جالسًا على أريكة يبدو أنها استراحة قديمة، فقدت أهمّيّتها بفعل الزمن، تخلو وحيدة بذكرياتها أسفل بعض الأشجار، التي تشابكت أفرعها العالية، وقد خبّأت أوراقها واجهة إحدى البنايات، هدأت ثورة آلام قدميه، التي أُرهِقت بفعل المشي طويلًا،هُنا حيث لا أحد يشاركه لحظاته الجميلة، هُنا حيث يبتلع الهدوء ضجيج الشّوارع.
انهمك كعادته في القراءة، فقط هي بالنسبة له، ركض في مساحات خضراء، لم تعبث بها سطوة المال، فأحالتها بنايات شاهقة تحجب وجه الحياة، هُنا فقط، يستمرئ اجترار الذّكريات، تراه من فرط نشوته يُغنّي.
وإذا بطائرة ورقيّة اخترقت حاجز وحدته، أغمض عينيه عن صفحات الكتاب قليلًا،
متمتِمًا: ربّما هي لُعبة لطفل أراد لها أن تُسافر بعيدًا، إلّا أنها تعلّقت خطأً بين أغصان الشّجر، طاردتها الرّياح فسقطت هُنا.
رتيبة هي أوقاته تمر كعادتها، مبكِّرًا يُصارع من أجل استقامة جسده، تعمّدت خطواته أن تُحدث خلخلة تُعكِّر صفو صمت حُجرته، يستفيق معها انتفاض رئتيه بسُعال، طالما حاول ارتداء حِذائه بصعوبة، الذي طالما تمنّى أن يراه واقفًا، خلف حاجز انتفاخ بطنه متدلّيًا لأعلى فخذيه، قهوته الصّباحيّة، مُطالعة وجهِهِ الدائمة في المرآة، لا سيّما وهي لا تخلو من تمتمات سُخرية لما وصل إليه. لم يختلف الأمر كثيرًا عن سابقه، فكانت كرة ورقيّة، لا أعتقد أنّه محض صُدفة هذه المرّة، لا بُد وأنها إشارة لشيء ما (يُحدِّث نفسه) أدار رأسه عاليًا، توارت سريعًا، انهال توبيخًا لنفسه، ليته ظل جامدًا كجذع شجرة، يبدو أنها شَعُرت بعينيه تلاحقها في الشّرفة، فما كان منها خجلًا، إلا أن تتوارى ويظل طيفها شاخصًا أمامه، كأنّها مازالت باستدارة وجهها تغازله.
يبدو أنه آن للشّيب أن يترجّل قليلًا، مبتسمًا أمام المرآة، يتحسس تجاعيد وجهه تسكنها انكسارات وبقايا، تجرّد بغتة من أثقال يومه، لحظات كانت كفيلة بأن يرى في المرآة وجهًا آخر، استكانت ثورة الشّيب تحت وطأة نشوته، وسيمًا تخاله العين في المرآة، يحاول بعناية اختيار ملابسه وما يروق له.
لم تعُد تشغله القراءة، لم يعُد لوِحدته قدر ما كانت تتمتّع به، فقط كانت اللحظات التي يقضيها بالقُرب من شُرفتها كل يوم، كفيلة بأن تفتح له نوافذ وحدوداً، كفيلة بأن تُعيد وجه التاريخ ناصع البياض، وكأنّها تفّاحة نيوتن التي غيّرت مجرى حياته، كطفل تداعبه نسمات الهواء الباردة، حتّى يغفو وبعينيه حلم يراوده.
تعددت الإشارات يوما بعد يوم (طائرة ورقية، كرة، صوت غِناء، ابتسامات..)
مرّت أيام لا يعرف عددها ولم يشغله ذلك، تساقطت أوراق الشجر، لا شيء يحجب رؤيتها الآن، إلى أن كشف تساقط الأوراق عن بعض ما خبأته طويلًا، تلك البناية (مصحّة نفسيّة) وكأنّها السّماء أمطرت ببعض أحجار فوق رأسِه، وأن وجه القمر الذي أطل من النّافذة، لفتاة تُعاني مرضاً نفسياً، جعلها تُداوم على ما تفعله بشكل عشوائي، في حين ظنّها البعض مُغازلة، ممن قادتهم الصّدفة للجلوس هنا.