إنصافا للحقيقة ولأم كلثوم معا فإنني في هذا المقال لم أستطع الفصل بين رأيي ككاتب ورأيي كأمين عام لجمعية المؤلفين والملحنين والناشرين، حيث كشفت الدراية القانونية والمعلوماتية حقائق كنت أجهلها قبل سنوات شأني شأن كثيرين، “حقائق” جعلت أم كلثوم طرفا دون أن تكون طرفا وخصما لا مبرر لخصومته، في خلافات مادية وصلت للمحاكم بينها وبين رموز كبيرة في التأليف والتلحين وحكمت لصالحهم، رغم أنها لم تكن أبدا خلافات على المقابل المادي وإنما كانت خلافات على حقوق!! ولكن أي حقوق تلك؟ وهل للملحن أو المؤلف حق غير الأجر الذي تقاضاه كمقابل مادي للتأليف أو التلحين؟
هذا هو السؤال الذي سألته أم كلثوم مستنكرة حين رفع الشيخ زكريا أحمد وغيره دعاواهم القضائية ضدها وضد الإذاعة وكانت الإجابة.. نعم.. إنه “حق الأداء العلني” أحد الحقوق التي كفلتها قوانين الملكية الفكرية في العالم منذ نهايات القرن الثامن عشر، وصدر قانونها الخاص بها في مصر عام ١٩٥٤، إلا أن المحاكم المصرية عملت بأحكامها قبل ذلك التاريخ في قضايا منها قضية الشيخ زكريا أحمد الذي رفعها عام ١٩٤٨، ولأن أم كلثوم لم تكن لها سابقة معرفة بهذه الحقوق ولم تصادفها في حياتها من قبل ظنت أن المؤلفين والملحنين يطلبون ما ليس لهم وأن حقهم هو فقط الأجر الذي دفعته لهم حين منحوها الأغاني لتغنيها في الحفلات، ووقعت في ذاك “الخلط” الذي يقع فيه “المنتجون والمطربون” حتى الآن.
خلطت أم كلثوم بين التنازل عن “الأغنية” والتنازل عن “حقوق الأغنية” المكفولة لمؤلفها وملحنها وخاصة “حق الأداء العلني” الذي يكفل للمؤلف والملحن أن يحصل على مردود لتكرار استغلال أغنيته التي كتبها أو لحنها وتكرار أدائها علنيا في الحفلات والاسطوانات والشرائط وشتى وسائل البث، طوال حياة المؤلف أو الملحن ولمدة خمسين سنة بعد وفاة آخر طرف من الاثنين “المؤلف والملحن”. المهم أن أم كلثوم التي كانت تجهل هذه الأمور صدمتها هذه المطالب وتلك القضايا التي رفعت في البداية على الإذاعة أو على شركة الاسطوانات واعتبرتها أم كلثوم مطالب غريبة وقفت ضدها، وهو ما دفع الشيخ زكريا أحمد لاعتبارها خصما وطرفا في القضية التي رفعها بعدما علم أن أم كلثوم تتقاضى مبالغ كبيرة من الإذاعة عن كل أغنية وتعاملت على أنها امتلكت الأغنية وحقوقها، فذهب زكريا أحمد لها وطلب منها بشكل ودي أن تمنحه نسبة ٥٪ فقط من كل مبلغ تتقاضاه عن إذاعة أغانيه واستغربت الطلب ورفضته على أساس أنها من وجهة نظرها امتلكت الأغنية بمجرد دفع أجر اللحن والكلمات، كما رفضت الإذاعة أيضا هذا الطلب، فما كان منه إلا أن رفع قضيته الشهيرة التي بقيت في المحاكم اثنا عشر عاما حتى حكمت لصالحه عام ١٩٦٠ بمبلغ تعويضي، إلا أن القاضي الجليل الرائع أراد أن ينهي القطيعة وبذل مساعي طالت ساعات كي يجعل التعويض في إطار صلح بين زكريا أحمد وأم كلثوم فقضى بأن يتقاضى زكريا أحمد ٢١٠٠ جنية (ألفان ومئة جنيه مصري) على أن يلحن زكريا أحمد لأم كلثوم ثلاث أغنيات في هذا العام ليكون الأجر ٧٠٠ جنيها لكل أغنية مع احتفاظه بحقوقه التي كفلها القانون ٣٥٤ لسنة ١٩٥٤ الذي صدر بعد معركة خاضها مجلس إدارة جمعية المؤلفين والملحنين التي كانت قد تأسست عام ١٩٤٥ وبدعم من الزعيم جمال عبدالناصر صدر القانون، وكان عبدالناصر وقتها رئيسا لمجلس الوزراء ولم يكن قد اعتلى سدة الحكم بعد.
وقد أوضح هذا القانون فيما بعد أن “حق الأداء العلني” فرض على جهات بث الأغاني أو جهات عرضها، أو على المنشآت المنظمة (في حالة الحفلات) ولم يفرض على المطرب أو المطربة، وإن كان قد طلب من المطرب أو المنتج الالتزام بما هو محدد في التنازل أو التصريح كتابة من طرق الاستغلال الموجودة في كل طريقة على حدة (هل هو تنازل للغناء في الحفلات فقط أم في الحفلات والاسطوانات أو الشرائط وهكذا) ولا يعترف بالاستغلالات التي لم تكتب صراحة، وهو تقريبا ما ساعد على إتمام الصلح على يد قاض جليل أدرك قيمة عودة التعاون بين أم كلثوم وزكريا أحمد وقد أثمر الصلح وعودة التعاون عن رائعة “هو صحيح الهوى غلاب” نهاية ١٩٦٠ وقد توفي بعدها بشهور، وكان زكريا أحمد قد لحن لأم كلثوم أكثر من ٥٤ أغنية كتب أغلبها الشاعر بيرم التونسي الذي كان أول من اهتم بحقوق الملكية الفكرية وحق الأداء العلني بعد أن رأى مردودها في فرنسا على المؤلفين والملحنين
وقيل إنه تضامن مع زكريا أحمد في رفع دعواه من أجل هذه الحقوق، بل كان بيرم من أهم المحرضين على حقوق الملكية الفكرية في العموم وأول من تحرك مع محمد عبدالوهاب رئيس جمعية المؤلفين والملحنين عند كل القيادات السياسية لإصدار قانون حق المؤلف منذ عام ١٩٤٥ وحتى عام ١٩٥٤ حيث انضم بيرم إلى المجلس ومعه أحمد رامي وزكريا أحمد وأبوالسعود الإبياري وغيرهم، وكان لبيرم التونسي زجل لاذع كتبه في هذا الشأن حين أخفق مجلس النواب عام ١٩٥٠ في الموافقة على مشروع قانون لحماية حق المؤلف و”الأفكار” قدمته الحكومة بينما أقر المجلس ووافق في ذات الوقت على قانون لحماية “الأبقار” وكتب يقول:
لو كان في نوابنا نائب يفهم الأوبريت أو حتى ينظم على تربة أبوه كام بيت أو حد كان قاله إيه روميو وإيه جولييت ماكانش يصبح قانون الفكر والتفكير مدشوت لغاية ما يتفرق ورق تواليت وبعيدا عن بيرم التونسي كان هناك محرض آخر قد سبق زكريا أحمد في رفع دعوى ضد أم كلثوم والإذاعة المصرية مطالبا بحق الأداء العلني هو شاعر الفصحى محمد الأسمر صاحب قصيدة “زهر الربيع” والتي كتبها للجامعة العربية في عهد الملك فاروق وغنتها أم كلثوم وأذيعت مرة بصوتها وسمتها “فرحة الشرق” ومرة بمصاحبة ملحنها زكريا أحمد غناء وعزفا وسمتها “زهر الربيع” والتي تقول: زهر الربيع يرى أم سادة نجب وروضة أينعت أم حفلة عجب تجمع الشرق فيها وهو مؤتلف كالعقد يلمع فيه الدر والذهب وطلب من المصنفين مبلغا تعويضيا كحق أداء علني قدره ٥٠٠ جنيه إلا أن الحكم صدر بمبلغ ٢٠٠ جنيه عام ١٩٥١، وكان حينها أمينا لمكتبة الأزهر ومشرفا على الصفحة الأدبية لصحيفة الزمان المسائية وعضوا بلجنة النصوص في الإذاعة. أما رياض السنباطي: الذي انضم إلى مجلس إدارة جمعية المؤلفين وأصبح عضوا به في العام ١٩٥١ ليخوض معركة الحقوق أيضا فقد جاءت قصة خلافه مع أم كلثوم تزامنا مع توقيع أم كلثوم عقدها مع محمد فوزي لطباعة أغانيها على أسطوانات في عام ١٩٥٩، حيث طلب رياض السنباطي من أم كلثوم أن يتقاضى ثمنا لتسجيل ألحانه على أسطوانات، ورفضت أم كلثوم ذلك بدعوى أنه باع لها ألحانه بيعا كليا بحسب ما ذكره السنباطي نفسه في حوار لجريدة الجمهورية في ١٤ مايو ١٩٦٠ أجراه معه الشاعر والصحفي مأمون الشناوي، ردا على سؤال مأمون الشناوي عن سبب القطيعة بينه وبين أم كلثوم والتي دامت لأكثر من عامين، وانتهت بتدخل من الشاعر أحمد رامي الذي كان له نصيب الأسد من أغاني أم كلثوم التي لحنها السنباطى، وقيل إن رامي كان متضامنا مع السنباطي ومع طلبه.
والطريف أن أم كلثوم -رغم خلافاتها تلك- استفادت من هذه القوانين حين تعاقدت مع محمد فوزي وشركته “مصر فون” ووضع لها نسبة ٣٠ ٪ من مبيعات الاسطوانات حق أداء علني كسبق لم يحدث لأي مطرب أو مطربة، بل سبق قانوني لم يكن معروفاً سوى في الخارج، ولم يكن حتى قانون حق المؤلف ٣٥٤ لسنة ١٩٥٤ قد أقر وإنما تم إقراره بعد ذلك بثمان وأربعين سنة في القانون ٨٢ لسنة ٢٠٠٢، وظلت هذه النسبة محفوظة لها حتى عندما انتقلت الشركة للدولة بعقد تخارج بين محمد فوزي وشركة صوت القاهرة بعدما حصل على ثمن حصته في الشركة وتم تأميم حصة الشريك الأجنبي فقط على عكس ما يتردد من تأميم نصيب محمد فوزي، ولا يزال ورثة أم كلثوم يستفيدون من هذه النسبة.