في مسرح الحياة، حيث تتصارع القيم والمبادئ مع واقعٍ يعجّ بالتناقضات، ينبثق صوت «آرثر ميلر»، ذلك الكاتب المسرحي الذي حمل مشعل الحقيقة في دروب الزيف والخداع، لم يكن مجرد كاتبٍ يخطّ الحكايات، بل كان شاهدًا على زمنه، ناقدًا لاذعًا لمجتمعٍ يرتدي أقنعة الزيف، وغاص آرثر ميلر في أعماق النفس البشرية ليستخرج منها صراعاتها الخفية وآلامها المستترة حتى عرف بأنه ضمير المسرح الأمريكي.
في مسرحيته «موت بائع متجول»، رسم «ميلر» بفرشاة الحزن مأساة الإنسان العادي الذي يسحقه وهم النجاح، وفي البوتقة أضاء بنور كلماته ظلمة التعصب والاضطهاد، فكانت مسرحياته مرآة تعكس حقيقة المجتمع الأمريكي، وتفضح زيف الحلم المغلف بالبريق الكاذب.
ولم يكن «ميلر» كاتب مسرحي، فقط بل فيلسوف درامي صنع من الخشبة منصةً للحقيقة، ومن كلماته نوافذ تطلّ على أسرار النفس البشرية، ليظلّ اسمه نقشًا خالدًا في ذاكرة المسرح الإنساني.
وظل «ميلر» واحدا من أهم الكُتاب المؤثرين في المسرح والسينما الأمريكية، وكذلك الأدب، على مدار ما يقرب من 61 عاما، وهو من أبرز كتاب الدراما في القرن العشرين وأشهرهم على الإطلاق، حيث لاقت مؤلفاته على المستوى العالمي شهرة واسعة وراج تقديمها على خشبات المسارح بعد ترجمتها للعديد من اللغات، كما دُرست مؤلفاته في أغلب الجامعات المتخصصة في دراسة الفن عامة والمسرح خاصة فما زلنا إلى يومنا هذا نشاهد على خشبة المسرح نصوصه المسرحية، برؤى متعددة ومغايرة.
الميلاد والنشأة
ولد «ميلر» لعائلة يهودية في 17 أكتوبر 1915م متوسطة الحال في مدينة نيويورك، كان والده أيسيدور ميللر بولوني مهاجر إلى الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى وكان مصمم وصاحب محل أزياء نسائية والذي دمر في فترة الكساد العظيم عام 1929 مما كان سبباً في تأثر آرثر لتنقله من حالة ميسورة إلى الفقر.
أمضى«ميلر» دراسته الابتدائية في هارلم من عام 1920 إلى 1928 وشاهد المسرح لأول مرة في 1923 على مسرح شوبرت، قضى دراسته الثانوية في مدرسة أبراهام لينكون الثانوية، قضى دراسته الثانوية في مدرسة أبراهام لينكون الثانوية بالقرب من جزيرة كلوني في بروكلين بنيويورك وكان ميلر متفوقاً رياضيا ولكنه كان ضعيف دراسيا تم رفض طلبه الالتحاق بجامعة ميشيغان.
البداية في عالم الكتابة المسرحية
بدأ «ميلر» حياته المهنية في عالم الكتابة المسرحية بعد سنوات الكساد التي سادت الثلاثينات وفيها اضطر «ميلر» إلى أن يمتهن الكثير من المهن والحرف الصغيرة كمصدر للحصول على المال وكان يضع 13 دولار من كل 15 دولار يكسبها في صندوق اخرج«ميلر» من سنوات الكساد العظيم بأمريكا في الثلاثينات بالقرن العشرين .
وبدأ«ميلر» عقب تلك الفترة الكتابة الدرامية سنة 1938م فور تخرجه من جامعة ميتشجان، ولم تكن الكتابة الدرامية أولى خطواته في عالم الفن بل بدأ بالالتحاق في مجال الصحافة مع بداية التحاقه بالجامعة، ثم انتقل إلى الأدب الإنجليزي، وفي تلك الأثناء كان اهتمام «ميلر» منصبا حول الأدب اليوناني القديم وكتابات هنريك إبسن والذي أصبح منهجه فيما بعد متخذا المسار نفسه الذي سلكه الأخير، حيث الرغبة في إسقاط الضوء على النظم التي تقمع الانسان، وعليه قال عنه الكثير أنه امتدادًا لـ «إبسن».
نقد المجتمع الأمريكي
كان «ميلر» يكسب عيشه من العمل في مصنع، إلا أنه سرعان ما التحق بمؤسسة «فيدرال ثياتر روجكت»، المتخصصة في توفير عمل للممثلين والكتاب، في نيويورك وبدأ كسب عيشه من كتابة السيناريوهات. عُرضت أولى مؤلفاته على المسرح في برودواي، بعنوان «الرجل الذي كان ينعم بكل الحظ»، والذي كتبه عام 1944.
وبزغ نجم آرثر ميلر من خلال مسرحيته «كلهم أبنائي» عام 1947، والتي تدور حول صاحب مصنع قام ببيع قطع غيار محركات طائرات معطوبة للجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، حصدت المسرحية جائزة دائرة نقاد الدراما بنيويورك وجائزتي توني.
و مسرحية «موت بائع متجول» أصدرها عام 1949، و حصلت على جائزة بيرلتز وجائزتي توني وكذلك جائزة دائرة نقاد الدراما بنيويورك، وكانت أول مسرحية تحصل على الجوائز الثلاث وعرضت هذه المسرحية حوالي 700 مرة، وترجمت إلى أكثر من 20 لغة بعد شهور على ظهورها.
اقتبس «ميلر» من «إبسن» مسرحيته «عدو الشعب» ردًا على «الرعب الأحمر» التي كتبها «جوزيف مكارثي، فذهب إلى بلدة «سالم بماساتشوستس».
تم افتتاح مسرحيته «المحنة» (لبوتقة) في برودواي في 22 يناير 1953 وهي أكثر مؤلفات «ميلر» إنتاجًا من المسرحيات أو الأفلام، يربط «ميلر» فيها بين الحرب الباردة والمكارثية وبين محاكمة سحرة سالم، وهي تعالج موضوع معاقبة السحر والشعوذة في إحدى مدن أمريكا، وهي مدينة «سالم بولاية ماساتشوستس، ولسان حاله يقول «إياك أعني واسمعي يا جارة» ضد حملة لجنة تحقيق النشاط المعادي لأمريكا
في 1955 تم افتتاح الدراما الشعرية «نظرة من الجسر» واعتبرها المشاهدون بعيدة عن الروح الشعرية، ثم تم تعديلها لتعتبر مسرحية نثرية على الطراز اليوناني التراجيدي التقليدي في العام التالي.
ولم يكن من الغريب أن يستبعد كاتب في حجم «ميلر» من الحياة الثقافية الأمريكية، عقب الحملة «الأدبية» الشهيرة التي شنت عليه لاحقا في عام 1972، عندما كتب مسرحيته «خلق العالم وأعمال أخرى»، التي تدور فكرتها حول الصراع بين الخير والشر بطريقة كوميدية من خلال قصة حواء وآدم، وتوقفت هذه المسرحية عن العرض بعد عشرين ليلة، غير أن مسرحيته «الزجاج المكسور» التي عرضت في مسرح «بوث» في نيويورك عام 1994 أعادت إليه الاعتبار المسرحي، وكانت تلك المرة الأولى التي يقدم فيها مسرحية جديدة له على مسارح برودواي مدة 14 عاما كاملة.
رائد الدراما الحديثة .. و رافض الاستيطان
في 1 مايو 2002 حصل «ميلر» على لقب رائد الدراما الحديثة من إسبانيا، وفي العام التالي حصل على جائزة القدس، والتي كان قد فكر في رفضها ولكنه قبِلها بعدما أرسل شريط فيديو ينتقد فيه سياسة الاستيطان وقتل المدنيين قائلاً: «إن قمع الفلسطينيين والمستوطنات في الضفة الغربية، خيانة لمثل التوراة العادلة »، ودعا إلى قيام الدولة الفلسطينية على أراضيها.
آخر مسرحيات «ميلر» كانت دراما كوميدية بعنوان «إنهاء الصورة» تم افتتاحها في خريف 2004 ، عرضت على مسرح جودمان وهذه المسرحية هي توثيق للوقت الذي قضاه «ميلر» و«مونرو» في تصوير فيلم «سيئو الحظ» 1961، وكان زواجهما في هذه الفترة في تدهور نتيجة لإدمانها المخدرات، وامتدت حياة «ميلر» الأدبية لنحو 70 عامًا ويعتبر ضمير المسرح الأمريكي.
منهج «ميلر» المسرحي
يعتبر منهج «ميلر» المسرحي مطابقا لمنهج المسرحي النرويجي هنريك إبسن (1828 - 1906)، مؤسس مدرسة الواقعية الاجتماعية التي كانت تهدف إلى زيادة الإدراك والوعي بالحياة وتغيير الواقع الاجتماعي.
وفي مسرحية «ميلر»الأخيرة كان يطرح وجهة نظره حول المستقبل السياسي للولايات المتحدة، حيث كان ميلر يعتقد بأن السياسة في بلده تُدار من قبل أصحاب رؤوس الأموال وليس السياسيين.
بسبب تجربة «ميلر» الشخصية في شبابه، وتعرض عائلته إلى هزة اقتصادية عنيفة خلال الأزمة التي شهدتها الولايات المتحدة في سنة 1931 والتي عرفت باسم، الكساد العظيم، ارتبطت فلسفة «ميلر» الشخصية بصراع مع قيم الرأسمالية التي شاهدها تلتهم العاطلين عن العمل والمهمشين، بسبب وصولهم إلى الخمسينيات من أعمارهم، وعبر «ميلر» عن هذا الجانب الإنساني في مسرحية «اتصالات السيد بيتر» أو «علاقات السيد بيتر»، كان ميلر لا يزال متمسكا بفكرته القديمة بأن على المسرح أن يهز الإنسان، وينسف الأشياء التي تفتقر إلى المعنى.
جوائز وتكريمات
حاز آرثر ميلر على مدار مشواره الفني على الكثير من الجوائز منها.. جائزة بوليتزر و جائزة نقاد الدراما 1949، عن مسرحيته الأكثر شهرة «موت بائع متجول» والتي ترجمت إلى أكثر من 20 لغة بعد شهور على ظهورها ولا زالت تدرس وتعرض حول العالم أعمال ميلر باتت من أكثر الأعمال المقروءة والمقتبسة على خشبة المسرح في أنحاء العالم.
كما نال «ميلر» جائزة آفري وود، وأيضاً جائزة توني، بالإضافة إلى جائزة القدس، جائزة المسرح من نادي القلم، وميدالية الفنون الأمريكية وحصد الكثير من النجاح والاحتفاء من جمهوره والنقاء والمسرحيين في مختلف دول العالم، وقدم عن العديد من مؤلفات ومسرحيات «ميلر» أفلاما بالسينما العالمية والعربية والمصرية.
كان آرثر ميللر متزوج الممثلة و مارلين مونرو استمر زواج خمس سنوات، وبعد طلاقهما، تزوج للمرة الثالثة عام 1962، وفي تلك السنة انتحرت مونرو.
رحيل وأثر باق
انتهت حياة ضمير المسرح الأمريكي آرثر ميلر في مثل هذا اليوم 10 فبراير
عام 2005، بعد صراع مع المرض، وبرحيله فقدنا رائدا من رواد المسرح العالمي في نفس اليوم الذي كان يصادف الذكرى السادسة والخمسين للعرض الأول لمسرحيته الشهيرة «وفاة بائع متجول» على خشبة مسرح برودواي.
![](https://back22.darelhilal.com/media/news/2025/2/10/2025-638747542466397366-639.jpg)
![](/)