الثلاثاء 7 يناير 2025

مقالات

فن مشاهدة الأفلام

  • 6-1-2025 | 10:39
طباعة

أغلب الدراسات السينمائية التى يتم ترجمتها إلى العربية تكون موجهة أساسا للعاملين فى مجال السينما۔۔ هذه الحقيقة نستطيع اكتشافها ونحن نبحث فيما تضم المكتبة العربية من كتب سينمائية.. سنعثر على دراسات فى الإخراج والسيناريو والتصوير والمونتاج، وغير ذلك من فنون السينما.. لكن الناقد الأمريكى جوزيف بوجز أحب أن يأخذ جانب الجمهور ويسلط الضوء على ما يحتاجه الناس لكى يفهموا «فن السينما» كما ينبغى أن يفهموه، وتوصل بوجز إلى حقيقة مفادها أن مشاهدة الأفلام «فن» لا يقل عن التمثيل أو الإخراج وقد تمكن الناقد الأمريكى من صياغة أسس مهمة لتحليل الأفلام السينمائية تزيد استمتاع المشاهد بالفيلم.. دراسة جوزيف بوجز بعنوان «فن الفرجة على الأفلام» وقام بترجمتها الزميل وداد عبدالله في 350 صفحة۔

فىِ فصل قصير بعنوان "تفرد الفيلم" يحاول جوزيف بوجز التأكيد على استطاعة السينما تناول كل الموضوعات الواقعية أو الخيالية باختلاف الزمان والمكان ، والسينما عبر تاريخها القصير "نسبة إلى الفنون الأخرى" تمكنت من إقامة علاقة حميمة بجمهورها العريض ويعتقد "بوجز" أن أعلى مستوى للمشاهدين هو "المثقف السينمائى" الذى يتمكن من مشاهدة الفيلم مشاهدة مزدوجة .. الأولى بالطريقة المعتادة أى متابعة أحداث الفيلم باهتمام والثانية بتركيز الانتباه إلى كل عناصر الفيلم والحبكة والفكرة والأثر العاطفى إلى جانب التساؤل: لماذا فعل المخرج هذا أو لماذا لم يفعل ذلك؟.

ويرى جوزيف بوجز أن تحليل الفيلم لا يفسد متعة المشاهدة بل على العكس من الممكن أن يزيد استمتاعنا بالفيلم وحبنا للسينما، لأن الغاية القصوى للتحليل السينمائى أنه يفتح سبلا جديدة للوعى وأعماقا جديدة لفهم الأفلام، والمطلوب فقط هو الإقبال على المشاهدة بحب ورغبة حقيقية فى التواصل۔

"التيمة" هى الفئة الفنية التى ينتمى لها الفيلم وتحدث الناقد "بوجز" عن خمس فئات للأفلام.. الأولى تحددها نوعية الحبكة بمعنى "فيلم بوليسى" أو "فيلم مغامرات" أو استعراضى.. والثانية أفلام عاطفية أو عنف أو رعب.. والثالثة أفلام يقوم بناؤها على شخصية رئيسية وهى محور أحداث الفيلم وهناك أفلام يحدد نوعيتها أسلوب المخرج وهى نوعية خاصة مثل أفلام فيللينى وبرجمان وكوروساوا وأخيرا نوعية من الأفلام الجادة التى تحمل معانى أكبر من القصة المباشرة وكل تلك النوعيات من الأفلام يجب ان تتمتع بعنصر الجاذبية.. والمشاهد الجيد يحب أن يعرف على الأقل نوعية الفيلم الذى سيشاهده ومدى اختلافه عن الأفلام الأخرى وهل "تيمة" الفيلم تناسب الموضوع أم الأفضل اختيار تيمة أخرى.

ونتوقف مع فيلم "أماركورد -إني أتذكر" للمخرج فريدريكو قيلليني إنتاج 1973 وتدور أحداثه في بلدة ساحلية صغيرة شمال إيطاليا في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. وتتأثر الشخصيات غير المتوازنة إلى حد ما بالزمان والمكان، والأعراف الاجتماعية التي تمليها الكاثوليكية إلى حد كبير، والحماسة الوطنية المحيطة بصعود موسوليني والفاشية. وتركز القصص على الطفل "تيتا" وهو يمثل قيلليني نفسه في مراهقته وأسرته، بما في ذلك شقيقه الأصغر، ووالدته الداعمة التي تدافع عنه دائمًا ضد والده، وعمه المتطفل لالو، وجده لأبيه الذي يستغل خادمة المنزل بذكاء. ومن بين سكان البلدة الآخرين: جراديسكا الجميلة، التي يمكنها على الأرجح أن تحظى بأي رجل تريده؛ وفولبينا والمثقف جوديزيو وعازفة الأكورديون العمياء؛ وبائعة التبغ الممتلئة وهكذا .. وهذا الفيلم يستطيع كل أنواع الجمهور مشاهدته والاستمتاع بشخصياته وفهم القصة التي تتحدث عن طفولة المخرج فيما يشبه السيرة الذاتية. 

ومن الضرورى أن يعرف المشاهد شيئا عن العناصر الدرامية التى يحتاجها الفيلم السينمائى وأولها الحكاية الجيدة ويجب أن تكون قابلة للتصديق وممتعة وبسيطة وتناسب الحبكة۔ كذلك البناء الدرامى أنه يشمل العرض للموضوع ثم التطور للأحداث ثم التأزم أو التعقيد وأخيرا الانفراج والحل ۔۔ أيضا استخدام الرمز من المهم أن يفهمه المشاهد إلى جانب الشخصية المحورية فى الفيلم وضرورة أن تتمتع بقدر كبير من الإنسانية والقدرة على انتزاع التعاطف والفهم.

ويؤكد الناقد جوزيف بوجز أنه بدون صراع لا توجد قصة .. والمشاهد النموذجى هو الذى يهتم بتطور الصراع فى الفيلم وأيضا يهتم بالزمان والمكان اللذين تجرى فيهما أحداث الفيلم، وهنا نتذكر فيلم "المصارع" للمخرج ريدلي سكوت وتدور أحداثه  في عام 180 م، حيث يعتزم الجنرال الروماني مكسيموس العودة إلى وطنه بعد أن قاد الجيش الروماني إلى النصر على القبائل الجرمانية بالقرب من فيندوبونا . قال الإمبراطور إن ابنه كومودوس غير صالح للحكم وأنه يرغب في أن يخلفه مكسيموس لاستعادة الجمهورية الرومانية. غضب كومودوس من هذا القرار وقتل والده سرًا وأعلن نفسه إمبراطورًا جديدًا ويطلب الولاء من مكسيموس الذي يرفض. قُبض على مكسيموس من قبل الحرس الإمبراطوري، الذي أخبره أنه وعائلته سيموتون. يقتل مكسيموس خاطفيه ويذهب إلى منزله بالقرب من تورغاليوم، حيث يجد زوجته وابنه مقتولين ، يدفنهم وينهار متأثرا بجراحه. عثر عليه تجار العبيد، الذين أخذوه إلى "زوكابار" في مقاطعة موريتانيا القيصرية وباعوه لمدرب المصارعين. 

وفي الكولوسيوم في روما يظهر مكسيموس لأول مرة في الساحة باعتباره "قرطاجيًا" في إعادة تمثيل معركة "زامة" وبشكل غير متوقع، يقود فريقه إلى النصر ويحظى بدعم الجماهير. يدخل كومودوس وابن أخيه الصغير لوسيوس الكولوسيوم لتقديم التهاني. يمتنع مكسيموس عن مهاجمة كومودوس، الذي يأمره بالكشف عن هويته؛ مكسيموس يخلع خوذته ويعلن الانتقام.. وقصة "المصارع" تكشف عن حاجة الإنسان في كل زمان ومكان إلى انتصار الكفاءة وتحقيق العدل، وأن الجماهير وحدها هي القادرة على صناعة البطل الشعبي الذي يقودها لتحقيق أمانيها .. ومرة أخرى يصلح هذا الفيلم لمشاهدة كل الأعمار والمستويات التعليمية.

يعتقد الناقد الأمريكى أن قراءة الفيلم هى أرقى أنواع المشاهدة.. قراءة بالأذن والعين معا لأن العنصر المرئى هو وسيلة الفيلم الاساسية للاتصال ، وكما يقول فإن العنصر المرئى هو أهم عامل فى التمييز بين الفيلم الروائى والعمل الأدبى ولعل "تكوين الكادر" هو أكثر العناصر المرئية أهمية لدى المشاهد المثقف إلى جانب المؤثرات الصوتية والموسيقى.

ويفرد جوزيف بوجز فصلا عن الموسيقى ويحدد وظيفتها فى الفيلم بأنها تضاعف الأثر الدرامى للحوار وتغطى مواطن الضعف أو النقص فى الإيقاع.. كما أن الموسيقى تهيئ الإحساس بالزمان والمكان أو تثير مشاعر الحنين إلى الماضى وإضافة مستويات من المعنى إلى الصورة۔۔ أيضا تساهم الموسيقى فى وصف شخصيات الفيلم الطيبة أو الشريرة والمشاهد الذكى هو الذى يحاول فهم موسيقى الفيلم ويجعلها تساعده فى أحيان كثيرة على فهم معنى أو التوصل لحقيقية شخصية فى الفيلم أو ترجمة إحساس بالحب أو الكراهية أو الرغبة فى الانتقام.

يستدل بوجز على أهمية عنصر التمثيل بأن الجمهور قد لا يسأل عن مؤلف الفيلم أو المخرج أو المصور لكنه بالتأكيد يسأل عن الممثل الذى يقوم بدور البطولة۔ وينصح جوزيف بوجز المشاهد بأن لا يقع أسيرا لوسامة فنان أو جمال ممثلة بل من الضرورى أن يحكم بموضوعية على أعمال ممثل ما، بعض الممثلين لديهم شعبية طاغية لكنهم يقعون أسرى "النمطية" وهى قد تجذب عامة الجمهور لكن الجمهورالواعى يرفض النمطية ويفضل الممثل المتجدد الذى يساعد جمهوره على الدخول معه فى تجارب فنية جديدة.

وهنا نضرب المثل بالنجم الأمريكي هاريسون فورد بطل سلسلة أفلام "إنديانا جونز" للمخرج ستيفن سبيلبيرج.. وقعت أحداث الفيلم في عام 1936 ، خلال التوسع النازي. ينغمس هتلر في البحث عن تابوت العهد الذي يضم الوصايا العشر والذي يمكنه وفقًا للأسطورة من خلال قوى خارقة للطبيعة، القضاء على جيوشا بأكملها .. تريد حكومة الولايات المتحدة العثور على التابوت قبل هتلر ولذلك قرروا إرسال دكتور هنري جونز "إنديانا جونز" أستاذ علم الآثار إلى مصر لجلب التابوت. ويتألق في تلك السلسلة المخرج ستيفن سبيلبيرج الذي قدم نموذجا لفيلم المغامرات والأكشن والخيال والتشويق وكل ذلك في فيلم يعتمد على بطولة مطلقة لممثل واحد هو "هاريسون فورد" وهي خلطة سينمائية كانت فريدة منذ 40 عاما وحققت نجاحا جماهيريا هائلا. 

ويعلى الناقد الأمريكى من شأن أسلوب المخرج ويقول ببساطة إنه أسلوب الفيلم باختصار، لأنه الطريقة التى يفصح بها المخرج عن شخصيته الفريدة المميزة من خلال لغة المجال التعبيرى، وينعكس الأسلوب فى كل قرار يصدره المخرج.. كل قرار يفسر أو يعلق بطريقة ما على مجريات أحداث الفيلم.

وأسلوب المخرج يظهر أولا فى اختيار الموضوع وثانيا فى أى عنصر آخر ويسرد "بوجز" أسماء مجموعة من المخرجين أحبوا التجربة والتجريب وصنعوا بذلك أسلوبهم المميز مثل: روبرت التمان وودى الن ومايك نكولز والآن باركر ومارتن سكورسيزى وستانلى كوبريك۔ ونشير هنا إلى فيلم "عصابات نيويورك" إنتاج 2002 للمخرج مارتن سكورسيزي وهو فيلم روائي، جريمة، تاريخي  من بطولة ليوناردو دي كابريو ودانييل دي لويس وكاميرون دياز ، ترشح الفيلم لعشر جوائز أوسكار وفاز دانييل دي لويس عن دوره في الفيلم بجائزة البافتا البريطانية لأفضل ممثل.. تدور أحداث الفيلم في مدينة نيويورك القديمة خلال فترة الحرب الأهلية الأمريكية من خلال قصة شاب إيرلندي اسمه أمستردام "ليوناردو دي كابريو" يسعى للثأر من قاتل أبيه بيل الجزار"دانييل دي لويس" والذي قتل أباه في حرب دارت بين السكان الأصليين الذين ولدوا في أمريكا والإيرلنديين في مدينة نيويورك القديمة عام 1846.

يبدأ جوزيف بوجز الفصل الخاص بتحليل الفيلم بسرد مجموعة من النصائح المهمة للمشاهد حتى يتمكن من مشاهدة موضوعية وممتعة للأفلام .. أولها عدم رفض أفلام ممثل معين أو مخرج معين لأنه لا يوجد ممثل كل أفلامه رديئة ولا مخرج كل أفلامه فاشلة۔ من الضرورى أن يحب المشاهد الفيلم أكثر من الممثل أو الممثلة لأن التمثيل ليس هو العنصر الوحيد فى الفيلم بل هناك فريق عمل وإبداع جماعى يجب أن يحترمه المشاهد.

أيضا لا يجب على المشاهد الجاد أن ينساق وراء رأى أحد النقاد فى صحيفة ما قال إن الفيلم ردىء ..  إذن لا يسعى المشاهد لرؤية الفيلم!! هذا خطأ كبير لأن الناقد من الممكن أن يتحامل على فيلم لأسباب يجهلها المشاهد أو يجامل فيلما ما لأسباب أخرى والرأى الموضوعى من النادر العثور عليه، حتى لو كان الفيلم رديئا يجب أن نشاهده لنعرف لماذا كان رديئا.

كذلك ينصح جوزيف بوجر المشاهد أن لا يبنى آمالا كبيرة على فيلم بعينه.. بمعنى أنه يشاهده على اعتبار أنه سيشاهد تحفة فنية عظيمة وإذا به لا يجده على المستوى الذى تمناه فيصاب المشاهد بالإحباط.

أول ما يجب أن يفعله المشاهد هو البحث عن الفكرة الأساسية للفيلم ومقاصد المخرج ومستوى طموح الفيلم ويصل المشاهد مع نفسه لتقييم ذاتى "ما رأيى فى الفيلم" والأفضل أن ننظر للفيلم من خلال مجمل أعمال المخرج .. وهناك مدخل مهم إلى الفيلم وهو نوع التجربة الإنسانية التى يقودنا الفيلم إليها، ما هى الرسالة التى يقدمها هذا الفيلم؟.

ويتمنى بوجز فى النهاية أن نفتح قلوبنا على كل أنواع الأفلام حتى نتمكن من الاستجابة عقليا ووجدانيا لمضمون الفيلم لأن مشاهدة الأفلام فن لا علم .. والمنهج التحليلى يعمق استجابتنا للفيلم ولا يفسد متعة المشاهدة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة