في قلب القاهرة العتيقة، حيثُ تنبضُ الحجارةُ بذكرياتِ القرون، ويهمسُ الهواءُ بحكايا السلاطين، وتحكي الشوارع قصص تاريخها وأصالتها، يقف حيّ «خان الخليلي» شامخًا كجوهرةٍ محفوفةٍ بسحر الشرق وسِرّ الحضارات وفي مقدمة الحضارات الشرقية والعربية، أيقونة السائح من خارج وطننا الغالي مصر .
هو ليس مجرّد سوقٍ تقصده الأقدام، بل أسطورةٌ حيّةٌ تنبضُ بين جدرانها الأرواحُ القديمة، وتتراقص في زواياها الألوانُ والعطورُ والحكايا.
في حي ّ«خان الخليلي»، يتعانق عبق الماضي مع أنفاس الحاضر، وتخترقُك روائحُ المسك والعنبر، كأنّك في مجلسٍ شرقيّ تدور فيه القصائد وتُنسجُ فيه الأساطير، إنه المكان الذي إذا ما زرته، شعرت أنّك لستَ تمشي فيه، بل تسيرُ في قصيدةٍ شرقيةٍ مفتوحة، تتلو أبياتها بنظرك، وتعيش معانيها بقلبك، فيا زائرَ القاهرة، لا تكتمل رحلتك دون أن تعرج على هذا السحر الخالد على«خان الخليلي»، حيثُ يبدأُ الشرقُ حديثه، ولا ينتهي!
خان الخليلي.. سحر الشرق
يُعد «خان الخليلي» من أبرز المعالم السياحية في القاهرة، بل ومن أشهر الأسواق التاريخية في العالم العربي، فمكانته لا تنبع فقط من قِدَم بنائه الذي يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، بل من كونه نافذةً حيّة تطلّ على روح الشرق وسحره الفريد.
يستقطب الخان يوميًا آلاف الزوّار من مختلف بقاع الأرض، منبهرين بأجوائه الفريدة، التي تمزج بين الماضي والحاضر في انسجامٍ قلّ نظيره هناك، تتداخل أصوات الباعة، وتتعالى أنغام العود، وتتراقص قطع النحاس والزجاج الملون تحت أضواءٍ خافتة، كأنها مهرجانٌ دائم للجمال الشرقي الأصيل.
ما يميّز «خان الخليلي» سياحيًا هو تنوعه الثقافي والحرفي، فهو ليس سوقًا فحسب، بل متحفًا مفتوحًا للحرف التراثية.. من المشغولات اليدوية، والفضيات، إلى السجاد، والعطور، والمخطوطات، وكل زاوية فيه تروي حكاية، وكل حجرٍ يحمل أثراً من حضارة.
وكما يتسم خان الخليلي بقربه من معالم تاريخية أخرى كـجامع الأزهر الشريف، منارة العالم الإسلامي والعربي، ومسجد الإمام الحسين، سبط رسول الله صلّ الله عليه وسلم، ويتجاور «خان الخليلي» مع شارع المعز لدين الله الفاطمي، يمنحه قيمة إضافية، ويجعل زيارته تجربة شاملة للروح والعقل والحواس.
تاريخ «خان الخليلي»
يبلُغ عُمر حيّ «خان الخليلي» العتيق، 600 عام، حيثُ يُعتبر واحدًا من أقدم الأسواق في أنحاء المحروسة والشرق الأوسط، وما زال مُحتفظًا بمعماره القديم مُنذُ عصر المماليك، تبعها لما جاء في الهيئة العامة للاستعلامات المصرية.
فلم يتأثر «خان الخليلي» بعوامل الزمن، وظل مُلهمًا للأدباء والفنانين، فيُحرّض أخيلتهم دائمًا على الإبداع، مثلما كتبَ، أديب نوبل العالمي نجيب محفوظ، روايتهُ «خان الخليلي» من وحيّ أجواء الحيّ القديم، واصفًا إياه بـ: «ستجِد في الشارع الطويل، عِمارات مُربعة القوائم تصِل بينها ممرات جانبية تقاطع الشارع الأصليّ، وتزحُم جوانب الممرات والشارع نفسه بالحوانيت «أيّ الدُكان»؛ فدُكان للساعاتي وخطاط وأخر للشاي، ورابع للسجاد وخامس للتُحف وهكذا، بينما يقع هُنا وهناك مقاهي لا يزيد حجم الواحدة منها عن حجم الحانوت «الدُكان» الصغير، وقدّ جلسَ الصنَّاع أمام الدكاكين يكبون على فنونهم في صبر.
مبنى حي «خان الخليلي»
والخان هو مبنى على شكل مربع كبير، ويحيط بفناء يُشبه الوكالة، فيما تضُم الطبقة الوسطى منهُ المحلات، أما الطبقات العليا فتحتضِن المخازن والمساكن، بينما ترجع تسميتُه إلى صاحب أمر إنشاءه عام 784هجريًا، أيّ 1382 ميلاديًا، وهو الأمير «جهاركس الخليلي»، أحد الأمراء المماليك، من مدينة الخليل في فلسطين، وتروي الحكايات التاريخية إنّهُ بعد مقتل «الخليلي» في دمشق، أزالَ السلطان المملوكي قنصوه الغوري الخان، وأقامَ مكانُه وكالات ودكاكين للتُجار، فاكتسب المكان طابع تاريخيّ مُحلىَ بآثار المماليك.
و يطالعنا المؤرخ العربي الأشهر «المقريزي» الذي يقول إن«الخان» مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، تشمل الطبقة السفلي منه الحوانيت، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى منشئه الشريف « الخليلي»الذي كان كبير التجار في عصر السلطان «برقوق» عام 1400م.
ومع مدخل «الخان» يبحث السائح العربي والأجنبي وكذلك المصريين عن مقهى الفيشاوي، الذي يزيد عمره عن مائتي عام، وهو من أقدم مقاهي القاهرة، وكان الكاتب الكبير والأديب العالمي نجيب محفوظ من أشهر رواده في فترة الستينات من القرن العشرين.
عطور «الخان»
وتسبح في الفضاء روائح جميلة تصل إلى السائح الذي يعبر الزقاق في اتجاه شارع الموسكي حيث تكثر تجارة العطور العربية والآسيوية والأوروبية، هنا عطر الملك، والعنبر، والياسمين والفل، مئات وربما الآن زجاجات ذات أشكال وألوان غريبة تحتوى عطورا غير مألوفة تتراوح ألوانها ما بين الزيتي في لون البترول الخام، والأصفر الذهبي، والبنفسجي الممزوج بالعنبر.
في النهاية، يبقى حيّ «خان الخليلي» أكثر من مجرد وجهة سياحية؛ إنه رحلة عبر الزمن، ومسرح للشرق في أجمل صوره، فمن زاره مرة، لا بد أن يعود إليه شوقًا، ومن لم يزره بعد، فقد فاته الكثير من سحر القاهرة العتيقة.
