)
يجمع هذا الكتاب بين اثنين من عمالقة الأدب الروسى: الكاتب الكبير تولستوى الذى يقدم الكتاب لسيرته، ومؤلف الكتاب وهو الشاعر والأديب الروسى الكبير إيفان بونين.
أما مؤلف الكتاب الشاعر والأديب إيفان بونين ( 1870 - 1954) فهو أول أديب روسى يحصل على جائزة نوبل في الآداب، وقد كتب بونين كتاب "تحرير تولستوى" في باريس، في عام 1937، في المهجر، فقد كان بونين واحداً من الأدباء الروس الذين لم يتقبلوا ثورة أكتوبر الاشتراكية، وهاجر من روسيا في عام 1920 إلى فرنسا، حيث استقر به المقام حتى وفاته، وحيث حصل على جائزة نوبل للآداب.
بدأ بونين طريقه الأدبى في تسعينيات القرن التاسع عشر، وعاصر فترة بداية القرن العشرين في روسيا؛ وهى الفترة الانتقالية من تاريخ روسيا التي سبقت ثورة أكتوبر الاشتراكية والتي حفلت بتنوع في المذاهب والتيارات الأدبية٠
وبونين شاعر وكاتب وناقد أدبى، وقد شغل شعر الطبيعة مكانة مرموقة في إنتاجه الشعرى، الذى يعكس ولعا خاصا باستلهام عناصر الفلكلور والعناصر الدينية.
وقد اشتهر بونين في النقد الروسى بلقب: "منشد الإقطاع المحتضر"، فقد جسدت موضوعات كتاباته النثرية بجلاء مرحلة غروب شمس الإقطاع الروسى التي كان شاهدا لها، وجاء إنتاجه معبرا عن هذه المرحلة التاريخية، ولعبت أصول بونين الطبقية والتحامه بعالم النبلاء الإقطاعيين الذين خرج منهم دورا كبيرا في هذا التوجه٠
أما الأديب الروسى الكبير لتولستوى ( 1828 - 1910 ) - وكما هو معروف – فهو واحد من مشاهير الأدب ليس فقط في الأدب الروسي، بل وفي الأدب العالمي، وهو يعتبر من أكثر الأدباء انتشارا من حيث حجم ترجمات أعماله، وتأثيرها على الأدباء في روسيا وخارجها. كتب تولستوى القصة والمسرحية والرواية، كما ترك العديد من الدراسات التي تتطرق لشتى موضوعات الفكر والفلسفة والدين والفن٠ وقد حظيت مؤلفات تولستوي وأفكاره على اهتمام كبير فى الشرق العربى، فقد ترجمت أفكاره الفلسفية، ورواياته، وقصصه، ومسرحياته إلى العربية، ونالت رواياته "الحرب والسلام"، " آنا كارينينا"، " البعث" شهرة وانتشارا كبيرا، وقد سبق أن تناولنا رواياته بالدراسة في كتابنا " (الرواية الروسية"،الكويت،1981)
جدير بالإشارة إلى أن تولستوي قد أولع بالأدب العربي، وأهتم بالتراث الروحي الإسلامي وتأثر بهما، وهو التأثير الذي أفردنا له فصلا في كتابنا عن "المؤثرات العربية والإسلامية في الأدب الروسي"، الكويت، 1991.
يقدم إنتاج لتولستوي بانوراما للحياة الروسية في الفترة من (1805 – 1907)، وتجسد مؤلفاته عالماً كاملاً من الأفكار، والمثل، والقضايا التي لا تمس الواقع الروسي فحسب، بل والإنسانية جمعاء، وليست مصادفة أن يلقب تولستوي بـ "إنسان الإنسانية"، و "ضمير الإنسانية".
بونين و" تحرير تولستوى":
هناك العديد من الكتب والدراسات والأطروحات العلمية التي تناولت بالبحث والدراسة حياة، وفكر، وإبداع أديب روسيا الكبير ليف تولستوي (1828 – 1910)، لكن كتاب بونين عن تولستوى يكتسب مذاقاً خاصاً، فهو كتاب كتبه أديب عن أديب كبير آخر٠
يجمع هذا الكتاب بين عناصر الدراسة البيوجرافية، وأدب المذكرات، والدراسة النقدية الفنية، كتبه بونين في باريس، في عام 1937.
يتناول الكتاب ملامح من السيرة الذاتية والأدبية لتولستوي، ويلمس جانباً من رؤاه الفكرية والفلسفية، كما يروى لنا عن بعض التفاصيل الخاصة بليلة هروبه من منزله وضيعته فى ياسنايا بوليانا ، وكذلك التفاصيل التى سبقت وفاته .
ينطلق إيفان بونين في كتابه "تحرير تولستوي" من حبه العميق، وتبجيله لتولستوي الإنسان، والمفكر والفنان. وقد أشار بونين إلى تأثره الكبير بأفكار تولستوي، حين كانت تأسره أحلام الحياة، الطاهرة، الطيبة الصحيحة بين الطبيعة، والعمل اليدوي في ملابس بسيطة، في صداقة أخوية ليس فقط مع كل الناس الفقراء والمضطهدين، بل أيضا مع عالم النبات والحيوان بأسره، وكل ذلك بسبب حبه لتولستوي الفنان الذي أصبح بفضله "تولستويا"٠
تعرف بونين على تولستوي، والتقى به عدة مرات (ترد الإشارة إلى ذلك في ثنايا الكتاب)، وقرأ مؤلفاته والكتابات النقدية التي تناولت أعماله بالدراسة، بالإضافة إلى تبنيه أفكار تولستوي في شبابه، فقد كان بونين واحداً من مريدي تولستوي، وممن أطلقوا على أنفسهم حركة "التولستوية"، وهي جماعة دينية أخلاقية ظهرت في روسيا في عام 1880، واستمرت حتى بداية القرن العشرين تحت تأثير فكر تولستوي وفلسفته. وقد وجدت هذه الجماعة أنصارا لها داخل روسيا وخارجها. ومن أشهر أتباعها في الخارج غاندي في الهند. تبنت هذه الجماعة أفكار تولستوي الخاصة بنبذ العنف، والحروب، والحب العام، والكمال الذاتي للشخصية الإنسانية، والعمل اليدوي، والزهد، والبحث عن السعادة "في العيش من أجل الآخرين"، وقد كانت هذه الجماعة تمتلك دارا للنشر فى روسيا: (الوسيط)، وكانت هذه الدار تقوم بدور تنويري من خلال إصدار طبعات شعبية لمؤلفات الأدباء الروس، وقد عمل بونين في هذه الدار لفترة فى صدر شبابه.
بناء النص في "تحرير تولستوي" غير تقليدي، فأحياناً يتقاطع صوت بونين المؤلف مع صوت تولستوي نفسه، كذلك نجد بونين يتخلى- أحياناً -عن دوره بوصفه السارد الرئيس، ويترك المجال لروايات أفراد عائلة تولستوي، والمقربين، وبعض المعاصرين، وقد ينشب جدل بين المتحدثين عن تولستوي، يحاول بونين من خلاله الكشف عن أبعاد شخصية تولستوي المركبة، والتي قد تبدو أحياناً للبعض متناقضة. كذلك يضمن بونين "تحرير تولستوي" بعض الاقتباسات من روايات تولستوي، ومن الإنجيل، ومن البوذية.
تتكشف من خلال رواية بونين والآخرين عن تولستوي ملامح من شخصية تولستوي: عاداته اليومية، مأكله، ملبسه البسيط، مشيته، تعبيرات وجهه، طريقة حديثه، كذلك نتعرف على بعض هواياته مثل الصيد، العمل بالزراعة، حبه للعمل اليدوي، ولعه بالموسيقى، اهتماماته بموضوعات التربية وتعليم أبناء الفلاحين وغيرها، كما نتعرف أيضا على بعض الملامح الشخصية التى تخص أفرادا من أسرته.
كذلك نتعرف على صفحات من سيرته الذاتية: تولستوي الضابط المحارب في معارك سيفاستوبل في القوقاز، تولستوي الأديب المبدع، تولستوي المفكر الذي انشغل طويلاً بالتفكير في مغزى الحياة والوجود الإنساني، وفي تقييم مسيرته الحياتية. كما نتعرف أيضا على لمحات من علاقاته بأسرته، تربيته المحافظة لبناته ، علاقته المتوترة مع زوجته ، ولاسيما في الفترة الأخيرة قبل هروبه، والتي كان من أهم أسبابها قرار تولستوى التخلى عن أرضه للفلاحين ، وتوزيع ثروته، إذ لم تستطع أسرته تقبل هذا القرار، وهو الكونت الإقطاعي سليل العائلات النبيلة.
لقد ارتبط هذا القرار عند تولستوي برفضه لملكية الأرض والثروة التي كان يرى بها مصدراً للشرور والظلم الاجتماعى، نطالع أيضا من خلال "تحرير تولستوي" بعض تفاصيل ليلة هروب تولستوي من منزله، وموته في محطة السكة الحديدية في "استابوفا".
ويبرز هروب تولستوي الأخير من محيطه الأرستقراطي بوصفه أحد أشكال التحرر من الصراع الأسري، وحياة الترف الأرستقراطية، بغية الوصول إلى تحرر أكبر، ألا وهو تحرير الروح من حلتها المادية والدنيوية٠
ينعكس في كتاب "تحرير تولستوي" ولع بونين ومهارته الفنية في الوصف، وبصمة أسلوبه الشعري على كتاباته النثرية، فهو كما أشار عن نفسه "ولد ليكون شاعرا"، ولذا نجد أن كتاباته تتميز بالإيجاز البليغ، ومزج النثر بالصور الشعرية، والإيقاع، والولع بوصف الطبيعة.
لم تقدم أعمال بونين بشكل كاف للقارئ العربي، رغم أنه أحب الشرق العربي وتأثر بتراثه الأدبي والروحي، وقد تناولنا هذا التأثير في كتابنا عن "المؤثرات العربية والإسلامية في الأدب الروسي" الذي سبق الإشارة إليه.
اخترت نص "تحرير تولستوي" لتقديمه إلى القارئ العربي من منطلق تقديري العميق لكتابات إيفان بونين، الذى لم يأخذ حظه فى التقديم لقراء العربية ، وربما يكون السبب فى ذلك صعوبة أسلوب بونين، ونزعته الفلسفية التأملية التى تغلب على كتاباته، ولذا أود التنويه بأن بونين يدرج أحيانا فى سياق حديثه عن تولستوى بعض الآراء الفلسفية، واقتباسات عن روايات تولستوى، وشخصيات مؤلفاته، وكذلك بعض الإشارات إلى الإنجيل، والبوذية وذلك دون تمهيد، بالإضافة إلى ذلك أعجبتنى الطريقة غير التقليدية التي قدم بها بونين حياة تولستوى وأفكاره في كتابه "تحرير تولستوى"، والتي تختلف عن الكتابات السابقة له٠