الأحد 5 يناير 2025

مقالات

اللغة العربية.. لغة تستحق أن ننتمي إليها

  • 2-1-2025 | 14:40
طباعة

ليس هذا العنوان من وحى الخيال، وليس أثرا من آثار العاطفة أو العصبية، بل إنه انتماء مؤسس على معايير موضوعية، وحقائق تاريخية، وخصائص كامنة في هذه اللغة، على نحو يسمح لها بالوجود والانتشار، والقدرة على النهوض بكل ما تقوم به اللغات الحية تجاه الناطقين بها.

وهى من الناحية التاريخية ذات تاريخ عريق موغل في القدم، حتى إنه ليصعب على الباحثين في تاريخ اللغات – على وجه اليقين التاريخ الذى ظهرت فيه، ولا الصورة الأولية التي نشأت عليها، ولا الروافد التي أعانتها على هذا الظهور، ولا النظام اللغوى الذى تميزت به على غيرها من اللغات التي تنتمى إلى اللغات "السامية" التي تدرج العربية بينها.

وقد توصل هؤلاء الباحثون- في تاريخها إلى نصوص مدونة بها، ترجع إلى نحو أربع مئة عام قبل ظهور الإسلام، أو قبل ذلك بقليل، ولكن هذا التاريخ لا يمثل العمر الحقيقى لها، لأن هناك نقوشا سابقة على هذه الفترة، تمثل اللغة في بداياتها الأولى، ولابد أنها مرت بأدوار من التطور، حتى استوت على سوقها لغة عبقرية، كثيرة الجذور والمفردات، دقيقة المعانى، محكمة القواعد، مكتملة الخصائص، قادرة على التعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية، في السلم والحرب، وفى النصر والهزيمة، والشدة والرخاء، والحب والكره، والخير والشر، وما يكون في النفس من فضائل ورذائل، وإعجاب بالجمال، ونفور من القبح إلى غير ذلك مما هو كامن في النفس الإنسانية، من كرم وبخل، وشجاعة وجبن، ووفاء وغدر، وفخر وهجاء، ثم هي كذلك قادرة على التعبير عن عناصر البيئة الطبيعية التي عاش المتحدثون بها في رحابها على نحو يدهش الباحثين الذين وجدوا فيها تعبيرا عن الحياة العربية بما فيها من شمول وتنوع وطرافة، وجاء ذلك كله في لغة محكمة شعرا ونثرا، لا يمكن أن يكون من بادئ الرأي؛ بل إنه لابد أن يكون ثمرة محاولات في الصياغة والتجريب والخبرة المتراكمة كما يحدث في سائر اللغات التي تتكامل رويدا رويدا، وتنتشر شيئاً فشيئا، ويكثر المتكلمون بها على التدريج، ويبذل المبدعون من أهلها جهودا كبيرة متصلة حتى تصل إلى مستوى يضمن لها -باستعمال أهلها لها- مستوى من الذيوع والانتشار والقبول، وهكذا الحال، مع اللغة العربية التي تطورت من كونها لغة أفراد، إلى أن تكون لهجات قبائل وجماعات، ثم إلى أن تكون لغة أقوام وأجيال، يلتف الناس حولها، ويتركون من أجلها لهجاتهم ويبدعون بها ما يعبر عن مشاعرهم وآرائهم وأفكارهم وحكمهم.

ويدلنا تتبع مسيرة هذه اللغة على أنه على الرغم من طول عمر هذه اللغة وعراقة محتدها لا تزال نصوصها باقية، معلومة مفهومة وأن أهلها يرجعون إليها ويتذوقون جمالها، وأن العلماء بهذه اللغة يدرسون نصوصها، ويشرحون غوامضها، ويستكشفون قوانينها ويؤلفون بها؛ بسبب ما تحقق لها من عناصر السعة والقوة والمرونة، ومغالبة العقبات، ومصارعة اللغات، كما أثبتت وقائع التاريخ الذى عاشته على مدى القرون.

وقد أتيح لهذه اللغة من الظروف ما ساعدها على البقاء والانتشار، وكان أكثر هذه الظروف تأثيرا: ارتباط هذه اللغة بالقرآن الكريم الذى أنزله الله- تعالى بلسان عربى مبين، فاستمدت اللغة من بقائه وخلوده- بوصفه دين الله الخاتم، للرسالات الإلهية- بقاءً وخلودا وشرفا يدفع المؤمنين به إلى الحرص عليها والاستمساك بها والدفاع عنها، وعندما انتشر الإسلام في أقطار الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا تركت شعوب هذه الأقطار لغاتها الأصلية، وتعلمت لغته العربية، وتفقهت فيها، وألفت بها وكان من عجيب أمر هذه الشعوب أنهم ألفوا وأبدعوا كتبا في اللغة والنحو والبلاغة والأدب، وكتبوا بها شعرا ونثرا، واعتزوا بها، وقال بعض علمائهم الكبار، لأن أهجى بالعربية خير من أمدح بالفارسية، وجعلوا الإقبال على تفهمها من الديانة؛ لأنها أداة العلم ومفتاح الفقه في الدين وفى ذلك يقول الثعالبى صاحب فقه اللغة إنه "لو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة- التي هي عمدة الإيمان – لكفى بها فضلا.

وتحولت اللغة من كونها لغة سكان الجزيرة العربية إلى أن تكون لغة عالمية، تجرى على ألسنة العرب والعجم، وتغلبت العربية على لغات أهل الأمصار الذين دفعهم إيمانهم بالإسلام والقرآن إلى تفضيل اللغة العربية على لغاتهم، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته "إنه لما خربت بعض الأمصار العظيمة أو نالها الضعف- كما حدث لبغداد والبصرة والكوفة ظهرت أمصار أعظم من تلك، ولم تكتف هذه الأمصار بأن تكون  خدمتها للعلم مقصورة عليها وحدها، بل إن العلم انتقل منها إلى عراق العجم بخراسان وما وراء النهر من المشرق، ثم إلى القاهرة وما وراءها من المغرب، وبهذا صارت اللغة العربية لغة الدولة الإسلامية، التي كانت في قرون كثيرة تمتد من بعض أقاليم الصين والهند شرقاً إلى أواسط آسيا والشعوب التي خضعت – فيما بعد – للاتحاد السوفييتي، ثم تمتد من قلب العالم الإسلامي في شبه الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر إلى شمال إفريقيا والأندلس غرباً، وقد دهش من ذلك بعض الباحثين الغربيين الذين قالوا إن العربية التي كانت لغة قبيلة أصبحت في غضون قرن من الزمان لغة عالمية، وأنها جانست بين سكان القارات الثلاث، وخلقت منهم خلقاً متجانساً ذا طابع واحد خاص وحتى غير العرب مثل الترك والسلاجقة والمماليك والتتار عندما آل إليهم السلطان خضعوا – جميعهم – لحماً ودماً للثقافة الإسلامية واللغة العربية ثم ازدادت اللغة العربية قوة وانتشاراً واستعمالاً عندما اتجه أصحابها إلى ترجمة تراث الأمم السابقة للعرب في شئون العلم والحضارة، وكانت حركة الترجمة هذه من كبريات حركات الترجمة التي وقعت في التاريخ القديم إن لم تكن أكبرها، وقد ترجمت فيها علوم الهند والفرس واليونان والسريان وغيرهم، ووصفها ول ديورانت مؤرخ الحضارة المشهور، بأنها من أجل الحوادث وأعظمها في تاريخ العالم، ونقلت هذه الترجمة علوم العالم في الطبيعيات والفلك والطب والكيمياء والصيدلة والبيطرة والرياضيات كالحساب والهندسة إلي اللغة العربية ثم نقلت معارف أخرى في المنطق والفلسفة والنحو والأدب، وقد تعلم العرب والمسلمون هذه العلوم وأجادوا معرفتها، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى تقويم ما كان خاطئاً فيها، وأكملوا ما كان منها ناقصاً، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى إبداع علوم ومناهج جديدة كعلم الجبر والمنهج التجريبي، وأصبح العالم الإسلامي هو موطن العلم الأول في العالم كله، وأصبح الناس يأتون إليه من أوروبا ومن غيرها ليتعلموا فيه وينهلوا من علمه، وأصبحت العربية لغة العلم الأولى في العالم كله مدة تزيد على خمسة قرون وسطعت في سماء العلم والحضارة أسماء علماء كبار في العلوم المختلفة والفلسفة، كالكندى والفارابي وابن سينا وأبي بكر الرازي والزهراوي وابن الهيثم وابن رشد، ودرست بعض هذه العلوم بالعربية في أوروبا نفسها، باعتراف المنصفين من مؤرخي العلم والحضارة في العالم، والشواهد على ذلك كثيرة منها شهادات علمائهم من أمثال سارتون، ولوبون وول ديورانت وهونكه وسيديو، ومن قبلهم روجر بيكون الذي يوصف بأنه أمير الفكر في العصور الوسطى وأمثاله ممن شهدوا بما في اللغة العربية من ثروة علمية ومنجزات حضارية، وكانوا يستحثون المترجمين لديهم أن يواصلوا ترجمتهم لما حملته اللغة العربية من المعارف والعلوم التي لم تقتصر على ما ترجمه العرب من تراث الأمم، بل أضيف إليه ما أبدعه العرب والمسلمون من منجزات ومعارف ثمينة.

وإذا كان المقام يضيق عن ذكر هذه الشهادات فلعله يسمح بواحد منها وهو سيديو الذي خصص في كتابه عن تاريخ العرب العام عشرات من الصفحات في بيان مآثر الحضارة العربية، ختمها بقوله: أينما تولوا فثم العرب، يسبقوننا بإبداعاتهم النافعة والصناعة المتقنة للحضارة المتقدمة، فإذا كنا قد أخذنا عنهم الجبر والهندسة وعلوم الطبيعة وعلم الحركة (الميكانيكا) وإذا كنا ندين لهم بالأرقام والنظام العشري والبوصلة والبارود، وغير ذلك فليس هناك ما يثير الدهشة عندما نرى عندهم المدارس والمجامع والعلاقات في الرياضيات التي صنعت أمجاد العصور الحديثة وقد أثبتت اللغة العربية كفاءة عالية في التعبير عن المعارف العلمية في كل تلك العلوم، فلم تعجز عن أن تكون لغة للطب ولا لعلوم الطبيعة والرياضيات وقد كانت رياضيات الكندي والخوارزمي وفلسفة الفارابي وابن سينا وابن رشد وكتاب الحاوي للرازي الطبيب وكتاب القانون لابن سينا وكليات ابن رشد والناظر لابن الهيثم تأخذ موقعها ومكانتها في مراكز العلم ومؤسساته في أوروبا قروناً عديدة، بلغتها العربية أو بترجمتها إلى اللاتينية وبهذا لم تعد اللغة العربية لغة العالم الإسلامي وحدها بل أصبحت لغة علم وفلسفة في كثير من حواضر العلم في أوروبا وفي غيرها.

وليس المقصود من إيراد هذه الحقائق أن نتوقف عند تقرير هذا المجد الذي استحقته اللغة في تاريخها العريق، ولكنا نقوله تذكيراً به تبرئة لهذه اللغة من وصفها علي ألسنة بعض أهلها بالعجز والبداوة أو بأنها – في أحسن الأحوال – لغة أدب وشعر، وأنها لا صلة لها بالعلم والحضارة والازدهار والتطور، وأن الانتماء إليها سيعيدنا إلى الوراء قروناً عديدة، وأنها لا تصلح أن تكون لغة علم حديث أو معاصر وهذه أحكام جائرة لا تعرف كل هذا التاريخ العلمي والحضاري الطويل وفيها الكثير من القسوة والظلم لها والعدوان عليها، والتجاهل لتاريخها وهي من ذلك كله براء.

ثم إن التذكير بهذا التاريخ العريق قد يوقظ في بعض أبنائها مشاعر من الغيرة والحمية لها والانضواء تحت لوائها، ومن ثم يسعون إلى بذل الجهود لمواجهة التحديات التي تواجهها من بعض بنيها ومن خصومها الذين يسعون بطرق ممنهجة لإزاحتها عن ألسنة أهلها والحلول محلها، والترويج للغاتهم أو للهجات العامية التي لا حصر لها في العالم العربي، وبذلك يسقط الأمر الجامع الذي يربط العرب جميعاً بلغة واحدة هي الجامعة لهم وفيها تراثهم وتاريخهم الذي يجب عليهم أن يتمسكوا به، وأن يحرصوا عليه وفاء لماضيهم، وحرصاً على مستقبلهم، حيث إن اللغة مقوم عظيم من مقومات الهوية، وبغير هذه اللغة يهدد العالم العربي أن يتحول إلى قبائل وفصائل وعصبيات كما كان الحال قبل الإسلام.

ولا يغيب عن بال المنتمين إلى العربية واستعمالها والتمكين لها وتوطين العلم فيها وتحويلها إلى لغة حياة وثقافة وإبداع وتواصل وتطور ومعاصرة لا يغيب عنهم أن اللغة العربية تواجه تحديات كبرى من داخل المجتمعات العربية ومن خارجها، وهي تحديات لو وجهت  إلى غيرها من اللغات لما استطاعت مقاومتها، ولأدت إلى إضعافها وانحسارها، ولكن اللغة العربية تتضمن من عناصر القوة ما يعينها على البقاء والمقاومة.

ولعلنا – فيما تبقى من المساحة المخصصة – نشير في إيجاز إلى شيء من هذه التحديات الموجهة إليها، ومنها:

إن هذه اللغة الفصحى لا تكاد تسمع في كثير من الأرجاء، ولا تكاد تتداول على الألسنة، فالطفل لا يسمعها في البيت ولا في المدرسة، ولكنه يسمع لهجة عامية أو لغة أجنبية، حتى دروس اللغة العربية لا تدرس بها بل تدرس بالعامية إلا في أقل القليل، والناس لا يستعملونها ولا يستمعون إليها في الإعلام، إلا قليلاً، ولا يشاهدونها على اللافتات في الشوارع ولا على المحال، ولا يأخذون بها الوثائق من البنوك، ولا من شركات الطيران، وما يقدم في المدارس من مناهجها – وخصوصاً في المدارس الأجنبية لا يكسب مهارة الحديث أو الكتابة بها، ثم هو في كثير من كليات الجامعة لا يلتقي بها، ولا يدرس كثيراً من مقرراتها وموادها، بل تحل محلها لغة أو لغات أجنبية، وهو لا يعرف شيئاً عن تاريخها ولا من أدبها والكلام عن غيابها في مجالات الحياة على اختلافها يطول ومن المقرر في تعليم اللغات أنها تقوم من اكتساب المهارة فيها على السماع لها فإذا لم يكن هناك سماع لها فلن يتسنى اكتسابها، ومعالجة هذه المعضلة تتأتى بإصلاح مناهج تعليم اللغة، وتحقيق ما يسمي عند أهل اللغة الغمر اللغوي الذي يتيح سماع ألفاظها والتعود على طرق التعبير بها والتدرب على استعمالها، وإتاحة الفرصة الكاملة لتعلمها، وعدم مزاحمة اللغات الأجنبية لها، وغرس الانتماء لها في عقول أهلها كما تفعل كل الشعوب مع لغاتها بحيث تكون مسموعة في المدرسة والإعلام والمسجد والكنيسة والمؤتمرات العلمية ومحاضرات الجامعة وعلى ألسنة الخطباء والأدباء والمبدعين وليس هذا بغريب لأن هذا هو ما تفعله الشعوب للغاتها حتى إنهم ليسنون القوانين التي تحرم وتجرم كل من لا يستعملها أو يتهاون بها أو يفضل عليها لغة أخرى.

ويتطلب ذلك أيضا أن تأخذ اللغة حقها ومكانتها في التدريس في الجامعات وفي البحث العلمي حتى لو تم ذلك على التدريج وأن يراجع بعض الأساتذة أنفسهم عندما يتهمون اللغة بالعجز والتخلف بل إن بعضهم يرى أن استخدامها في التعليم الجامعي يمثل ردة حضارية، وأن من هؤلاء من يستنكر على الدولة أن تنفق على تعليمها وأن التدريس بها يعد جهدا ضائعاً لا طائل من ورائه، وهذا ما لا يتصور أن يقوله أحد عن لغته حيث تعتز كل الشعوب بلغاتها ولا تقبل أن تحل لغة أخرى محلها بل انها على العكس من ذلك تسعى إلى نشر لغاتها في بلاد غير بلادها.

أما نحن فإن لدى البعض منا مشاعر سلبية تجاه هذه اللغة التي حملت علم الأمم جميعا قرونا عديدة كما سبق القول لكن علماءها ومبدعيها في ذلك الزمان البعيد كانوا يتشرفون بها ويبذلون في سبيل رفعتها ونشرها كل جهد مستطاع وقد سبقت الإشارة إلى أن الإقبال على تفهمها من الدين، وأن هؤلاء الذين ترجموا تراث الأمم إلى لغتهم كانوا يعتزون بها وبها كتبوا وألفوا وأبدعوا ولم يقل أحد منهم إنها عاجزة عن حمل المضامين العلمية في العلوم المختلفة التي لم يكونوا -قبل الترجمة على علم بها، ثم إن تدريس الطب كان يدرس في  قصر العيني عند إنشائه باللغة العربية وكان الذي تولى ذلك هو كلوت بك الفرنسي الذي لامه قومه الفرنسيون لأنه لم يدرس الطب بالفرنسية وقد ظل تعليم الطب بالعربية إلى أن دخل الإنجليز مصر فحولوا التعليم فيه وجعلوه بالإنجليزية.

ولا يغيب عن بال المنتمين إلى اللغة العربية الحريصين عليها أنها تواجه تحديا لعله أشد الصعوبات التي تواجهها وهو تحدى التقنية أو التكنولوجيا وهو الذي يقتضي أن تتحول اللغة العربية إلى لغة حاسوبية لأن اللغة المحوسبة هي لغة العصر وهى اللغة التي تستعملها الدول المتقدمة التي تصنع العلم وتتسابق في مضماره ولا شك أن حظ العربية لايزال قليلا حتى الآن- وليس ذلك لعجز في اللغة بل إنه يأتي ثمرة للعجز الذي يشهده العالم العربي كله في مجال التقنية وهم لا يبذلون في هذا الصدد مثل ما تبذل الأمم المتقدمة التي تصنع العلم، وتصنع أدواته وتنفق على المبدعين فيه إنفاقا كبيراً وهي لا تكتفي لتحقيق هذا التقدم بمجهود أبنائها فقط بل إنها تستقطب أبناء الشعوب النامية وتقدم لهم من المزايا ما يدفعهم إلى الهجرة إليها والإقامة فيها والمشاركة في مشروعاتها وهذا كله ليس متيسرا لدى الدول النامية ومن ثم تضطر إلى انتظار ما تمن عليها به الدول المتقدمة التي لا تبوح بكل أسرارها ولا تكشف عن كل منجزاتها وبدلاً من أن يقوم من أتيحت لهم فرصة التعليم في تلك البلاد الأجنبية بالعودة إلى أوطانهم لتأسيس بنية علمية فيها يقنعون بالإقامة في البلاد التي درسوا فيها والانخراط في مشروعاتها، على حين تحرم أوطانهم منها، وحتى الذين يعودون إلى أوطانهم لا ينقلون ثمرة علمهم إلى اللغة العربية بل إنهم يدرسون- في أوطانهم باللغة الأجنبية التي تعلموا بها، وهذا يؤدي إلى فقر المحتوى العلمي للغة العربية نتيجة لهذه الظروف كلها، وليس السبب في هذا الفقر هو عجز اللغة ذاتها ولكنه ناشئ عن هذا التصرف الخاطئ أو الظالم الذى يقفه بعضهم من اللغة العربية حتى تقع في تلك العاهة الحضارية كما يقول الأستاذ نبيل علي أحد كبار المتخصصين في دراسة الحاسوب وأحد كبار الداعين إلى استعمال اللغة العربية في مجالات التقنية، لكن دعوته هذه لن تتحقق إلا بجهد العلماء وتحقيق الانتماء وبعناية الدول وتحسين مستويات التعليم وتوفير التمويل الكبير الذى تحتاج إليه التقنية الحديثة التي تؤدى إلى التخلص من التبعية وتحقيق الاستقلال والقوة العلمية في عالم لا يحترم إلا الأقوياء.

الاكثر قراءة