فى الأزهر الشريف وعبر تاريخه الممتد كانت المذاهب الفقهية الأربعة تدرس، ولكل مذهب شيوخه وطلابه، المذهب الحنفى والشافعى والمالكى والحنبلى، وطوال تاريخ الأزهر لم يحدث أن تولى مشيخة الأزهر أحد الفقهاء الحنابلة ولا حتى نافس على هذا الموقع الجليل، كان التنافس غالبا بين الشافعية والحنفية، وأحيانا المالكية، السبب أن الحنابلة، يميليون إلى التشدد والأصولية أكثر، بينما المذاهب الثلاثة كان بها قدر من المرونة والتيسير على الناس؛ وكان الفقهاء يجتهدون دائما في تقديم الآراء التى تهون على الناس أمور دنياهم، عملا بأن الدين يسر في المقام الأول، كل هذا يرجع إلى أن المجتمع المصرى بحكم كثير من العوامل الجعرافية والحياتية يميل إلى الاعتدال ويأخذ به، من قديم الزمان، وإلى يومنا هذا.
وحين جاء الفقيه والإمام ابن تيمية إلى مصر، راح يلقى بآرائه المتشددة في حق التصوف والمتصوفة، غضب الأهالى واحتجوا، كان ابن تيمية يلقى دروسه في أحد المساجد بمنطقة مصر القديمة، وبسبب الغضب مما قال والاحتجاج عليه، تم نفيه من القاهرة إلى الإسكندرية ومنها عاد إلى الشام..
مصر بلد نهرى، يعيش أهله حول النيل في الوادى والدلتا، وهى بلد يقع بين آسيا وإفريقيا، شبه جزيرة سيناء في قارة آسيا، وتطل مصر بساحل ممتد على البحر المتوسط المنفتح والمتنوع جغرافيا، ما بين الصحراء والوادى، البحر المالح والنيل العذب، البحر المتوسط بوابتنا نحو أوروبا وبلاد الشمال والنيل يربطنا بإفريقيا، في هذه الطبيعة لا مجال للتشدد، باختصار التشدد يعنى الرؤيا الأحادية الحادة والجامدة لكن طبيعة الحياة المصرية لها أكثر من بعد وأوجه متعددة، وقد انعكس ذلك على التاريخ والحضارة المصرية بمعناها الواسع، التشدد لا يسمح باستقبال الجديد واستيعابه إذ أنه في أحد جوانبه الجمود والتصلب.
ولعل هذا ما جعل الجماعات المتشددة التى تلقى علينا بين حين وآخر بأسماء مختلفة، لا تلبث أن ينكشف أمرها ويتجنبها عموم المواطنين ويكون مصيرها التبدد والزوال أو التراجع إلى حيز ضيق للغاية، في كل الأحوال لا تصبح تياراً رئيسا يمكن أن يقود المجتمع أو يحدث نحولا به، حتى اللحظات التاريخية التى يحدث أن تزدهر فيها جماعة متشددة فإن ذلك يحدث حينما نتسلل إلى الجمهور من باب التيسير والمرونة، خاصة في بعض جوانب الحياة الاجتماعية، ثم ينقلب الأمر مع انكشاف الخداع وظهور موجة التشدد.
وحين استطاعت إحدى الجماعات الوصول إلى الحكم سنة 2012، قلنا "إما أن يتمصروا أو يفشلوا"، واندهشوا وقتهم متساءلين أو لسنا مصريين؟ ولم يكونوا مصريين بالثقافة والتوجه العام، ذلك أن التشدد ليس وجها مصريا، لا يمكن قبوله ولا التعايش به أو معه، لهذا فشلوا على الأرض وطردهم الشعب في ثورة 30 يونيه 2013، بعد عدة إنذارات ورسائل وجهت إليهم بضرورة أن يعتدلوا، الاعتدال طبيعة مصرية.
وقد يتصور البعض أن التشدد مرفوض مصريا في الجوانب الفقهية والتدين فقط، لكنه مرفوضا كذلك في المجالين السياسى والاجتماعى، سياسيا وجدنا –مثلا– أن ثورة سنة 1919 بعد الموجة الأولى اتجهت إلى التفاوض مع المحتل، وابتعدت عن الأعمال العنيفة والمسلحة، في النهاية عبر التفاوض حصلنا على تصريح 28 فبراير سنة 1922، وأعلن استقلال مصر وتم وضع دستور سنة 1923، وسرنا في طريق التفاوض، أحيانا يتم الضغط ببعض المظاهرات كما حدث سنة 1935 كى نصل إلى معاهدة 1936، وهكذا حتى تم توقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954وتحقق الاستقلال التام.
سياسيا أيضا كانت الأحزاب والجماعات التى ترفع شعارات حادة أو تتبنى أفكارا متشددة في جانب ما، عادة لم تكن تجد جماهيرية واسعة، أمامنا نموذج حزب مصر الفتاة –مثلا– وكذلك المجموعات الماركسية في الأربعينيات، حققت هذه المجموعات جاذبية لدى بعض المثقفين والمتعلمين، لكنها ظلت بلا جماهيرية واسعة.
وحين أراد الرائد توفيق الحكيم اختيار مذهب يعبر عن فلسفته في الحياة وما يرى أنه تعبيرا عن الثقافة والروح المصرية، اختار "التعادلية"، أو هكذا أطلق عليه، وكان يقصد التعادل بين المتناقضات أو الجوانب المغايرة، الظاهر والباطن، الداخل والخارج، المادة والروح وهكذا، بنى توفيق الحكيم رؤيته تلك على استقراء دقيق للحضارة المصرية والتاريخ الطويل، ولم يكم غريبا أن يصدر في معرض القاهرة الدولى للكتاب، الشهر الماضى كتابا بعنوان "فلسفة الاعتدال"، بنى المؤلف د.محمد فتحى القرش كتابه على أن الاعتدال يعنى التوسط أو الوسطية المصرية وقد عالج الكاتب فكرته بدأب شديد.
تجربة العقود الأخيرة تثبت أن التشدد في سائر المجالات لا يجد أرضية خصبة في مصر وبين المصريين، على المستوى الدينى والسياسى والاجتماعى، الذين اتجهوا إلى التشدد الدينى لم ينجحوا وكذلك الذين تشددوا في الجوانب السياسية والفكرية لم ينجحوا أيضا، في القرن التاسع عشر نجح الإصلاحيون مثل رفاعة رافع الطهطاوى وعلي مبارك وغيرهم، بينما الذين تشددوا، في أن نأخذ من الغرب كل شىء لم يجدوا أرضية لهم، وظلوا نخبويين تماما، وكذلك الحال إلى يومنا هذا.
ولعل حياة وتجربة الأستاذ الإمام محمد عبده هى النموذج الأوضح أمامنا، كان الشيخ محمد عبده فترة الثورة العرابية، ثوريا متشددا، ومع اقتراب من النهاية المأساوية والاحتلال البريطانى لمصر، غير موقفه وصار إصلاحيا مجددا فى أفكاره وفى فتاواه، حين تولى دار الإفتاء، كتابه "رسالة التوحيد" يؤكد ميله نحو الاعتدال والإصلاح.
تظهر المشكلة في أن بعض أنصار ودعاة التشدد لا يدركون أن المجتمع لن يتقبلهم هكذا، على طول الخط، وبسبب عدم الإدراك هذا، يتجه بعضهم إلى اتهام المجتمع كله، بل إدانته، وقد يتجه بعضهم إلى العنف والدم يفرضوا آراءهم وموقفهم على الآخرين، أقصد المجتمع كله.
بعد تنحى الرئيس حسنى مبارك عن الرئاسة في 11 فبراير 2011، كان بعض الشباب الثوريين يدعون إلى مليونيات في بعض أيام الجمعة، وذات مرة طالبوا بمليونية باسم "حق الشهيد" ولم يستجب المصريون، كان رأى عموم المواطنين أن كثرة المليونيات يترتب عليها تعطل الكثير من أوجه الحياة ومصادر الرزق، وترتب على عدم تجاذب المواطنين أن وجه إليهم الشباب الداعين للمليونية، عبارات قاسية، كتبوا على الحوائط "آسفين يا شهيد الشعب طلع عبيد"، ثم راحو يتهكمون عليهم بزعم أنهم "حزب الكنبة" وكلمات أخرى على هذا النحو، لكن لم يتجهوا إلى العنف تجاه المواطنين، اكتفوا بالغضب اللفظى والبذاءة الكلامية.
بعض جماعات التشدد في فهم الدين والتعامل معه أو أولئك الذين يجعلون من الدين سلما أو خطوة نحو الاستيلاء على السلطة، يتجه إلى العنف والإرهاب، وهنا نجد أمامنا جماعة حسن البنا المسماة "الإخوان المسلمون"، هم الذين بدأوا هذا المنحى في تاريخنا المعاصر منذ سنوات الأربعينيات في القرن الماضى، حين أقدموا على اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا سنة 1945 بزعم أنه كان وراء سقوط حسن البنا في انتخابات مجلس النواب، كان البنا خاض الانتخابات في الإسماعيلية، ولأنه لم يكن من أبنائها وكان منافسه أحد وجهاء الإسماعيلية، باء بالفشل وأبى أن يعترف بالحقيقة واتهم رئيس الوزراء بالوقوف خلف فشله وأمر باغتياله، كما ورد في مذكرات كل من الشيخ أحمد حسن الباقورى وكان وكيلا للجماعة وقتها، والشيخ سيد سابق، ثم تنامى هذا الاتجاه نحو العنف والإرهاب لدى تلك الجماعة، حتى أعلنوا الحرب على الشعب المصرى كله سنة 2013 بعد إعلان خارطة الطريق يوم 3يوليو، التى وضعها رموز الأمة المصرية، كان شعار الجماعة "نحكمكم أو نحرقكم" وقاموا بنسف عدد من أبراج الكهرباء وأحرقوا عشرات الكنائس ودمروا مساجد بأكملها، مثل مسجد الفتح في رمسيس وغير ذلك، واعتدوا بالقتل على عدد من رموز الأمة مثل النائب العام هشام بركات وعدد من ضباط ورجال الجيش والشرطة.
وحين تتجه تلك الجماعات إلى العنف والإرهاب، يصبح العنف هو الهدف والغاية ويكون مع الوقت مقصوداً لذاته، لذا نجد بعضهم يتحولون إلى احتراف القتل والإرهاب وقد يمارسونه كوظيفة وبالإيجار، ويتحولون إلى مرتزقة أو مستأجرين لدى كل من يريد تصفية خصم بعينه، حدث ذلك مع جماعة حسن البنا وبعض الجماعات التى خرجت من رحمها، كما وقع من مجموعات أخرى كانت تزعم الثورية والوطنية، ردد الكاتب والقانونى ثروت الخرباوى واقعة أن جماعة حسن البنا وقفت وراء إغراق الفنانة أسمهان لحساب المخابرات البريطانية التى أخذت على أسمهان التعامل مع الألمان، اعتمد الخرباوى في روايته على شهادة رفيق حسن البنا محمود عبدالحليم.
خارج هذه الجماعة وجدنا نموذجا مثل الفلسطينى "أبو نضال" الذى نفذ اغتيال الروائي يوسف السباعى في "نيقوسيا" عاصمة قبرص، بتكليف من المخابرات العراقية سنة 1978 انتقاما منه لأنه ساند مشروع السلام المصرى، خارج عالمنا العربى هناك نموذج شهير وهو "كارلوس" الإرهابى الذى سلمه الرئيس عمر البشير إلى فرنسا، "كارلوس" الفيزويلى الأصل بدأ يساريا ثم صار قاتلا محترفا.
خبرتنا المصرية أن التشدد والعنف خطر على المجتمع، حين نفذت مجموعة وطنية متشددة سنة 1924 اغتيال "السيرلى ستاك" في أحد شوارع الزمالك، وكان سردار الجيش الإنجليزى في السودان، خسرت مصر في تلك العملية التهكمية من مكتسبات ثورة 1919، إلى حد أن الزعيم سعد زغلول قال يومها لقد أصابتنى أنا الرصاصات.
لهذا كله فإن دعوات جماعات التشدد لا تجد أرضا خصبة في مصر ولا يتعامل معها المصريون إيجابياً، بل يلفظونها وهذا ما يجعلنا نثق أن جماعة الإرهاب لا مكان لها هنا.
الاعتدال أو التعادلية بتعبير توفيق الحكيم سمة مصرية عميقة.