الإثنين 3 فبراير 2025

كنوزنا

فكري أباظة يكتب.. مع أم كلثوم 60 عامًا مستمعًا وصديقًا ومحاميًا

  • 3-2-2025 | 12:05

مقال فكري أباظة

طباعة

مرت تلك الأعوام الطوال وكأن خواطرها وذكرياتها هي الأمس! وليس هذا عجباً فإن التي أنشدت وصدحت طفلة – وصبية وفتاة وآنسة مكتملة القد – أخاذة الروح، وسيدة أطلقوا عليها اسم «سيدة الغناء العربي» و»كوكب الشرق»..

ليس هذا عجباً إذا تمثلت في ذهني وفي قلبي بين لحظة وأخرى منحة ربانية وهبة إلهية تصل بين أمسها البعيد ويومها القريب. كنا ثلاثة نتعقب مراحلها مرحلة بعد مرحلة من الفقر المدقع إلى نعم الله المغدقة – ومن "الكتاب" إلى العلم الواسع من "مدرستها" هى شخصياً – ومن جامعتها هى شخصياً فإن اللماحة الموهوبة تتعلم ما لا يتعلمه تلامذة المدارس وطلاب الجامعات،الثلاثة الذين كانوا يتعقبون مراحلها هم:

المحامى الكبير المرحوم على أيوب، والمستشار والمحامى الكبير على حسين، وأنا. فى الموالد والحفلات الريفية فى جميع أنحاء القطر كانت الفتاة الصغيرة ترتل القرآن وتنشد الأناشيد الوطنية وتغنى بعض المقطوعات الريفية فكنا نحن الثلاثة نراجع عقودها فى تلك الحفلات بين مائة قرش ومائتين إلى مرحلة المئات والآلاف.

اقتنص القليل من بعض خواطرى وذكرياتى لأننى كما قلت وكررت تحتاج أم كثوم إلى مجلدات وموسوعات وعسى أن يهيئ الله للدولة وللأدباء والكتاب تدوين التاريخ الكامل لهذه المعجزة التى شاء الله سبحانه وتعالى أن يمتع بصوتها الملائكى الملايين فى مصر والأمة العربية إلى أن شقت طريقها إلى الخارج فى أوروبا الشرقية والغربية. فى يوم من الأيام قلت لها: أمثالك من كبار المطربين العالميين لهم "سكرتارية" تدون ما أخرجوه وأنتجوه من ملايين الكلمات ومئات المقطوعات الدينية والوطنية وآلاف السطور وما احتشد به أكثر من "نصف قرن" من الزمان، قالت مذعورة: ومن أين لى بهذه السكرتارية وبهذا الإحصاء وأنا أعجز من أن أتذكر ما أخرجت وأنتجت.. يا شيخ "خليها على الله".

فى سنة من السنين كانت قهوة كافيه ريش فى ميدان سليمان باشا – طلعت حرب الآن – أجمل منتدى للمجتمع المصري، وفى يوم من أيام أعدت إدارة "الكافيه ريش" تختاً كبيراً يتبادله كبار المطربين بالتوالى ومنهم المطربة الكبيرة "منيرة المهدية".. سمعت عنها "أم كلثوم" وهى فى مراحلها الأولى فقالت لي: نفسى أسمع منيرة المهدية وذهبت بها إلى القاهرة وإلى الكافيه ريش وجلست "تحت التخت" على الخشب تستمع إليها وهى تترنح طرباً ثم قالت لى فى نهاية الحفلة: "حنجرة" غير عادية! والمدهش أنه بعد ذلك بسنين مرضت "منيرة المهدية" فى بيروت بعد حفلاتها فى سوريا ولبنان بالتهاب اللوزتين وكان هناك أكبر أخصائى فرنسى فحص اللوزتين وأجرى العلاج ثم قال لزملائه: "لو أمكننا بعد عمر طويل أن نحصل على هذه الحنجرة لاستفاد العلم كثيراً فلعلها توصى بها لمؤسسة من مؤسسات العلم فى فرنسا".. فكانت أم كلثوم بملاحظتها أسبق من الطبيب الفرنسى الكبير بسنين. سمع عنها كبير العازفين على "القانون" المرحوم "العقاد" فأراد أن يسمعها فى القاهرة وأعد لها أول حفلة فى أرض فضاء وراء قهوة موشيدى – قهوة المالية اليوم – فذعرت وترددت كثيراً ولكنها بعد إلحاحنا جاءت معنا وغنت لأول مرة فى القاهرة فكان "العقاد الكبير" أدهش المندهشين وضج الجمهور هاتفاً ومصفقاً ومستعيداً وكان ذلك اليوم هو "الفاتح" فى طريقها إلى القاهرة.

أكتب هذه الكلمات وأنا ألتزم الفراش مرض يزورنى كل عام وهو مرض "الربو" فليعذرنى القراء إذا جاءت خواطرى غير منسقة وغير مرتبة وبغير تاريخ. فى ليلة ليلاء كانت متعاقدة على إحياء "فرح" فى قرية من قرى "الغربية" وكعادة الفلاحين ذهبت من الساعة السادسة "صباحاً" إلى المحطة تنتظر القطار إلى أن وصل بعد ساعات ثم تابعت رحلتها مع والدها وأخيها "خالد" والشيخ صابر فوصلت فى المساء إلى محطة القرية ولم تجد "الركائب" لتوصيلها فسارت هى ومن معها على الأقدام حتى وصلت فوجدت القرية مظلمة وسألت عن الفرح فأجابوها لا فرح عندنا! فسألت عن صاحب الفرح فقادوها إلى بيت صغير فدق والدها الشيخ إبراهيم على الباب وخرج صاحب الدار وهو يتثاءب بعد نوم عميق ماذا تريدون؟ قالوا الفرح وأبرزوا العقد فقال بكل بساطة وبكل سذاجة:

"ما هو احنا أجلناه" قال والدها ولماذا لم تخطرونا تلغرافياً أو بخطاب؟ قال صاحب الفرح بكل بساطة وسذاجة: "دهده! ما هى البلد كلها عارفة إن الفرح تأجل". قالت لى بعد ذلك إنها كانت دائماً تستأذن والدتها قبل أى اتفاق ولكنها نسيت هذه المرة وكانت النتيجة ما حدث ثم كانت النتيجة أنها أصيبت بالحمى التى عانت منها طويلاً.

أقول هذا بمناسبة فيلم "وداد" أول فيلم سينمائى قامت ببطولته وكان العقد الذى حررناه بينها وبين الاقتصادى الكبير المرحوم "طلعت حرب باشا" وفؤاد سلطان معداً للتوقيع فى يوم الاثنين الساعة الرابعة مساء وكانت عندى قضية فى الإسماعيلية فحضرت فيها فأكرمنى القاضى بنظرها قبل غيرها ولم أجد قطاراً يوصلنى إلى القاهرة إلا قطاراً عسكرياً إنجليزياً كله جنود وضباط فاندسست فيهم وقامت القيامة ولكنى تظاهرت بالحزن العميق وأفهمت العساكر أن والدتى مريضة مرضاً خطيراً ولم أجد قطاراً غير هذا القطار فسمحوا لى بالسفر ووصلت القاهرة قبل الميعاد بأربع ساعات وبحثت عنها فى كل مكان لأذكرها – باعتبارى محاميها – بميعاد توقيع العقد ببنك مصر الساعة الرابعة وكان لقاء "خمسة آلاف جنيه" هى الآن تساوى 25 ألف جنيه فوجدتها بطريق الصدفة البحتة فى "حلوان" عند إحدى صديقاتها وتلهفت حيت سمعت صوتها مندهشاً كل الدهشة وقلت:

أين أنت، والميعاد يقترب قالت بكل بساطة أنا آسفة كل الأسف لأننى حاولت أن أتصل بوالدتى لأستأذنها فى توقيع العقد وتعذر الاتصال التليفونى وحاولت أن أبحث عنك فلم أجدك ويستحيل على أن أوقع العقد قبل أن تقول لى والدتى توكلى على الله ثم قالت أتذكر ما حدث لى يوم فرح الغربية لم أستأذنها إذ ذاك فكان ما كان مما رويته لك وهكذا كانت البارة الخاضعة لإذن الوالدة قبل الإقدام على أى مشروع مهما كان ثمنه الأدبى والمادي. فى سنة 1947 أجريت أخطر عملية فى حياتى من العمليات العشرين وهى عملية شبكية فى عينى اليسرى فى عيادة المرحوم الدكتور العالمى "صبحى باشا" والله يعلم كم عانيت نفسياً وجسدياً مدة ثلاثة أشهر طوال.

وقد قررت أن أكتب خطاباً للأستاذ الكبير إميل زيدان أستقيل فيه من عملى كرئيس لتحرير المصور لأنه كان من غير المعقول أن أكتب يومياً وأن أراجع أكداس البروفات كل يوم والعملية لم تنجح النجاح المطلوب، وزارتنى "أم كلثوم" فى هذه اللحظة فأطلعتها على خطاب الاستقالة ودهشت إذ أخذت تمزقه إرباً إرباً بحالة عصبية فسألتها: "كيف أقدمت على هذا فقالت: اسمع "جمال بك أباظة" المستشار اعتاد أن يختار لى بعض أبيات من الشعر العربى الممتاز ومن بين هذه الأشعار أشعار قال لى إنها للفيلسوف الشاعر العربى "أبو العلاء المعري" وللشاعر العربى الكبير "بشار بن برد" وكان كل منهما "أعمي"! ثم قالت وما لنا ودول عميد الأدب العربى طه حسين هو أيضاً "أعمي" وهؤلاء الثلاثة لم يفقدهم العمى ذلك الإنتاج الغزير المغدق فلماذا تيأس، قلت يا "أم كلثوم" أخشى أن أفقد "بصري" قالت تبقى "البصيرة" البصيرة وهى مؤنث البصر بلاش كلام فارغ" وكان ما كان وظللت حتى اليوم أزاول رياستى للتحرير زهاء نصف قرن".

فى ليلة من الليالى صحبناها إلى بلدة "الزرقا" بلدة الوطنى الكبير "السجين" تارة فى الثورة المصرية ورئيس الديوان تارة أخرى ورئيس الحكومة حيناً من الأحيان مد الله فى عمره إبراهيم عبدالهادى باشا فأحيت هناك فرحاً لأحد أعيان البلدة وعدنا فى السيارة وكان معنا المرحوم "النشوقاتي" ومعه فونوغراف قديم وأسطوانات للمطربين الكبار رحمهم الله محمد عثمان وعبده الحامولى والمنيلاوى وعبدالحى حلمى وأسمعنا بعض أدوارهم ومواويلهم وفى الطريق إلى الزقازيق أخذت تسمع وتغنى نفس الأدوار ونفس المواويل لأولئك المطربين العظام فقلنا لها: "لماذا لا تغنى هذه الأدوار القديمة؟ قالت: أيصل بى الغرور إلى أن أطاول أولئك الأفذاذ أنتم تريدون أن أكون سخرية جماهير المستمعين؟.

وشاء الله أن تصعد وتصعد وترتفع وترتفع، وتسجل أنها – بحق – سيدة الغناء العربى لا فى القرن العشرين وإنما فى قرون الإمبراطورية العربية منذ 14 قرناً، كنت دائماً أقول إن هناك عصرين عصر أحمد شوقى أشعر شعراء العرب أجمعين قديماً وحديثاً والعصر الثانى عصر "أم كلثوم" زعيمة الغناء العربى فعسى أن تستطيع الدولة والأمة العربية تخليد هذين العصرين بما يستحقان من تخليد. كانت أحب الحفلات إليها حفلات "النادى الأهلي" المنسقة تنسيقاً بارعاً وفى ليلة من الليالى التى أعدت فيها الحفلة بالنادى الأهلى أخطرنى المرحوم أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى أن الملك فاروق سيحضر الحفلة فجأة ولا تذكر هذا لأحد، وسيجلس معك فى مائدة الملك مصطفى أمين وكريم ثابت وأنا.. وفعلاً حضر الملك فاروق فجأة وغنت أم كلثوم، وفجأة كلف الملك زميلى "مصطفى أمين" بأن يعلن إنعام الملك عليها بنيشان الكمال، وحاملة هذا النيشان تلقب بصاحبة العصمة .. وبعد الحفلة أقبلت عليها مهنئاً فقالت لى بس وحياتك تقول لى إزاى حكاية "صاحبة العصمة" هل عندما أغنى يقول لى بعض المستمعين:

"وحياتك يا ثومة وحياة عصمتك" قولى تانى الأولة فى الحب ولا وحياة عصمتك على بلد المحبوب ودينى ولا وحياة عصمتك تانى "القبلة القبلة القبلة" ، قلت لها لا بد مما ليس منه بد وكان ذلك فى سنة 1944 – وأذكر أن صديقنا المرحوم "سليمان نجيب" أرسل إليها تلغرافاً يقول فيه: "الكمال فى الملاح صدف". وبعد فللذكريات الأخرى وقت آخر ومجال آخر بعد أيام الحداد.. كوكب الشرق الذى أرسله الله وضاء مشعاً التف حوله مائة مليون من العرب فكان حزبها أفخم الأحزاب الشعبية – وكانت جنازتها أضخم الجنازات الشعبية من الشعب وإلى الشعب وهى لم تحكم يوماً من الأيام ولم تعتمد على حزب يوماً من الأيام ثم استرد الله كوكبه إلى جواره وإلى فردوس الخالدين.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة