لم تكن حادثة تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية في لبنان، مجرد حادثا عابرا، بل دفعت كل دولة لتعيد النظر في أوراقها، خشية أن تؤتى مما أوتي منه حزب الله، الذي ضرب من حيث لا يدري ولا يحتسب، في هجوم غير ميزان الصراع برمته، حيث كان تمهيدًا إسرائيليًا لبدء حرب أوسع نطاقًا.
وتبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مسؤولية بلاده عن العملية التي عرفت باسم "هجوم بيجرز"، والتي أسفرت عن مقتل 42 لبنانيًا، فضلًا عن إصابة أكثر من 3000 آخرين.
لم تقف تداعيات تلك العملية عند الحدود اللبنانية، بل هزت العالم بأسره، تخوفًا من وقوع هجمات على النحو ذاته في مناطق أخرى، خاصة أن الأهداف كثيرة وفي كل مكان.
الحادثة في ذاتها كانت بمثابة سبق انفردت به الدولة العبرية، فلم يعرف العالم لها مثيل من قبل، ففي لحظة واحدة سقط الآلاف بين قتيل وجريح، بآلية ما زالت ملامحها قيد الغموض.
زاد الأمر تعقيدًا أن الأجهزة المنفجرة صعبة الاختراق، لأنها في الأغلب لا تكون موصولة بشبكة الإنترنت، وتعمل بتقنية أمواج الراديو اللاسلكية على ترددات محددة وبرموز خاصة، وذلك ما يفسر استخدام حزب الله اللبناني إياها للتواصل بين أعضائه.
وبحسب ما أوردته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية عن مسؤولين إسرائيليين، فإن أجهزة النداء التابعة لحزب الله صنعت في إسرائيل وتحت إشراف "الموساد"، موضحة أن المتفجرات أخفيت في أجهزة النداء بشكل دقيق، لتفادي رصدها حتى لو فككت.
وأشارت الصحيفة، إلى أن الاستخبارات الإسرائيلية بدأت في إدخال أجهزة الاتصال اللاسلكي المفخخة إلى لبنان منذ عام 2015، كاشفة أن الإسرائيليين تنصتوا على اتصالات حزب الله عبر أجهزة "اللاسلكي" لمدة تسع سنوات، واحتفظوا بخيار تحويلها إلى قنابل.
واقعة بيجرز
ويرى اللواء محمد الغباري، مدير كلية الدفاع الوطني الأسبق، أن تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية في أيدي من يحملونها، الذي وقع في لبنان سبتمبر الماضي، ليس بالجديد، بل يأتي في إطار الحرب الإلكترونية الموجودة منذ الحرب العالمية الثانية، التي انتهت في عام 1945.
وقال الغباري، إن إسرائيل وظفت "التكنولوجيا" في تدمير آلاف أجهزة الاتصالات اللاسلكية التابعة لحزب الله اللبناني، ما تسبب في فصل القيادة عن العناصر التابعة لها.
وأوضح "الغباري" في حديثه لـ"دار الهلال"، أن تأثير ذلك ينبع من أن حزب الله، ليس جيشا نظاميا، بل أفراد موزعين في أكثر من ناحية، فحين تريد القيادة تجميع تلك الأفراد يتم الاتصال عبر تلك الأجهزة، ما يعني أن تدمير الجهاز يعني فصل الرأس عن الجسد، وهو ما كان.
وتابع: "جراء ذلك الدمار الذي لحق بالأجهزة، لم يعد حزب الله قادرًا على التواصل مع أدواته، وهذا ما يفسر الفترة الطويلة التي استغرقتها القيادة، حتى تستطيع أن تستجمع قواها مرة أخرى".
وأضاف أن تلك الهجمات تأتي في إطار الحرب الإلكترونية الموجودة منذ الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن ذلك ليس بالجديد، وإن كان له وقع مختلف، ساهم في تعزيزه تناول وسائل الإعلام.
وأشار الخبير العسكري والإستراتيجي، إلى أن ذلك النموذج طبق لأول مرة في الشرق الأوسط، في حرب عام 1967، حيث وظفته إسرائيل عبر السفينة تسمى "ليبرتى" ضد مصر، لتعمية الرادرات.
ومن زواية أخرى، يؤكد الدكتور محمد عزام، خبير تكنولوجيا وأمن المعلومات، على خطورة واقعة انفجارات أجهزة الاتصالات اللاسلكية، التي ضربت لبنان في وقت سابق من العام الحالي.
وأوضح "عزام" في حديثه لـ"دار الهلال"، أن تلك الخطورة تكمن في استخدام أجهزة اتصالات كأسلحة، ورغم أنها غير موصولة بالإنترنت، إلا أن ذلك لم يجعلها في معزل عن الاختراق، فاتصالها بـ"شبكة" كان كافيًا لحدوث ذلك.
وأضاف أن الاختراق لم يكن فقط من بوابة "الشبكة"، بل طال كذلك سلاسل الإمدادات عن طريق شركات وهمية، وذلك ما جعل المشهد يخرج على النحو الذي شاهدناه، معتبرًا تلك الحادثة من أبرز الأحداث التي شهدها عام 2024 الذي نودعه.
وبحسب خبير تكنولوجيا المعلومات، فإن العالم لم يشهد قديمًا ولا حديثًا عملية مشابهة لتلك، حيث جرى توظيف أجهزة اتصالات يومية بشكل يجعلها أشبه بالقنابل تنفجر في أيدي أشخاص "مدنيين"، مشيرًا في الوقت ذاته، إلى أن ذلك لم يتم إلا عبر توظيف تكنولوجيا متقدمة "جدًا" بزرع عبوات متفجرة صغيرة للغاية، واصفًا ذلك بالأمر "شديد الخطورة".
ولم يستبعد خبير تكنولوجيا المعلومات تكرار ذلك السيناريو مستقبلًا، موضحًا أن كل شيء في عصرنا هذا أصبحا ممكنا، وما كن فقط نتخيله أصبحنا نشاهده، فحادثة "بيجرز" كانت بمثابة خيال علمي في بادئ الأمر، لكن اليوم شاهدناها تحدث على الهواء مباشرة.