يدور الزمن دورته، ويرحل عام بكل ما حفل من أحداث، بعضها حلو وبعضها الآخر مر، فليس ثمة ثوابت أو أمور مطلقة، ولكنها الحياة بنسبتها، ومتغيراتها، وأطيافها المتعددة التي تجعل للمشهد العام معنى. فالصورة لا تتشكل حقا إلا في وجود الظلال والأضواء التي تتوزع في جنباتها بنسب خاصة لكي تشكلها، وترسم ملامحها. وكما يتراوح طعامنا بين السكريات الحلوة والأملاح الحارة.. فهكذا الحياة، لا بد أن تحتوي على مزيج من النقيضين، من هذا ومن ذاك.
ومع إشراقة هذا العام الجديد الذي نتطلع إليه فكاكا من عام منصرم، لا نرضى عن كل ما ساقه إلينا من متغيرات متباينة، أو بمعنى أدق: لا نرضى عن كل ما حدث فيه، ومن ناحية فنحن نتطلع إلى العام الجديد أملا في أن يكون هذا العام خيرا من سابقه، وعلى كل حال فإن لكل جديد رونقه وبهاءه وبهجته، وتفاءلوا بالخير تجدوه!.
تطلعاتنا على المستوى العام
ونحن نستقبل العام الجديد ثمة أمنيات طيبة نريد أن تتحقق لبلدنا، وأخرى لأمتنا العربية، وثالثة للعالم أجمع.
نتمنى لمصرنا الغالية أن يديم الله عليها نعمة الاستقرار ، والأمن والأمان الذي حرمت منه بعض أقطارنا العربية، وبعض دول العالم شرقا وغربا. وفي هذا السياق لا بد أن نحيى جيشنا، الحصن الحصين الذي زكاه من قبلنا نبينا عليه الصلاة والسلام؛ فقد روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: حدثني عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاستوصوا بأهلها خيرا، واتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد الأرض". فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: " لأنهم في رباط إلى يوم القيامة". أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
كما نتطلع لخروج بعض بلداننا العربية من أزماتها، محققة الاستقرار والأمن والأمان؛ لتعود مرة أخرى كما كانت متماسكة مترابطة، تسعى نحو التنمية والرفاهية، ومد يد العون لبعضها البعض كما كانت.
أما بالنسبة لبلدان العالم المختلفة، فنرجو أن تنقشع الأزمات والحروب بين دول العالم شرقا وغربا، وتنتهي على خير الأزمة الروسية الأوكرانية، وغيرها من أزمات بين الشرق والغرب لأن كل هذه الأزمات والمواجهات، لا شك تؤثر على استقرار العالم واقتصاداته، سواء بالشكل المباشر أو غير المباشر. فدول العالم كله اقتربت المسافات فيما بينها، وبات العالم وكأنه أصبح صغيرا ، يتأثر بعضه ببعض أكثر بكثير من ذي قبل.
التعليم والصحة
ومن تطلعاتنا وتمنياتنا لمصرنا الغالية، أنه كما امتدت يد الإصلاح لتشمل تغييرات إيجابية على مستوى الطرق والمواصلات، وتحديثهما لتواكب وتكتسب قسمات حداثية، وملامح عصرية، تقترب بها كثيرا مما هو قائم في العديد من بلدان العالم المتقدم ـ أتمنى أن تمتد أيضا أيادي الإصلاح والتحديث لتشمل جوانب أخرى كمراحل التعليم المختلفة، بدءا بالمرحلة الابتدائية وانتهاء بالمرحلة الجامعية. نتطلع لاستقرار المنظومة التعليمية وننأى عن تعريض أبنائنا للتغيرات العشوائية التي تجعل منهم حقول تجارب غير ناضجة، لتنتقل بها من تغيير لآخر خلال فترات وجيزة!!.
وكما امتدت أيادي الإصلاح للمناطق الخطرة وغير الآمنة فبدلتها من حال كئيبة إلى حال مشرقة جميلة، تليق حقا بأبناء مصر الطيبين البسطاء، وجعلت منها صورة وضاءة مشرقة في ربوع مصر من أقصاها إلى أقصاها، نتطلع أيضا إلى النظر بعين الاعتبار إلى تطوير المنظومة الصحية بشكل عملي يشمل غير القادرين على تكاليف العلاج من الإفادة المباشرة في هذا المجال. لا ننكر ما تم من منجزات على مستوي القضاء على مشكلة الالتهاب الكبدي الفيروسي (سى) ، ما كان يشكل تهديدا لصحة وأمن المواطنين ويهددهم في حاضرهم ومستقبلهم. كما حدث تطور مماثل على مستوى القضاء على مرض شلل الأطفال لا يقل عن سابقه في مجال الفيروس الكبدي (سى)، ولكن لا بد أن تمتد يد الإصلاح لتطوير منظومة التأمين الصحي بحيث يتلقى المتعاملون معه من المرضى العناية اللائقة بهم على المستوى المهني والإنساني.
التمنيات على المستوى الثقافي
تواجَهُ الثقافة في عصرنا بتحديات كثيرة، ليس في بلدنا فحسب ولكن على مستوى العالم كله ولذا، نريد قدر ما نستطيع أن نُعَبِّد طريقها، ونزيل من أمامها المعوقات التي تجرها إلى الخلف، فالثقافة هي عماد التقدم الحقيقي، وسنده القوي، فضلا عن أنها من أهم عوامل الحفاظ على الهوية ؛ إذ إنها جزء لا يتجزأ من البنيان الذاتي للإنسان، وتوجهٌ خطير لانتماءاته، ومشكلٌ قويٌّ لتوجهاته؛ ولهذا فالثقافة مرتبطة جدا بالوطن والمواطن. والاستثمار فيها يعود بلا شك بالخير العميم على الوطن والمواطن سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومهما تعددت الأوعية الثقافية فإن الكتاب المقروء والدورية الثقافية المطالعة، يظل الروافد الرئيسية الذي تتكئ عليها ثقافة الإنسان في أي مكان وزمان. الكتاب والمجلة الثقافية بحجمهما المادي وسهولة الرجوع إليهما في أي وقت وتحت أية ظروف وفي أي مكان يظلان المنهل الثقافي العذب والمتاح للإنسان والذاكرة التي تحفظ إرثه وتنقله من جيل إلى جيل. ولهذا فلابد من دعمهما وتكريس كل الإمكانات لبقائهما ليقوما بدورهما الذي لا غنى عنه.
وفي ظل أزمة الورق وارتفاع ثمنه مؤخرا بشكل مبالغ؛ مما يلقي بظلال كثيفة بل ومظلمة على مستقبل الكتاب والدورية الثقافية، حيث ارتفعت أثمانها بشكل يهدد هذه الصناعة الثقافية المهمة، والتي أعتبرها أمنا قوميا بالدرجة الأولى.
ويحدونا الأمل لنتطلع في العام الجديد إلى حلٍّ شافٍ لهذه المعضلة؛ وذلك بإنشاء مصانع للورق تغذي قطاع الثقافة والتعليم ، وما يتبقى من منتجاتها يمكن أن يمثل موردا لدخل قومي لا بأس به ضمن موارد الصناعات والأنشطة الأخرى، لاسيما أن لدينا المواد الخام لإقامة مثل هذه الصناعة، وهذه المواد الخام التي يمكن استثمارها في هذا المجال، والتي تتمثل في قش الأرز وغيره من نفايات زراعاتنا هي ذاتها التي تشكل مشكلة خطيرة وهي التلوث البيئي بحرق الفلاحين لها للتخلص منها. فكأننا بهذا نضرب عصفورين بحجر: نقضى على مسببات التلوث ونستثمر هذه النفايات لتستفيد بها في صناعة الورق المربحة، ومن جهة ثالثة نوفر العملة الصعبة التي نستورد بها هذا الورق. ومن جهة رابعة فإن لم يقل سعر الكتاب والمجلة جراء هذا، فلن تزيد أسعارها على المدى البعيد. أمنيات يمليها علينا حبنا لبلدنا.
كما نريد للهيئة العامة لقصور الثقافة أن تطلع بمهمتها في تثقيف الجماهير، وتعيد أنشطتها كما كانت أيام "الثقافة الجماهيرية"، التي كان لها بالغ الأثر في توعية وتثقف الجماهير الغفيرة في طول البلاد وعرضها، فنقلت إليهم الكتب والمكتبات والفرق المسرحية والأفلام السينمائية، فأحدثت طفرة ثقافية هائلة في فترة الستينيات.
دعاء أول العام
وفي نهاية هذا المقال نتوجه بالدعاء إلى الله تعالى: فاللهم اجعل يومنا خيرا من أمسنا، واجعل يارب غدنا خيرا من يومنا. اللهم اجعل حظ أولادنا أفضل من حظنا ، واجعل حظ أحفادنا أفضل من حظ أبنائنا.
اللهم أدم علينا نعمة الأمن والأمان: الأمن من الجوع والأمن من الخوف، والأمان الروحي الذي يبعث الطمأنينة في النفس، ويبث الأمل في مستقبل أكثر سعادة وإشراقا، اللهم آمين.