فرضت الطائرات "المسيرة" واقع مغاير تمامًا لما هو مألوف في الميدان العسكري، فبها تساوت الرؤوس، وانكسر ما يعرف بالتوق الجوي، ولم يعد هناك مدينة حصينة، فالكل مُطال وبثمن بخس قد لا يتعدى عشرات "الدولارات"، ما أعطى القدرة للطرف الأضعف في الصراعات على ضرب أهداف نوعية وحساسة، وهو ما لم يُعهد من قبل.
انتهى زمن الاحتكار
"طائراتنا قادرة على استهداف من تريد أينما تريد وفي أي وقت تريد".. بهذا كان تفتخر إسرائيل بامتلاكها الطائرات "المسيرة"، فحتى الأمس القريب كان استخدام ذلك السلاح الإستراتيجي يقتصر على الدولة العبرية، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن كل ذلك تغير مؤخرًا، فذلك السلاح، الذي كان نادرًا في وقت ما، ومنح هذين البلدين ميزة عسكرية لم تعط لغيرهم، أصبح منتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء دول العالم، وليس في أيدي الجيوش المنظمة فحسب، بل وصل كذلك إلى الجماعات المسلحة، وما كان يَضرب به في الأمس، أصبح يُضرب به اليوم.
ولعبت "المسيرات" أدوارًا حاسمة في نزاعات السنوات الأخيرة، لكنها برزت في الحرب الروسية الأوكرانية أكثر من أي صراع عسكري سابق، حيث أنها تفوقت على صواريخ "كروز"، وقلبت موازين الحرب المرة تلو الأخرى.
وجاء صراع الشرق الأوسط في عام 2024 مؤكدًا على ذلك، حيث تتضح فاعلية سلاح"المسيرات" من خلال الهجمات النوعية التي نفذت مؤخرًا ضد "تل أبيب"، التي كانت في وقت ما ستفضي إلى مقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
انتكاسة الجيوش
مع احتدام الصراع الدائر في الشرق طوال عام 2024، جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023، نجحت الطائرات "المسيرة" في الكشف عن ثغرات في الدفاعات الإسرائيلية عالية التقنية، وذلك بمثابة جرس تحذيري للقوى الأكثر تقدمًا من الناحية التقنية في العالم.
وبكل ما تحمله الكلمة من دلالات تواجه الجيوش النظامية انتكاسة في التعامل مع تهديد "المسيرات"، نظرًا لفشل أنظمة الدفاع الجوي في التعامل معها، خاصة إذا طُليت بمواد تسهل اختفاءها، وتقلل من انعكاسات الرادار، فضلًا عن أنها تحلق على ارتفاعات منخفضة، ما يُعقد بشكل أكبر رصدها.
وإضافة إلى ذلك، تستطيع "المسيرات" أن تتحرك بشكل غير متوقع، وهو ما يتناقض مع قدرات الرادارات الحديثة، التي حسنت قدراتها لتتبع الأهداف الأسرع، ما يجعلها غير ملائمة للتعامل مع الطائرات بدون طيار.
تزداد تلك الفاعلية مع نشر "المسيرات" في أسراب أو تشكيلات متفرقة، في تكتيك انتشر على صعيد واسع مؤخرًا، نظرًا لأنه يُضفي المزيد من الضغط على المنظومات الدفاعية، حيث أنه يشتت الآليات الدفاعية.
وإلى جانب ذلك، يمكن أن توفر "المسيرات" بيانات دقيقة عبر دمج "الذكاء الاصطناعي" مع النظام الخاص بها، ما يجعلها قادرة على التصرف بشكل أسرع.
وتظهر معضلة أخرى في ارتفاع كُلفة التعامل مع "المسيرات"، حيث تضطر الجيوش النظامية لإنفاق ملايين الدولارات من أجل مواجهة أسراب "المسيرات" التي تبلغ كُلفة الواحدة منها بضعة عشرات أو مئات الدولارات أحيانًا.
وأعطت جميع تلك المميزات فرصة للأطراف الأضعف في الصراعات لضرب أهداف نوعية وحساسة من مسافات بعيدة، ما يفرض واقعًا جديدًا على الأرض الميدان، يمنح فيه المهاجم ميزة على حساب المدافع لسهولة إطلاق تلك الطائرات من بيئات شديدة الوعورة وبإمكانات لوجستية يسيرة.
وبناء على ذلك، يقول خبراء، إن التفوق الجوي الذي تمتعت به الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام منذ الحرب العالمية الثانية أصبح من الماضي بفضل الطائرات المسيرة، التي أعطت القدرة على شن غارات جوية على أهداف ثابتة ومتحركة بدقة عالية.
طفرة غير مسبوقة
وفي إطار ذلك، يؤكد اللواء نصر سالم، رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق، أن سلاح الطائرات "المسيرة" أحدث طفرة غير مسبوقة في الميدان العسكري، وأصبح منتشرًا على نطاق واسع، وهذا ليس فقط في مجال الجو، بل هناك كذلك غواصات، وزوراق، وسيارات من تلك النوعية.
وأضاف "سالم" في حديثه لـ"دار الهلال"، أن سلاح "المسيرات" قادر على أداء المهام بشكل أسرع وأدق، ودون تدخل بشري، موضحًا أن المستقبل بات لتلك النوعية من الأسحلة، قبل أن يستدرك:"بل نحن في صدد ذلك بالفعل".
وأشار إلى أن فاعلية ذلك السلاح تتجلى في الصراع الدائر في غزة، وكذا شاهدنا دورها في لبنان وسوريا وأكروانيا، وفي مناطق أخرى، لذا فهو سلاح مطلوب من دول العالم، لافتًا إلى أن القوى العظمى باتت تتنافس في ميدان صناعة "المسيرات".
ومع سلاح تساوت به الرؤوس، يوضح الخبير العسكري، أن الأفضلية في استخدام "المسيرات" باتت لمن هو أكثر تقدمًا، وقادر على توظيف السلاح بشكل صحيح، وبطبيعة الحال "المسيرات" كأي سلاح له مميزات وعيوب.
واستدل هنا بقدرة جماعة أنصار الله الحوثي باليمن على توظيف ذلك السلاح ضد إسرائيل، على رغم أنها تمتلك منظومة دفاع جوى ذات تقنية عالية، لكن الجماعة اليمنية استطاعت توظيف السلاح بشكل صحيح.
وبسلاح "المسيرات"، لم يعد هناك حاجة لتحريك جيوش جرارة بشكل جعل الأطراف متساوية، وأصبح عامل الحسم لمن يمتلك التكنولوجيا المتطورة، بحسب سالم، الذي أكد أن هناك تطور خطير في توظيف تلك الطائرات، ولزامًا علينا أن نجاريه.
وأوضح أن التطور الحاصل مؤخرًا في هذا الصدد قلب الميدان العسكري كحال "البارود"، الذي غير مجال التسليح بالكل، مشيرًا في الوقت ذاته، إلى أن ذلك التغيير نتعايش في وسطه الحين، فأصبح من الممكن أن أدمر العدو دون قتاله.
وفي سياق ذلك، يذكر أن في هجوم حركة حماس على إسرائيل أثناء عملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر 2023، نجحت بإمكانيات محدودة للغاية في توجيه ضربة قوية ضد الداخل العبري بالكل، لكنها لم تمتلك مد كإسرائيل، ما أضعفها فيما بعد.
ومضى مضيفًا أن نجاح حماس المحقق في تلك العملية، كان نتيجة لتوظيفها التكنولوجيا بالشكل المطلوب، ولو كان لديها نفس المد المتوفر لإسرائيل لكان من الممكن أن تنتصر، مؤكدًا بذلك على أن من امتلك التكنولوجيا والعلم قادر على قلب ميدان المعركة، حتى لو كان خصمه أكثر عتادًا.