لعل أهم ما قرأت خلال هذا العام الذى قارب نهايته، هو كتاب «المنجز العربى الإسلامي في الترجمة وحوار الثقافات من بغداد إلى طليطلة» للأستاذ العلامة الراحل أحمد عثمان، فهذا الكتاب يشكل لذة معرفية كبيرة، إذ إنه يتناول تفصيلا تطور الترجمة إلى العربية من خلال اللغات الأخرى، كالسريانية، واليونانية والفارسية والقبطية واللاتينية وغيرها، من أمهات الكتب المؤسسة حضاريا كالطب والهندسة والفلك والفلسفة وغيرها من العلوم الطبيعية التي قامت على أساسها الحضارة العربية الإسلامية، خصوصا خلال القرن الثالث والرابع الهجريين، والتي صارت هذه الحضارة سيدة الحضارات خلال القرون الوسطى.
وتتبدى أهمية الكتاب في أنه ثبت دقيق لكل الأسماء التي نقل عنها من اللغات الأخرى، وما ألفته هذه الأسماء في المجالات المذكورة، وغيرها من المجالات العلمية، وكذلك أسماء من نقلوها من هذه اللغات المتباينة مع التعريف بهم تعريفاً يستبين من خلاله، السياق التاريخى الذى عاشوا فيه، ومدى اهتمامهم بفروع معرفية دون غيرها، وهذه الأسماء قد تكون حظيت بشهرة استمرت عبر الزمان، كما أن بعضها عبرته أدبيات التاريخ عبورا عابراً، إلا أن الجديد لا يتأتى إلا عبر القديم، والمعرفة لاتفنى ولا تخلق من عدم، والحقيقة نسبية، فالحقيقة المطلقة، لا توجد إلا في أدمغة الجهلاء والحمقى، فكل فكرة جديدة لا بد وأن تتخلق من باطن القديم، لكنها تكتسب جدتها بالإضافة أو التخدير لهذا القديم.
وقد يتساءل البعض من هم الأساتذة الأفذاذ الأوائل الذين وضعوا ركائز الحضارة العربية الإسلامية التي جاءت بعد تأسيس الدولة العربية وانتشار الإسلام، مثل البيرونى والفارابى وابن سيناء والخوارزمى وابن رشد وغيرهم، وكتاب الترجمة وحوار الثقافات يجيب عن هذا السؤال، بالإضافة إلى إجابته عن أسئلة أخرى ذات صلة بهذا الأمر مثل كيفية تأسيس بيت الحكمة في بغداد زمن الخليفة العباسى المأمون، وبروز ظاهرة المتكلمين الإسلاميين والتيارات الفكرية المتباينة كالمعتزلة والأشاعرة، إضافة إلى حركة وسيرورة المخطوطات والمصادر المترجم عنها مع تدقيق لمخطوطات ومصادرها سواء أكانت يونانية أو سريانية أو هندية أو غيرها، ومؤلف الكتاب لديه دراية معمقة باللغة اليونانية القديمة، فهو عمود من أعمدتها في ثقافتنا العربية.
إن الكتاب يطرح تساؤلات عن دور الترجمة في انبثاق الحضارات وازدهارها فالحضارة الأوروبية المعاصرة، إنما قامت على ضوء من ترجمة الكتب والمخطوطات العربية في الأندلس، إذ كانت كتب الطب تدرس في مدينة ساليرنوا الإيطالية حتى نهاية القرن السابع عشر بعد ترجمتها إلى اللاتينية، كما أن الكتاب يطرح تساؤلات عديدة متباينة عن الترجمة الآن ودورها في ارتقائنا الحضارى الآن.