هناك بعض العبارات تتردد كثيرًا وبإلحاح، ومع التكرار تأخذ شكل الحقيقة أو ما يقترب من الحقيقة، حتى لو لم تكن كذلك، بل حتى لو كانت عكس الحقيقة تماما، من ذلك العبارة الصارخة حينا والباكية
أو المتألمة حينا آخر أن اللغة العربية في خطر وأنها مهددة بيننا!!
كتاب يصيحون.. نواب في البرلمان يهددون بتقديم طلب إحاطة إلى وزير بعينه أو أكثر وربما إلى رئيس الوزراء نفسه حول تراجع وانهيار اللغة العربية.
أما وجهة النظر والتهديد الذى يراه هؤلاء هو أن بعضًا من أبناء المدارس الأجنبية يستعملون في مكاتباتهم لغة غير العربية، ومثل أن بعض الكليات يتم التدريس فيها باللغة الإنجليزية، كليات الطب والهندسة والعلوم.. ويصل بعضهم إلى الحديث عن اللغة العامية أو اللهجات المحلية ويعدونها تهديدًا للغة العربية الفصحى.
وإذا نحينا الانفعال جانبا والحماس الزائد وربما الرغبة في المزايدة لوجدنا أن اللغة العربية في مصر –الآن– تعيش حالة من الزهو والازدهار، ليس الآن فقط، بل طوال القرن العشرين وربما قبله أيضا.
ظهرت الصحف العربية في القرن التاسع عشر وانتشرت على نطاق واسع وفى القرن العشرين وجدت الإذاعة الرسمية أو الحكومية، ويمكن القول إن الصحافة قربت إلى حد كبير المسافة بين العامية والفصحى، خلقت ما كان توفيق الحكيم يطلق عليه اللغة الثالثة، أي الحديث بالفصحى المبسطة غير المغرقة في التعقيد وقريبًا من العامية.. وقد خلصت العديد من الدراسات إلى أن 80 بالمائة من كلمات العامية هي عربية فصحى، لكنها تنطق بيسر وسهولة حيث يتم استبدال بعض الحروف ثم جاء انتشار التعليم وتوسعه ليرفع مستوى استعمال اللغة الفصحى أو القريبة منها في حياتنا اليومية.
والمعروف أن اللغة العامية، وهى ليست لغة خاصة، لكنها عربية تنطق بيسر وتبسيط شديدين، عرفت منذ القرن الثالث الهجري، أي أنها ليست جديدة ولا حديثة، ومن يراجع كتاب ابن إياس المؤرخ المصري المشهور، بدائع الزهور سوف يجد أنه يكثر من استعمال العامية المصرية، هو عاش في القرن السادس عشر الميلادي، العاشر الهجري، وهو الذى أرخ لنا دخول سليم الأول مصر سنة 1517 وسقوط دولة المماليك.
عبد الرحمن الجبرتى الذى عاش الحملة الفرنسية على مصر ودون لنا يومياتها بدقة شديدة وعاش كذلك صعود نجم محمد على واليًا على مصر. استعمل الكثير من الكلمات العامية في كتابه "عجائب الآثار" وقتها لم يكن يتم التعامل مع العامية بهذا الهلع الشديد ولا رأى فيها كتاب ذلك الزمان خطرا محدقًا على اللغة العربية أو مؤامرة على الهوية العربية.
مع انتشار لغة أو مفردات الصحافة والإعلام ومع ارتفاع مستوى التعليم ارتفع مستوى العامية، وهى في كل الأحوال لا تشكل خطرا على اللغة العربية.
اللغة العربية قوية، ولا شك في ذلك، هي لغة القرآن الكريم ومن ثم فإن وجود الكتاب المقدس بها، يضمن لها الاستمرار والحيوية، العلوم الإسلامية معظمها باللغة العربية، ومن يدرس الإسلام، دراسة وافية لا بد له من العودة إلى تلك اللغة، لذا درسها وتكلم بها كثير من المستشرقين، وهذه اللغة بعد الإسلام أمكن لها استيعاب جميع العلوم الحديثة في ذلك الزمن.. حيث أقبل العرب والمسلمون على اللغة اليونانية والسريانية والفارسية والهندية يترجمون عنها، وتقبلت العربية ذلك، ولما دخل الفرس الإسلام وكانت لغتهم معهم، استوعبت اللغة العربية ذلك واجتذبت عددا كبيرًا للكتابة بها، مثل ابن سينا وغيره، كتاب الشفاء في الطب لابن سينا كتب بالعربية.. باختصار أمكن لهذه اللغة أن تستوعب هذه العلوم المتقدمة جدا في وقتها، وإذا كنا نرى اليوم من يدرس ويتعلم بالإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية والصينية مؤخرًا، فهذا كله لا يهدد لغتنا العربية.
القرآن الكريم به عدة مفردات تعود إلى لغات أجنبية، حددها الدارسون والمفسرون، والمعنى هنا أنه لا غضاضة من استعمال بعض تلك المفردات التي ترد علينا أو من الثقافات واللغات الأخرى.
بالتأكيد نحن نتفهم ونقدر المخاوف على اللغة والقلق بشأنها، هو شعور وطني وقومى وإنساني يستحق أن نحترمه ونقدره، حتى لو كان فيه مبالغة، ولكن هناك البعض الذين يعشقون جلد الذات والسخرية من اللغة العربية، على طريقة دكتوراه في "حتى"، أو على طريقة تلك السخرية التي انتشرت في مطلع الخمسينيات حول تعريف المجمع اللغوي لكلمة ساندوتش شاطر ومشطور وبينهما طازج فقد ثبت أنها كانت محاولة للتشنيع على المجمع من كاتب حلم بأن ينال عضوية المجمع ولكن لم تنطبق عليه الشروط، فقرر الانتقام بالمكايدة، ومن الغرائب أن تلك الأكذوبة وصلت إلى مسامع الملك فاروق فاستفسر عنها، وتبين أن المجمع اعتمد كلمة ساندوتش ولم يقدم لها ذلك التنويه المضحك والمخل.
ومع تطور العلوم والنظريات الحديثة تتطور اللغة وتتجدد، مثلا حتى نهاية القرن التاسع عشر لم تعرف العربية كلمة "ثورة" بمعناها السياسي الذى نعرفه، كانت تعرف فقط كلمة فتنة لذا تحدث الطهطاوى في رحلته إلى باريس عن الفتنة الفرنساوية وكان يقصد بها الثورة الفرنسية، وهكذا مصطلحات جديدة في مختلف جوانب المعرفة والعلوم تصاف إلينا، وتبين أن لغة الضاد قادرة على الاستجابة لها والوفاء بها، المهم أن يكون لدينا من يدرك ويبحث جيدا، والحق أن مجامع اللغة تقوم بجهد يحسب لها، خاصة المجمع اللغوي فى القاهرة.
في عالمنا العربى، الصلوات في معظم الكنائس تتم باللغة العربية، الكتاب المقدس لدى المسيحيين العرب، وشروحه متوفرة باللغة العربية.
في المجتمعات العربية، يوجد المسلم والمسيحى واليهودى، ويوجد العربى وغير العربى، باختصار مجتمع متعدد ومتنوع دينيا ومذهبيا وعرفيا، دعك من كل الدعايات السياسية البغيضة حول مجتمعاتنا، والتي تسمها بالشمولية وحكاية الاستبداد الشرقى، هذه كلها كانت مبررات وأسانيد لتسويغ الاستعمار، لكن المجتمع الذى يتعايش فيه هذا العدد الكبير من المذاهب والطوائف الدينية والعرقية، هو مجتمع في أعماقه يحمل ثقافة التسامح والتعدد، المشترك الجامع لهذا التنوع هو اللغة العربية، حاتم الطائي رمز الكرم والشاعر المعروف كان مسيحيًا، امرؤ القيس كذلك، هي لغة حية.
ولم تكن هيئة الأمم المتحدة تجامل العرب حين قررت اعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية بها وانتشار أقسام الدراسات العربية واللغة العربية في كبريات جامعات العالم يؤكد أهمية وحيوية وقوة لغة الضاد.
وهناك كلمات ومصطلحات عربية، يمكن أن تسمعها من كبار زعماء العالم ومفكريه تتردد بانتظام في مناسبات مختلفة، مثل السلام عليكم.. إن شاء الله وغيرها وغيرها، تسمعها في الولايات المتحدة وفى روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا، ومع العولمة والتوسع في الهجرات بين الدول والمجتمع.. تنتقل اللغة وتجد لها مكاناً في المجتمعات الجديدة.. زال الاستعمار الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الاهتمام باللغة العربية والثقافة العربية ازداد واتسع نطاقه، وفى ذلك ما يدعو إلى الاطمئنان.
الأستاذ العقاد له كتيب، صدر في المكتبة الثقافية، مطلع الستينيات يخبرنا فيه أن الثقافة العربية أقدم من الثقافة اليونانية بل وحتى العبرية، وقد أثار ذلك ضجة وقتها بين النقاد، لكنه وجد من يسانده بين الدارسين الغربيين، ومن يراجع قوة الشعر الجاهلى، يدرك قدم وعمق هذه اللغة وتلك الثقافة، وقدرتها على التطور واستيعاب الجديد.
حين ظهر الإسلام لم تكن اللغة العربية عرفت بعد الكتابة النثرية، كانت هناك طبعا بعض الحكم العربية وأحاديث الناس في حياتهم اليومية، وكان الشعر هو مناط قوتهم وتميزهم، وكان القرآن الكريم تحديا كبيرا لهم، من عدة وجوه، مثل الحديث عن وقائع تاريخية قديمة وقصص الآخرين ومثل بعض التنبؤات التي تحققت بالفعل، مثل انتصار الرومان على الفرس فى النهاية، ولكن كان أحد جوانب التحدى هو أنه ليس شعرا، بل نثرا، العرب ما كانوا يكتبون النثر ومع القرن الثانى الهجرى بدأ النثر الأدبى والفنى في الظهور، ثم تطور النثر العربى مع الجاحظ والتوحيدى ثم ابن خلدون والمعرى، فضلا عن أعمال كبار العلماء والفقهاء.. اللغة التي تحتل وتستوعب كل ذلك لغة قوية.. لذا لا يجب أن ننزعج مما يراه بعضنا الآن.
الدستور المصرى ينص على أن اللغة العربية هي اللغة القومية للبلاد، والتعليم في المدارس والجامعات الرسمية يتم باللغة العربية، وقبل كل ذلك وبعده وجود القرآن الكريم والأحاديث النبوية باللغة العربية، تضع هذه اللغة في أمان.. وهناك كذلك المجامع اللغوية، في كل بلد الآن تقريبا – مجمع - وهذه المجامع تضيف إلى اللغة سنويا مفردات جديدة بالأحرى تعتمدها- اللغة تستوعب كل ذلك، سلسلة القواميس التي أصدرها مجمع اللغة العربية بالقاهرة تؤكد ذلك.
إذن.. هل هناك مشكلة وأين تكمن؟
نعم لدينا مشكلة يساء التعبير عنها، وهى أننا لا ننتج ولا نقدم اختراعات وصناعات جديدة، تنسب إلينا ويتم تسميتها باللغة العربية، فاتنا العصر الصناعى وما بعده، وتظهر العلوم بلغة من يكتشفها ويقدمها، المشكلة إذن ليست في اللغة، ولا شأن للعربية بها، المشكلة هي كيف نتجاوز تلك المرحلة ونصبح مساهمين في العلوم الحديثة بكل تقنياتها وأدواتها.
اللغة العامية لا تهدد لغتنا وتعلم لغة أجنبية يمكن أن يكون رصيدا مضافا لنا لا ينتقص منها، حجة الإسلام أبو حامد الغزالى لديه رسائل كتبها بالفارسية، ولم يقل أحد وقتها أن اللغة العربية مهددة ولا في خطر، ومع الأيام نقلت تلك الرسائل إلى العربية.
القرآن الكريم موجود.. تراثنا الشعرى والأدبى والفكرى قائم، اللغة العربية منذ القرن التاسع عشر استوعبت فنونا جديدة من التعبير مثل القصة القصيرة والرواية والمسرحية والمقال السياسى وغيرها وغيرها. القلق ليس من اللغة ولا عليها بل على عدم مساهمتنا فى العلوم الحديثة.