الأربعاء 8 يناير 2025

مقالات

قَبَسٌ من أسرار اللغة العربية الشريفة


  • 4-1-2025 | 16:27

أ. د. سلامة جمعة داود

طباعة
  • أ. د. سلامة جمعة داود

الحمد لله الذي كرمنا بأن جعلنا من الأمة التي أنزل القرآن العظيم بلسانها العربي المبين، وشرف ألسنتنا بأن تنطق بالحروف التي اختارها واصطفاها للغة كتابه، وله الحمد والثناء الحسن أن جعل الأزهر الشريف من خدام هذه اللغة الشريفة المتعبدين في محرابها، المتقربين إلى الله جل وعلا بالبحث في أسرارها؛ وامتن على من وهب حياته للعلم بها بأن فتح له أبواب الفقه في أسرار التنزيل وأنوار التأويل في لطائف الكتاب العزيز، فخشع قلبُه عند إدراك كل سر مكنون، ورق فؤاده حين طافت به كلُّ لطيفة، اللهم لك الحمد على هذه النعم التي لا نوفيك حق شكرها وإن قمنا لك العمر ركعا سجدا. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي العربي الأمي القرشي الهاشمي، الذي أخبر عن نفسه بأنه أفصح العرب؛ فقال «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش»، فلم يرض صلى الله عليه وسلم أن يؤثر نفسه بصفة الفصاحة حتى وصف بها قومه، وإن احتفظ لنفسه بالعلو والريادة والزيادة فوصف نفسه بالفصاحة مرتين، ووصف قريشا بها مرة واحدة. اللهم كما أنطقت ألسنتنا بلسانه وجمعت قلوبنا على محبته؛ فلا تحرمنا شرف صحبته في جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ونعيمٍ مقيمٍ لا يَحُولُ ولا يَزُول.

إن هذه اللغةَ الشريفةَ قد أودعها الله جل وعلا من الأسرار ما تَفْنى الأعمارُ في كشفه ولا يَفْنى، ولا يُدرَكُ شىءٌ من ذلك إلا بالتدبر وطول النظر وكثرة المناقشة، وكان الإمامُ عبدُ القاهر الجرجانيُّ يرى أن ذلك لا يُنالُ إلا "بسَفَرِ الخاطر"، وهي كلمة جليلة جدا، ومِنْ قَبلِه قال لسانُ الأمة القاضي أبو بكر الباقلانيُّ إن إدراك ذلك لايكون إلا "بسكون طائر وخفض جَناح"، وهذه الكلمات ونظائرُها كثير، وفيها من سداد المنهج العلمي في البحث والدرس نظيرُ ما فيها من حسن العبارة وروعة التصوير، وهي كلمات جرت كأنها الأمثال السائرة، وقل في حسنها وسدادها ما شئت.

  ومن لطائف هذه اللغة أن تعبر حروف الكلمة عن معناها تعبيرا وتصورَه تصويرا، ومن المشهور في ذلك لفظ "بَلَعَ" فهو يصور بحروفه حركة اللقمة فى الفم؛ وهذا يحكيه البدأ بالباء لأنها من الشفتين، واللام من اللسـان الذى يلوك اللقمة، ثم العين الحلقيـة التى تنزلق بعدها اللقمة من البلعوم إلى مستقرها بالمعدة، وضدها "نَبَذَ" تدل بمخارج حروفها على إلقاء الشىء وطرحه كاللقمة تلفظها من فمك، فالنون من احتكاك اللسان بسقف الحنك تحكى التأهب لإخراج اللقمة ثم الباء تحكى وضعها على الشفتين ثم الذال تحكى دفعها بقوة خارج الفم، وذكر السكاكى من هذا كلمتى "الثَّلْمِ" و"الثَّلْبِ" الأولى بالميم الذى هو حرف خفيف بين الشدة والرخاوة لخلل فى الجدار، و"الثَّلْبِ" بالباء الذى هو حرف شديد للخلل فى العِرْض، قال البابَرْتِى "لأن الخَلَلَ فى العِرْضِ أَشَدُّ وأشقُّ من الخَلَلِ فى الجِدار"(1)، وذكر منه السكاكى أيضا "الزفير" بالفاء لصوت الحمار، و"الزئير" بالهمز الذى هو شـديد لصـوت الأسـد(2)، وهذا باب عريض، لاتزال تطلع منه على لطيفة، ومنه ما ذكره بعض أهل العلم أن اسم الجلالة "الله" أوله الهمزة وآخره الهاء وهما حرفان حلقيان إشارة إلى أن البداية منه والنهاية إليه، فقيل له لم لا تقيد هذه الخواطر فتمثل بقول الشاعر: 

تألَّقَ البَرْقُ نَجْدِيًّا فقُلْتُ له: يا أيُّهَا البَرْقُ، إنِّى عَنْكَ مَشْغُولُ!

وكم ضاع من العلم من مثل هذه الخواطر التي لم تُقَيَّد.

ولابن يعقوب المغربى كلام جيد قال فيه "إن من راعى هذه المناسبات عليه أن يضع ما يشتمل على حروف فيها رخاوة أى لين وسهولة لمعنى فيه رخاوة أى لِيْنٌ وسهولة، كالفَصْمِ بالفاء الذى هو حرف رَخو، وُضِعَ لكسر الشىء بلا بينونة لأنه أسهل مما فيه بينونة؛ ولذلك وُضِعَ له القَصْمُ بالقاف الذى هو حرف شديد؛ لأن الكسر مع البينونة أشد"(3)، قال العلامة الدسوقى "ولا يخفى أن اعتبار التناسب بين اللفظ والمعنى بحسب خواص الحروف والتركيبات إنما يظهر فى بعض الكلمات، وأما اعتباره فى جميع كلمات لغة واحدة فمتعذر، فما ظنك باعتباره فى كلمات جميع اللغات،فهل وضع الباب لمعنى والناب بالنون لمعنى آخر، ولو عُكِسَ لم يَمْتَنِعْ؟"(4)، ولا أُعَكِّرُ عليه، إلا أن كلمة "باب" أراها مناسبة لمعناها وممثلة له بمخارج حروفها فالباء من مقدَّم الشفتين وكذا الباب فى مقدم البيت، والباء المفتوحة فى أوله تحكى انفتاح الباب للدخول، وسكونها فى آخر الكلمة عند الوقف عليها ينشأ عنه انطباقُ الشفتين وإغلاقُهما، وهذا يحكى إغلاق الباب بعد الدخول؛ ولهذا لايستقيم أن يوضع لفظ "ناب" موضع "باب"، وهذا اجتهاد ولم أقف فيه لأهل العلم على شىء، وقول العلامة الدسوقى "إن اعتبار هذا التناسب فى جميع كلمات لغة واحدة متعذر"؛ من حقه علينا أن يستنفر عقول الباحثين فى أقسام أصول اللغة  والأصـوات لاستقصاء ما يلج فى هذا الباب من ألفاظ اللغة وما يخرج منه، وهذا خير ألف مرة من تلك الموضوعات المكررة التى يدخل فيها اللاحق على السابق .

 ومن لطائف اللغة ما ذكر سيبويه من أن اسم كان لا يكون نكرة؛ لأن الخبر حُكْمٌ عليه، والحكم لا يكون إلا على شىء معروف؛ ثم قال سيبويه  "وقد يجوز في الشّعر في ضعف من الكلام" انتهى، وقال السيرافي في توجيه الحكم بالضعف "سوّغ ذلك في كان أن الاسم فيها هو الخبر، فإذا قلت: "كان قائم زيدا" فزيد هو القائم الذي قد نكرته، فتعرّف المنكور بتعريفك زيدا؛ إذ كانا لشيء واحد، فكأنّك تعرّف المخبر عنه بمعرفة خبره، وكان ضعفه أنك لم تعرف بنفسه، وحكم الاسم يُعَرَّف بنفسه، ثم يُستفاد خبرُه" (١)، وهذه كلمة عالية جدا وحكمة سديدة جدا في قانون اللغة، وينبغي أن تكون كذلك في حياة الناس؛ لأن لغتهم جزء منهم، بيان ذلك أن الأصل أن اسم كان يكون معرفة بنفسه لا باكتسابه التعريف من خبرها؛ فإن تعريفه حين يكتسب التعريف من خبرها عجز وضعف في اسمها أن لم يكن معرفة بنفسه، بل كان عالة على الخبر؛ ولذا حكم سيبويه على وقوع اسمها نكرة بأنه ضعيف، وإذا كان هذا في اللغة فإنه ينبغي أن يكون هذا الوصف في أهلها؛ فكل فرد فيها ينبغي أن يكون معرفة بنفسه معتمدا على ذاته، لا ينتظر أن يكتسب شرفه وتعريفه ومقامه من أحد، ولا ينبغي أن يعتمد على أحد، ما دام قد شب عن الطوق، فينبغي أن يكون اعتماده على نفسه  وهكذا تتناغم اللغة مع أصحابها.

  ومن لطائف هذه اللغة أيضا أنها صُورةٌ لما استقر في طباع أهلها وأخلاقهم؛ ومن دلائل ذلك أنه يَتَرَجَّحُ في لغتهم حَمْلُ اللفظ على ما يُجَاوِرُهُ في الإعراب، مع أنه يحتمل إعرابًا آخر مخالفًا لجارِهِ؛ ففضلوا موافقة اللفظ لجاره في إعرابه، وكَرِهُوا مخالفتَه له؛ فصار للجوار حَقٌّ واجبٌ في اللغة؛ كما أن له حقا واجبا عند أصحاب اللغة؛ فهي لُغَةٌ تَحْتَرِمُ الجِوَارَ؛ ولهذا رَجَّحَ سيبويه قولَك:

"ليس زيدٌ بجبانٍ ولا بخيلٍ" بجر "بخيل"؛ لأن جاره القريب وهو لفظ "بجبانٍ" مجرور؛ فيتطابق الجاران في الجر ويتوافقان ولا يختلفان؛ ولذا جعل سيبويه الجر هنا هو الاختيار، مع أنه يجوز أن تقول: "ليس زيدٌ بجبانٍ ولا بخيلا" بنصب "بخيلا" عطفا على محل المعطوف عليه "بجبان"؛ لأن محله النصبُ خبرُ "ليس"؛ قال سيبويه في ترجيح الجر (أنْ يكونَ آخِرُه على أَوَّلِهِ أَوْلَى)"(١)، راعى سيبويه والنحاةُ حق الجوار، وجعلوا له في قواعد النحو أصلا؛ لأنهم وجدوا ذلك هو الغالب في لسان العرب ولغتهم؛ فرصدوا هذا الأصل الذي يحترم حق الجوار؛ لأن العرب قد استقر في طباعهم وأخلاقهم وشمائلهم احترام حق الجوار؛ وكأن الجار الذي يؤذي جاره تتبرأ منه طباعُ العرب وأخلاقُهم، كما تتبرأ منه اللغة التي ينطق بها ويتكلم بها؛ ويا له من تنافر وتناقض حين تتنكر لك اللغة التي تنطق بها وترفض إيذاءك لجارك.

وأختم كلمتي بهذه اللطيفة، مع أن كلامي في حضرة الشيوخ الأكابر لا يصح إلا إذا صح التيمم مع وجود الماء، قال بعضهم إن الفعل المضارع يبقى حرا طليقا ما بين الرفع والنصب والجزم حتى تتصل به نون النسوة فيبنى معها على السكون، فوقع في نفسي أنه بني معها على السكون لأن المرأة خلقت سكنا للرجل؛ قال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا" (الأعراف 189).

أخبار الساعة

الاكثر قراءة