الأربعاء 2 ابريل 2025

مقالات

البهجة صناعة مصرية

  • 1-4-2025 | 15:40
طباعة

الابتسام والضحك والبهجة والسعادة والرضا، مفردات يومية يتميز بها الشعب المصري ويشعر بها أي زائر وتكون هي أكثر ما يعلق في ذهنه من الزيارة، اعرف انك عزيزي القارئ قد تكون مررت على المصطلحات السابقة و توقفت عند مصطلح "السعادة" ببعض الاستغراب او الرفض او الاستهجان و قد تكون لاحظت غياب مصطلحات أخرى كالسخرية والكوميديا  المتنوعة من كوميديا الموقف حتى الكوميديا السوداء و اعتقد أيضا ان القارئ قد ينتظر مقالا علميا فلسفيا لتعريف المصطلحات السابقة و بيان الفارق بينهم و تصحيح المفاهيم الملتبسة حول هذا المصطلح او ذاك او  توضيح العلاقات التراتبية او ننظر اليها نظرة جدلية تقليدية او حديثة خارج الصندوق، و الحقيقة ان كل المحاولات لفك شفرة البهجة لدى الشعب المصري لن تستطيع ان تصل الى ملامح الصورة الكلية بدقة، فالمصري قد يلقى بأكثر التعليقات سخرية في اكثر المواقف جدية او مأساوية كما قد تنهمر الدموع من العيون في اكثر المواقف سعادة.

والمتابع لهذا السلوك لن يستطيع بسهولة ان يتكشف ان الامر مرتبط بالجينات المصرية وليس افتعالا او تقليدا لمجتمع او شعب اخر، لن يكتشف ذلك الا بعد الكثير من المواقف التي تؤكد له ذلك، ان ترى رجلا على فراش الموت يبتسم ويرفع من الروح المعنوية للمحيطين به، او ان تجد مصريين من كافة الفئات وربما بينهم الكثير من الاختلافات الثقافية والتعليمية و الاجتماعية ولكن تجمعهم ضحكة صافية على تعليق سمعوه او حكاية ساخرة او موقف او مثل شعبي حكيم وضاحك في نفس الوقت.

قبل ان ننتقل الى استعراض بعض من ظواهر البهجة ينبغي ان نؤكد ان كل هذه البهجة والضحكات الساخرة لا تعنى تسيبا او ميلا الى التراخي ولكنها تنم عن ذكاء شديد وإحساس مرهف وذهن قادر على التقاط ما لا يراه الاخرون بسهولة، كما ان حاجة البهجة هي الضلع الثالث بعد الماء والهواء في حياة المصريين مهما كانت الظروف او الاحداث والمواقف.

 

تأصيل غير مؤصل

لا شك في اننا نعتبر من أكثر شعوب الأرض ظرفا، وكما شبق القول فهذه ليست شهادتنا نحن في أنفسنا ولكنها شهادة كل من يحتك بنا من شعوب الأرض المختلفة، خفة دم وظرف ودعابة وسخرية، سخرية من الاخر وسخرية من احوالنا أيضا، سخرية وضحك في الازمات وفي أحلك الظروف، الامثلة لانهائية، وليس المقصود هنا النكات التقليدية تلك التي تراجعت معدلات اطلاقها منذ الالفية الثالثة، اختفى السؤال التقليدي "ايه اخر نكتة؟" كما اختفى استهلال الحديث بسؤال "سمعت اخر نكتة؟ وفى تقديري فان تراجع النكتة يعود ويرتبط بعصر المعلومات الذي اوجد اليات وادوات أخرى يمكن لنا من خلالها ممارسة الظرف والاضحاك.

 

من الملاحظ أيضا في الحالة المصرية ان مستوى الضحك والسخرية يرتفع عاما بعد عام، يمكن ملاحظة ذلك عند مشاهدة الاعمال الفنية مثل مسرحيات الستينيات الكوميدية ومدى تفاعل الجمهور مع ما يعرض وما يقال وتقارن ذلك بما نراه اليوم -بغض النظر عن الانتقادات الأخرى- فالحديث هنا عن البهجة والضحك.

 

والعجيب انه في محاولة لتأصيل الحالة المصرية المبهجة من خلال البحث البسيط على شبكة الانترنت الا انه اظهر ان الامريكان هم أكثر شعوب الأرض ظرفا والالمان هم الأقل ظرفا، استطلاعات أخرى ترى ان أكثر خمسة شعوب ظرفا هي شعوب كندا والمملكة المتحدة والهند والدنمارك وماليزيا، الاستطلاعات تتم على نطاق صغير، عدد قليل من الدول وعدد محدود من المبحوثين لهذا فان النتائج قد تكون صادمة ومحبطة احيانا.

 

ولكن للأمانة فانه بالرغم من ان الضحك لغة عالمية الا ان الظرف والسخرية والإضحاك يعتمد على عوامل عدة منها المنطقة او المكان او المدينة او الدولة كما يعتمد على اللغة والعادات والتقاليد ويعتمد أيضا على ثقافة المرسل والمستقبل

 

 

 

منذ عهد الفراعنة والى المستقبل

 

ربما يمكن ان نرصد العديد من المواقف او الرسومات والنقوش على جدران المعابد الفرعونية التي تحتوي على بعض من السخرية او الرمز او البهجة والسرور، كما نجد ذلك ايضا في العديد من البرديات لعل أشهرها بردية موجودة في المتحف المصري تصور انثى فأر يقوم على خدمتها عدد من القطط وغير ذلك من النقوش الساخرة والرمزية والتي لا تقتصر على تلك البريدة وحسب بل نجد العديد من المناظر والمشاهد على جدران المعابد تحتوى في مضمونها على مواقف ساخرة او فكاهية ولا يقتصر الامر على اعتبار الضحك و البهجة من مكملات الحياة او لتعين الانسان على الاستمرار في تحمل مشاقها و لكن ينظر المصري القديم للضحك والمرح بنظرة اكثر عمقا و قدسية ولذلك خصص  للضحك و المرح الاله "بس"  لاستلهام الفرح وابعاد الألم و الحزن  هذا الاله يتم تصويره على هيئة قزم منتفخ الوجنتين، وله ذقن تشبه المروحة، وترتسم على وجهه علامات الوجوم لتثير الرعب في نفوس الأشرار وحتى اليوم ما يزال تمثاله الموجود بمعبد دندرة غرب محافظة قنا هو الأكثر اقبالا من قبل السائحين و زوار المعبد.

من مناطق البهجة والسخرية والحكمة أيضا ما نرصده في الامثال الشعبية المصرية القدية والتي مهما كان الدرس قاسيا والعبرة كبيرة الا ان للمصريين قدرة عجيبة على صياغة الامر في مثل شعبي ساخر ضاحك باكي له رنين لا تخطاه الان ولا ينساه العقل وتستمر الحكمة في الاذهان وتتناقلها الأجيال أيضا ووصل كم هذه الامثال الى وجود أكثر من مثل ساخر يعبر عن نفس المضمون ويصل لنفس النتيجة او يرصد نفس الظاهرة ومن الأمثلة على ذلك "القرد في عين امه غزال" و"الخنفسه عند امها عروسه" ومن الأمثلة الأخرى على ترادف الفكرة  "نقول تور يقولو احلبوه" و"أقول له أغا يقول ولاده كام"، من روعة الامثال المصرية أيضا انها ترتبط بواقعة او موقف استطاع المصري ان يرصده و ينتقى منه الحكمة او المفارقة او الامر الغريب الذى يستحق الانتباه و التخليد وافادة الاخرين مثل "اللي اختشوا ماتوا" والتي قيلت بعد وفاة عددا من السيدات داخل حمام بلدي بسبب الحريق وخجلهن من الهرب عرايا، او المثل "احنا دافنينه سوا" عن مقبرة دفن بها حمار واستغل أصحابه الامر في إقامة مولد سنوي وعندما اختلفا في احد الأيام قام احدهما بالقسم بالشيخ  الراقد تحت القبة وهنا انبرى الاخر اليه مستنكرا ومعترضا، وهنا تجدر الإشارة الى كتاب "الامثال العامية" لمؤلفه احمد تيمور باشا الذى جمع فيه اكثر من ثلاثة الاف مثل شعبي  تجمع بين البهجة و العظة والحكمة في ان واحد وفى نفس الجملة أيضا.

 

البهجة في الأعياد والموالد ومواضع اخرى

وبذكر الموالد والتي تقام على مدار العام في مصر للتذكرة بأولياء الله الصالحين الموجودة مراقدهم في كل مكان، حيث يلتف المحبون والمريدون وأنصار الشيخ او الطريقة وسائر الناس حول المقام ويكثر الانشاد والذكر وتوزيع الطعام والحلوى والملابس والألعاب ويقدم البعض عددا من الألعاب السحرية والحيل المهارية والفقرات الراقصة والضاحكة و يكفى ان نعرف ان عدد هذه الموالد لا يقل عن 2850 مولدا وذلك بحسب ما ذكره   الدكتور سيد عويس في الجزء الخاص عن "التصوف" والذي أصدره الهلال في أول يونيو 1985 بمقال عنوانه "الطرق الصوفية في المجتمع المصري".

اما عن بهجة الأعياد فحدث ولا حرج سواء اكانت أعياد ومناسبات دينية مثل شهر رمضان وعيد الفطر وعيد الضحى للمسلمين وأعياد الميلاد والقيامة والغطاس للمسيحين وليس المجال هنا لاستعراض الأعياد بالتفصيل ولكن ما نستطيع ان نرصده كقاسم مشترك بين المناسبات والأعياد هو شيوع البهجة والارتباط بالزاهي من الألوان سواء في المأكل او الملبس وينتشر أيضا في اغلب تلك الأعياد والمناسبات التزاور بين الناس والخروج الى المتنزهات وشواطئ النهر او البحر.

من مظاهر بهجة المصريين في الأسواق والطرقات ما اعتاد عليه بائعو السلع -خاصة الخضروات والفاكهة- من نداءات مغناه و منغمة او أحيانا معزوفة على الة موسيقية شعبية كالربابة او الطبلة وفى بعض الأحيان تكون النداءات راقصة وهى مبهجة ومضحكة في الكثير من الأحيان وفى جميع الأحوال فان لتلك النداءات المبتكرة الكثير من التأثير و المساهمة في رواج السلع ولا ننسى أيضا غناء العمال في المصانع والفلاحين في الحقول و أصحاب الحرف المختلفة في ورشهم الصغيرة او اثناء تجولهم في الطرقات وهو ما الهم العديد من المبدعين للاستعانة بتلك الفنون التلقائية في اعمال فنية خالدة ومن اشهر الأمثلة على هذا ما قام به فنان الشعب الموسيقار سيد درويش حيث كان يستمع الى تلك النداءات ثم يهرع الى صديقه بديع خيرى و ما هي الا سويعات  ويكون اللحن جاهزا تتناغم موسيقاه مع الكلمات.

من اشكال البهجة الممتدة في الشارع المصري ما أطلق عليه الدكتور سيد عويس تعبير "هتاف الصامتين" ورصده في كتابه الذي حمل نفس الاسم والذي عمل عليه لمدة ثلاثة سنوات انتهت بإصداره عام 1971 رصد فيها ما يكتبه المصريون على المركبات والسيارات ووسائل النقل المختلفة من حكم وامثال واقوال وادعية وخواطر وذلك بالدراسة على حوالى 500 مركبة وهو رقم كافي من الناحية العلمية والاحصائية لتشريح الموقف وتحليله، بالطبع و بعد اكثر من خمسين عاما قد نحتاج الى إعادة تلك الدراسة لإضافة وسائل انتقال جديدة شكلت ظاهرة في حد ذاتها.

من مصادر البهجة المباشر ما كان معروفا ومشهورا عن المصريين من القاء النكات والقافية، تلك النكات لها مؤلفين وناشرين وفنانين للإلقاء كانت مهمتهم اضحاك المصريين وهي مهمة في غاية الصعوبة وتحتاج الى خفة دم وذكاء غير مسبوقين وهو تحدى يشعر به كل فنان او مؤدى يحاول ان يقوم بهذه المهمة، ونتذكر ذلك الزمن الذي كان للنكتة أهمية وحضور في كافة المجالس وكان الناس يبدئون المقابلات بالسؤال عن اخر نكتة او للتبرع بإلقائها قبل بدء أي لقاء.

ما سبق كان بعض الإشارات الى مظاهر البهجة في عصور ما قبل عصر المعلومات الذى يطلق عليه أحيانا عصر انتشار شبكة الانترنت ووصولها الى كافة انحاء الأرض مع الاستخدام المحموم لتطبيقاتها المختلفة وعلى راسها منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي ومنذ ذلك الحين نستطيع ان نرصد تراجع مظاهر البهجة التقليدية في العالم الطبيعي والتي أشرنا الى بعض منها في الصفحات السابقة، وامام هذا التراجع حدث انتشار ونمو لفترات التواجد داخل العالم الافتراضي، حيث باتت السعادة داخله ومظاهر البهجة الرقمية الجديدة هي الطاغية.

التراجع في مظاهر البهجة التقليدية نستطيع ان نلاحظها بسهولة، في مظاهر الأعياد والمناسبات واحتفالات الأطفال وفي استخدام الامثال الشعبية او إطلاق النكات او حتى على مستوى هتافات الصامتين الى تراجعت بالرغم من التقدم التكنولوجي مقارنة بالأساليب القديمة.

انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي السخرية المصورة والتي يطلق عليها ميمز Mems  والتي تحمل في بعض الأحيان رسائل سلبية مدمجة و مدغمة كما ان تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة باتت تسمح بتزييف الصور ومقاطع الفيديو بسهولة وهو المعروف بالتزييف العميق Deepfake  ولكن وعلى الجان الاخر اتاحت تلك التقنيات المزيد من التواصل الفعال بين البشر واتاحت أيضا الوصول الى مصادر المعرفة والفنون بسهولة ويسر واتاح أيضا التغلب على القيود الاقتصادية او الجغرافية وفى جميع الأحوال فالبهجة -تلك الصناعة المصرية- قد تختلف في الشكل باختلاف وسيط النقل و لكنها دائما ما تحمل الروح المصرية الباسمة المتطلعة الى الحياة بنظرة تحدى  وحكمة و إصرار على الاستمرار.

 

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة