في الفترة ما بين عامي 1924 و1926، شهدت الحياة الثقافية معركتين فكريتين، حركتا الساكن آنذاك، وبدلتا ثوابت في حياتنا الثقافية، التوقيت الذي صدر فيه كتاب على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم « - تعمد أم مصادفة ؟! - تزامن مع إلغاء أتاتورك دولة الخلافة العثمانية فى 1924، وتطلع حكام العديد من الأقطار الإسلامية لإحياء الخلافة بتوليهم المنصب الرفيع. وكان الملك فؤاد واحدًا من هؤلاء الحكام، بتأييد من مشيخة الأزهر.
ففى 1922 أعلن إلغاء السلطنة العثمانية، تمهيدًا لهدم الخلافة الإسلامية. وفي الأول من نوفمبر 1922 أعلن قيام الجمهورية التركية على أنقاض دولة الخلافة. وفي ليلة 3 مارس 1924 أصدر المجلس الوطني الكبير في تركيا - برلمان الثورة - قرارًا بإلغاء منصب الخلافة نهائيًا، وفصل الدين عن الدولة، وطرد السلطان عبدالمجيد من تركيا مع أفراد أسرته قبل الخامسة صباحًا، وأسقط مشيخة العلماء فى استانبول، وألغى مخصصاتها وامتيازات رجالها، وأغلق أجنحة الحريم، وتكايا الدراويش، وأزال البيوت الخشبية، وأشياء أخرى كانت - على حد تعبير أورهان باموق - تجتذب السائحين، وبين أسباب ذلك في رسالة عنوانها "الإسلام وسلطة الأمة". وقد ترجمت الرسالة إلى العربية، وطبعتها مطبعة "الهلال" في العام نفسه، وأصبح العالم الإسلامي - لأول مرة منذ ألف سنة - بلا خليفة. وكان لذلك كله تأثيره المباشر والهائل في الأقطار العربية، وفى العالم الإسلامى عمومًا، وحتى بين المواطنين العاديين في المجتمعات العربية، هؤلاء الذين كانوا يؤمنون بنسبة بلادهم - على نحو ما - إلى دولة الخلافة.
بدأت أطماع الخلافة تراود الكثيرين من حكام الدول، وكان الملك فؤاد واحدًا من هؤلاء الحكام. لقد أصبحت الخلافة همه الأول، جند لها الكثيرين من موظفيه، وتكونت في القاهرة والإسكندرية وطنطا ودسوق، لجان من بعض المشايخ، باسم لجان الخلافة، تدارست إمكانية اجتماع أفرادها في يوم واحد مع علماء الأزهر للمناداة بالملك فؤاد خليفة للمسلمين. وعلى الرغم من أن مصر لم تكن قد استكملت استقلالها بصورة حقيقية فإنه أوحى بفكرة عقد مؤتمر للخلافة في القاهرة، بحيث يوصي بإسناد الخلافة إليه. واستقر الرأى على أن يقوم الأزهر بالدعوة إلى مؤتمر إسلامي فى القاهرة، هدفه الظاهرى بحث موضوع الخلافة بعد سقوطها فى تركيا، والهدف الحقيقى إقناع ممثلي الأقطار الإسلامية بمبايعة الملك فؤاد خليفة للمسلمين.
في تلك الفترة -في 1924 بالتحديد- ظهر كتاب الشيخ على عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " [ لاحظ التشابه بين العنوان وعنوان رسالة المجلس الوطني الكبير في تركيا]، وكانت فكرته الأساسية أن القرآن الكريم والسنة النبوية يشيران إلى أن الخلافة بمعنى "الشورى"، فليس ثمة نظام ثابت وملزم للمسلمين في الحكم، وإنما السلطة تنبع من مجموع الأمة لا من الدين. الإسلام دين لا دولة، ورسالة لا حكومة. و"لا يحتم أن يكون للدولة خليفة"، فالخلافة نظام سياسى، وليست أصلًا من أصول الإسلام، وذكرها لم يرد في القرآن الكريم لا تصريحًا ولا تلميحًا، بمعنى أنه من حق الشعب محاسبة حكامه. وقال علي عبدالرازق "إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيديك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة " الناس" فترى فيه تصرف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين" ما فرطنا في الكتاب من شيء "ثم لا تجد فيه ذكرًا لتلك الإمامة العامة أو الخلافة". وذهب علي عبدالرازق إلى أن "زعامة النبي كانت زعامة دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير، وقد انتهت الرسالة بموته، فانتهت الزعامة أيضًا، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته، كما أنه لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته". وقال: "إن الرسول عليه السلام، ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ، ولا دعوة لدولة".
وقال: "إن الرسالة لذاتها تستلزم للرسول نوعاً من الزعامة فى قومه، والسلطان عليهم، ولكن ذلك ليس في شيء من زعامة الملوك وسلطانهم على رعيتهم، فلا تخلط بين زعامة الرسالة وزعامة الملك، فالأولى زعامة دينية، والثانية زعامة سياسية". وقال: "والحق أن الدين الإسلامى بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهب، ومن عزة وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية. كلا، ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، إنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم وقواعد السياسة". وأكد الرجل أنه "ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين".
وينتهى على عبد الرازق إلى القول بأن الخلافة لا تشكل جزءاً من العقيدة الإسلامية، لكنها كانت، ولم تزل "نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد".
*
هل أراد على عبدالرازق بكتابه أن يهدم فكرة الدعوة للخلافة الإسلامية، لأنها كانت تستحق الهدم فعلًا، أو أنه كان يهدف إلى منع الملك فؤاد من تحقيق حلمه في تولى منصب خليفة المسلمين؟
ثمة رأى أن" الكتاب لم يكن كتابًا دينيًا، ولم يؤلفه صاحبه لخدمة فكرة دينية، أو الدعوة لعمل إسلامى، بل ألفه أساسًا ليحارب الملك فؤاد، فلم يكن على عبدالرازق يكره وحدة المسلمين، ولا يرفض أن يراهم في قوة ومنعة، بل كره فقط أن يكون فؤاد سلطان المسلمين، وأن تكون الخلافة الإسلامية هي الطريق لإخضاع الشعوب الإسلامية لنفوذ بريطانيا". وفي تقدير الرافعى أن" الإسلام وأصول الحكم" يعارض في ظاهره الخلافة الإسلامية، لكنه - فى الواقع - يعارض النظام الملكى. ويضيف الرافعى:"ولكن الرأي العام كان أنضج من أن يتأثر بالدعاية الدينية التي كثيرًا ما يستخدمها دعاة الحكم المطلق وسيلة للتضليل بالشعب، فلم يكترث لهذه الدعاية التي ليست من الدين في شيء، وذلك على تقدمه في الوعي السياسي والديني معًا. والحقيقة أن كراهية علي عبد الرازق للنظام الملكي كانت أمرا معلنًا، ففي حفل تأبين محمد تيمور الذي حضره عدد كبير من مسئولي الدولة، قال على عبد الرازق: "لقد استقال - تيمور- من خدمة القصر، ليخدم الشعب، شعورًا منه بأن الشعب أولى أن يخدم. لقد خرج من دار الملك ليشتغل فى دار التمثيل مؤلف روايات، وممثلًا أحيانًا. ذلك بأنه شعر بحاجة الأمة إلى تربية ذوقها وتهذيب عواطفها، ورأى التمثيل أحسن مدرسة للعواطف والأذواق".
لم تكد تنقضى أيام على صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" حتى تبدت ردود الفعل، حادة، وعنيفة، وقاسية. وكان أغلبها بتحريك من الملك فؤاد نفسه، لما أحدثه الكتاب من شروخ عميقة في خطط استيلائه على منصب الخلافة.
ولعل الصحوة الفكرية التي بدأت تفرض نفسها بعد ثورة 1919، والتي أشار إليها طه حسين في الجزء الثالث من الأيام كانت هي الباعث لمذكرة عدد من المثقفين المصريين إلى الملك فؤاد، ينتصرون فيها لحرية الشيخ على عبدالرازق في إبداء رأيه، بصرف النظر عن مخالفة ذلك الرأى لما يؤمن به الملك: "إن مؤاخذة مؤلف عالم، وفوق ذلك قاض، لنشره بحثًا علميًا حوى آراءه الخاصة في مسائل دينية أو اجتماعية حسبما وصل إليها بحثه في تأويل مصادرها ومراجعها، لهى مصادرة لحرية الفكر المكفولة بدستورنا المصري، والمقدسة لدى جميع الأمم المتمدينة، والرجوع بمصر إلى عهد الظلمة". ورفض الملك فؤاد - بالطبع - هذه المذكرة!. وكان منصور فهمي في مقدمة المدافعين عن الشيخ علي عبدالرازق. ودعا أنصار الحق إلى المطالبة بحرية الإنسان حين يشعرون بخطر يهدد حق الإنسان، "ويا أشياع الحرية، أنشدوا الحرية ما شعرتم أن الحرية الصالحة الصحيحة في خطر".
في المقابل، كانت غالبية الآراء المناهضة لأفكار علي عبد الرازق عنيفة وضارية، حتى بدا التطبيق الإسلامى في بعض الاجتهادات "حكومية دينية" أشبه بحكومات الحق الإلهي في أوروبا التي أفرزت محاكم التفتيش وغيرها. وبلغت معارضة البعض حد اتهام الرجل بأنه اقتبس آراء غير إسلامية ليطعن بها الإسلام. أما المعارضون الذين حرصوا على الموضوعية، فقد كان ملخص رأيهم أن" للمسلمين حاجة شديدة - لدينهم ودنياهم - إلى الخلافة". وكتب الشيخ الخضر حسين يقول إن الدولة الإسلامية هدف ينبغى السعى إليه، لكنها - فى الوقت نفسه - ليست ركنًا من أركان الدين" فالقرآن لم يصرّح بحكم الإمارة العامة، اكتفاء بما بثه في تعاليمه من الأصول التي تبيّنها السنة، ويرجع إليها الراسخون في العلم عند الحاجة إلى الاستنباط، ولأن فى الأمر بإطاعة أولي الأمر عبرة لأولي الألباب، فالخلافة إذن بضرورتها، لأن" ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم عن الباطل وازع، يفضى إلى تبدد الجماعة، وإضاعة الدين، وانتهاك حرمة الأموال والنفوس والأعراض".
أما الأقلام التى غلبت عليها الحماسة فقد واجهت على عبد الرازق بكلمات من نوع: أبله.. يعبث بالأمن العام.. يسعى فى الأرض فسادًا.. يطعن الملوك.. يعتدى على الأمة.. ظالم.. معاند.. كاذب.. ملحد.. كافر.. فاسق. ووصف الشيخ محمد شاكر، الشيخ على عبد الرازق في" البلاغ " بأنه " أفجر ملحد في تاريخ الإسلام وما حدثنا التاريخ الإسلامى العام، ولا التاريخ المصرى الخاص، بإلحاد في الدين أفجر من هذا الإلحاد الذي نزع إليه في كتابه هذا الشيخ وهو يحمل من الجامع الأزهر المعمور شهادة عالمية، ويتقلد من الوظائف الدينية وظيفة القضاء في المحاكم الشرعية.
في العاشرة من صباح الأربعاء 12 أغسطس عقدت هيئة كبار العلماء جلسة برئاسة شيخ الجامع الأزهر لمناقشة الشيخ على عبد الرازق - محاكمته! - في مواد كتابه. واستندت الهيئة إلى ورود عرائض موقع عليها من " جمع غفير من العلماء تؤكد أن الكتاب يحوى أمورًا مخالفة للدين، ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة.
جرت محاكمة الشيخ على عبد الرازق يومي 5، 12 أغسطس برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور 24 شيخًا من هيئة كبار العلماء. ثم أصدرت هيئة كبار العلماء قرارًا بإخراج الشيخ على عبد الرازق من زمرة العلماء، ومحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية". لأنه" أتى بأمور تخالف الدين، والقرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة". وغادر الشيخ على عبد الرازق قاعة جلسة المحاكمة إلى بيته، فنزع العمامة والجبة والقفطان، وارتدى البدلة والطربوش، ولم يعد إلى زي الشيوخ أبدًا.
كانت الخطوة التالية لقرار هيئة كبار العلماء، توقيع وزير الحقانية عليه، ليبدأ تنفيذه، لكن وزير الحقانية - وقتذاك - عبد العزيز فهمى، أحال القرار إلى لجنة قانونية للنظر في مدى قانونيته. ولأن الملك فؤاد كان يصر على تنفيذ القرار دون إحالته إلى لجنة من أي نوع ، فقد حاول رئيس الوزراء بالإنابة - يحيى إبراهيم - أن يحمل عبد العزيز فهمي على توقيع القرار، لكن الأخير أصر على موقفه، فصدر مرسوم ملكي بتكليف علي ماهر وزير المعارف العمومية القيام بأعباء وزارة الحقانية، إلى أن يعين لها وزير بدلًا من عبد العزيز فهمي. وتضامن ثلاثة من الوزراء مع عبد العزيز فهمي، فقدموا استقالاتهم، وانهار الائتلاف الوزارى القائم، وتهددت البلاد أزمة سياسية خطيرة، وجدت - فيما بعد - سبيلها إلى الحل، ولكن الشيخ على عبد الرازق ظل بلا وظيفة ولا مرتب ولا رد اعتبار، لقاء رأى أبداه، ودافع عنه، وأصر على موقفه منه، حتى مات فى عام 1966 .
فى الشعر الجاهلى
في 12 سبتمبر 1926 - أى بعد عام بالتحديد من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم "- تقدم النائب عبدالحميد البنان ببلاغ إلى النيابة ضد طه حسين، للتحقيق فيما ورد بكتاب "في الشعر الجاهلي". كما قدّم بلاغين آخرين، أحدهما لشيخ الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية، أسماه "فى الشعر الجاهلى" كذّب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نسبه الشريف، مما أثار المتدينين، كما أتى فيه بما يخل بالنظم العامة، ودعا الناس للفوضى، وطلب البلاغ اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمى، وتقديم الكاتب للمحاكمة.
واقترح النائب البنان مصادرة كتاب طه حسين، واتخاذ الخطوات اللازمة لاسترداد المبلغ المدفوع إليه من الجامعة ثمنا للكتاب، وتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى على طه حسين لطعنه في الدين، وإلغاء وظيفة طه حسين في الجامعة. ومع أن طه حسين كتب إلى مدير الجامعة، يشهده أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإن الصحف الحزبية والسلفية ظلت تهاجمه بعنف، مما كاد يؤثر على هيكل الجامعة نفسه. وكانت آنذاك فى بداية عهدها.
بدأ التحقيق في 19 أكتوبر 1926 بواسطة محمد نور رئيس نيابة مصر آنذاك. كان رأي طه حسين أن الغالبية مما يسمى أدبًا جاهليًا ليست من الجاهلية في شيء، " إنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدًا، لا يمثل شيئًا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي". وكان رأيه أن قصة إبراهيم وإسماعيل تعاني التكلف والصنعة، وقد دعت إليها حاجة في عصور متأخرة، وورودها في الكتب الدينية يعني تأكيد صحتها التاريخية. وكانت الأرضية التي وقف عليها طه حسين في مقولته هي" أن نستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا، فتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضًا" . وقال طه حسين: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة أخرى".
لم يثر كتاب من الجدل والنقاش حوله - والتعبير لرابح لطفى جمعة - كما أثار كتاب طه حسين. صدرت ضد الكتاب بضعة كتب تناقشه، وتهاجمه، وتقذف مؤلفه بتهم عدة، أقلها الزندقة. فثمة "تحت راية القرآن" لمصطفى صادق الرافعى، و"الشهاب الراصد" لمحمد لطفى جمعة، و"نقد الشعر الجاهلى" لمحمد فريد وجدى، و"نقد الشعر الجاهلى" لمحمد الخضر حسين، و"النقد التحليلى لكتاب فى الأدب الجاهلى "لمحمد أحمد الغمراوى، و"نقض ومطاعن فى القرآن الكريم" لمحمد أحمد عرفة، بالإضافة إلى عشرات المقالات والدراسات في نقد الكتاب، نشرت فى صحف الفترة كالأهرام والسياسة وكوكب الشرق والمكشوف والمشرق والعرفان والصراط المستقيم والمقطم وغيرها.
عنى محمد لطفى جمعة فى كتابه "الشهاب الراصد" [ 1926 ] بأن يستخدم منهج النقد التاريخى نفسه الذي استخدمه طه حسين في كتابه، واقتصر نقاشه على الجوانب العلمية والأدبية، دون أن يتعرض للمسائل الدينية، باعتبار أن علماء الدين هم الأجدر بأن يناقشوا تلك المسائل. وكما يقول عبد الرحيم الكردى، فقد كان نقد لطفي جمعة لكتاب " في الشعر الجاهلي " نقدًا لمنهج البحث، وأصوله، وليس مصادرة للحرية الفكرية. وفند جمعة مقولة طه حسين بأن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب في الجاهلية، قال الكاتب إن جميع الأمم القديمة والحديثة، إنما تلتمس صورة حياتها فى آدابها، انطلاقًا من أن الأدب مرآة لحياة الأمة التي أبدعته، بحيث يبدو من المستغرب ألاّ يكون للعرب أدب أو شعر يمثل حياتهم. ومما جاء في كتاب أحمد محمد الغمراوي قوله إنه إذا كان في كتاب طه حسين جديد " فهو تلك الفوضي التى حاول أن يلقى فيها كل ما تركت الأجيال السابقة من علماء اللغة والأدب والدين والتاريخ، والتى نرجو ألا يُخدع بما أحيطت به من زخرف القول أحد، فيظنها تجديدًا، أو تحريرًا للعقل من ربقة التقليد". وذهب شكيب أرسلان - في تقديمه لكتاب الغمراوي - إلى أن طه حسين" في هذا الرأي القائل والمنطق المقلوب لم يكن إلا مقلدًاُ لمرجليوث، أو لغيره من الأوروبيين، بسابق عقيدة سخيفة فاشية - ويا للأسف - في الشرق، وهي أن الأوروبي لا يخطئ أبدًا، وأنه من حيث اخترع الأوروبي سكة الحديد والغواصة والطيارة والسيارة والتلغراف اللاسلكي وما أشبه ذلك، فلا شك أنه صار يفهم جيمية الشماخ، ولامية الشنفرى، أحسن مما يفهمها سيبويه والخليل بن أحمد، وأنه لما كان قوله هو الفصل في الكيمياء والطبيعيات والطب والهندسة إلخ، لزم أن يكون قوله الفصل أيضًا في المفاضلة بين الفرزدق وجرير والأخطل".
وفى تقدير تشارلز آدمز أن طه حسين لم تشغله النواحى الدينية فى كتابه، لكنه استهدف تطبيق منهج البحث العقلاني على الشعر الجاهلي . لقد وضع في كتابه أسس المناقشة الحرة للتاريخ الأدبي في العصرين الجاهلي والإسلامي، فلم يعد ذلك التاريخ يرتفع فوق النقد والتحليل بدعوى انتسابه إلى السلف الصالح. وكتب طه حسين مقالًا بالفرنسية، نشره فى باريس، أكد فيه أن كتابه وكتاب على عبد الرازق" قد نجحا في إرساء دعائم الفكر الحر في الإسلام بصورة حاسمة". ومع أن النيابة أصدرت قرارًا في صالح طه حسين" فلكل إنسان إذن حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط، وحرية الرأى في حدود القانون، فله أن يعرب عن اعتقاده وفكره بالقول أو بالكتابة، بشرط ألاّ يتجاوز حدود القانون" فإنه اضطر -خوفًا من غضبة الجماهير التى أثرت فيها صرخات القوى الرجعية- إلى إرسال كتاب لمدير الجامعة، أذيع في الصحف، يؤكد فيه أنه لم يرد إهانة الدين، ولم يخرج عليه، وما كان له أن يفعل ذلك وهو مسلم يؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر.
هدأت حدّة الأزمة شيئًا، ثم بدأت تجد سبيلها إلى الحل. ومع ذلك فإن الحل كان مؤقتًا عندما اشترت الجامعة كل نسخ الكتاب لمنع تداوله فى الأسواق، ثم حذف طه حسين من الكتاب فصلًا، وأضاف فصولًا، وأعاد كتابته بعنوان جديد هو " في الأدب الجاهلي " ( 1927) وإن لم يتحول طه حسين عن رأيه، حتى أنه كتب في أواسط الأربعينيات أن المعركة التي خاضها انتهت إلى أن"صحة الشعر الجاهلي في عداد الأساطير"، وأن الآراء التي وردت فيه أصبحت أمورًا مقررة، لكن المشكلة أثيرت -للمرة الثانية- في مجلس الشيوخ، في العام التالى. وكونت وزارة المعارف لجنة جديدة لفحص النسخة المعدّلة، وإبداء الرأى فيها، وانتهت اللجنة في تقريرها إلى تحديد اثنى عشر اتهامًا ضد الكتاب ومؤلفه، يكفي أحدها ليضعه في موقف المارق من الدين. ولجأ البوليس إلى وضع حراسة دائمة على بيت طه حسين لمدة شهرين كاملين، خوفًا على حياته. ثم تجدد طرح القضية - للمرة الثالثة - داخل البرلمان في 29 يوليو 1927، ثم في 5 مايو 1930، ثم في عهد وزارة صدقي عام 1932، حين أراد إسماعيل صدقي أن يستخدم طه حسين لدعم سياسة الحكومة، وأغراه براتب ضخم مقابلًا للمقال الرئيس في جريدة "الاتحاد" الحكومية، لكنه رفض احترامًا لموقفه السياسى، فدفعت الحكومة نوابها إلى إثارة القضية مرة تالية في البرلمان. لكن توالي الأعوام كان قد أحدث تغيرًا في نظرة الرأي العام إلى تطورات الأحداث، والى السلطة الحاكمة، وإلى بواعث توجيه الاتهامات واتخاذ القرارات، وإلى حقيقة الرجل -طه حسين- الذي كان قد أصبح آنذاك عميدًا لكلية الآداب. ونقل طه حسين الى وزارة المعارف، ثم صدر قرار في 20 مارس 1932 بفصله من وزارة المعارف، لكن القرار كان له رد فعله: قدم مدير الجامعة - لطفى السيد - استقالته، وأكد فى خطاب الاستقالة أن فصل طه حسين هو أمر يمس كرامة البحث العلمي وكرامة الجامعة، ويمس حرية التفكير وحرية الرأى. وعبّر أحمد أمين ومحمد عوض محمد وعبد الرزاق السنهوري عن غضبتهم لمصادرة حرية الفكر، ووقف الرأي العام آنذاك - وهو ما قد يبدو غريبًا - مع طه حسين. أدرك الناس أن الحكومة تريد أن تستخدمه كأداة لها، أو تفصله، فوقف بإيجابية، وأطلقت صحف المعارضة على طه حسين لقب عميد الأدب العربى، وليس عميد كلية الآداب وحدها.
على الرغم من أن كلا الكتابين ناقش قضية دينية غاية فى الحساسية، فإن استقبال الرأي العام لهما تباين بصورة حادة. مبعث ذلك - في تقديرى - أن كتاب على عبد الرازق انطلق من القضية الدينية إلى مناقشة القضية السياسية، بينما جاء كتاب طه حسين ليناقش موضوعات دينية خالصة، وقوفًا على أرضية الشك الديكارتي.
إذا صرفنا النظر عن القلة المثقفة التي حاولت الدفاع عن الكتابين، تقديرًا - فى الدرجة الأولى - لحرية الفكر وقدسيته، فإن الأغلبية من المتتبعين لقضية "الإسلام وأصول الحكم" عنوا بالجانب السياسي، وأثرت في موقفهم نظرة المصريين إلى الملك فؤاد، وعمالته المؤكدة للاحتلال البريطاني، بينما اتخذت تلك الأغلبية موقفًا مناقضًا في قضية الشعر الجاهلي، بالرغم من موقف سعد زغلول تأييدًا لطه حسين في حرية إبداء رأيه، ذلك لأن الأشخاص - مهما تبلغ قيمتهم - والقضايا - مهما تبلغ خطورتها - لا شيء أمام آراء تناقش الدين الإسلامي في أهم مقدساته. ومن هنا، جاءت مطالبة المتظاهرين برأس طه حسين أمام سعد زغلول، وفي بيته، وتقديم نائب وفدي استجوابًا لوزير المعارف في البرلمان. وإذا كان الشيخ علي عبد الرازق قد مال إلى عزلة طالت حتى أنقذه الله منها بالموت، دون أن يجد في نفسه حاجة لتبريرات من أي نوع، فإن طه حسين كان أحوج مايكون إلى تقديم مثل تلك التبريرات. وقدمها بالفعل. وأعلن إسلامه في كتاب بعث به إلى مدير الجامعة " أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، لأن الغالبية كانت هى الخصم. وقد أحسن شيوخ الأزهر والساسة استغلال ذلك في البداية، وتشويه كتاب طه حسين. وانقضت أعوام على قرار النيابة بحفظ البلاغات المقدمة ضد طه حسين إداريًا، قبل أن تثير حكومة صدقي القضية من جديد. ولم يكن غريبًا - أمام الاعتبارات السياسية - أن إسماعيل صدقي الذي تضامن مع عبد العزيز فهمي في قضية كتاب " الإسلام وأصول الحكم " هو رئيس مجلس الوزراء الذي أصدر قرارًا في الأربعاء 2 مارس 1932 بفصل "الأستاذ طه حسين الموظف بوزارة المعارف العمومية من خدمة الحكومة".
المهم أن الرأى العام أدرك - خلال تلك الأعوام - أن المساس بالإسلام ورسوله لم يكن هدف طه حسين بقدر ما كان الهدف تعبيرًا عن وجهات نظر فكرية ونقدية وتاريخية من المؤلف. وكما قلت، فإن على عبد الرازق التزم عزلة طويلة في بلدته، لا يشارك فيها بعمل ولا برأي.
أما طه حسين فقد حرص على تأكيد إيمانه الديني . ثم جاءت مؤلفاته الدينية تكريسًا لذلك الإيمان، فلم يعد الشعر الجاهلي -وإن لم ينكره المؤلف! - يشكل بقعًا في حياة طه حسين.
بالإضافة إلى ذلك كله، فقد ساعد في قضية طه حسين أن مجلس الجامعة المصرية اتخذ موقفًا متعاطفًا مع عضو هيئة التدريس، بعكس ما أقدم عليه علماء الأزهر من محاكمة صورية للشيخ على عبد الرازق، كان الحكم فيها قد أعد من قبل أن تبدأ!