الأعياد مرآة صادقة تعكس حضارة الشعوب وتاريخها وتراثها كما إنها ترجمة أمينة لوجدانها عبر العصور.. ولا جدال أن مصر بما تمثله من عراقة وأصالة وحضارة تزخر بعشرات الأعياد والاحتفالات والكرنفالات الدينية والقومية والاجتماعية..
إن الكثير من الأعياد والاحتفالات الدينية والقومية والأسرية التي عرفتها مصر الإسلامية كانت لها جذور قديمة اتبعت خطاً حضارياً بدأ في مصر القديمة واستمر في العصرين الإغريقي والروماني ثم انتقل بعد ذلك إلى العصور الإسلامية التي أخذت منه ما ١تناسب مع روح الإسلام..
وقد أدرك حكام المسلمين أهمية الأعياد والاحتفالات المختلفة فاشتركوا في معظمها بما يتناسب من مكانتهم، بل واستخدموها أحيانا كوسيلة للنفاذ إلى قلوب الشعب وكسب ولائه ومساندته.
رغم الاختلاف في طبيعة الاحتفالات الدينية في مصر الإسلامية عما كانت عليه قديماً فإن العديد من العادات والتقاليد المتبعة فيها ترجع جذورها إلى الحضارة المصرية القديمة.. ومن ذلك على سبيل المثال عمل الكعك في عيد الفطر لدى المسلمين الذي يرجع إلى تاريخ مصر القديمة أو مصر الفرعونية وكان يطلق عليه أقراص لكونه مستديراً يشبه قرص الشمس، واستمر عمل الكعك بين المصريين عبر العصرين اليوناني والروماني مروراً بالعصر البيزنطي إلى أن وصل للعصر الإسلامي في عهد الدولة الطولونية والأخشيدية إلى عصر الفاطميين وأنشأ "دار الفطرة" لعمل الكعك فقط. وكذلك عيد الاضحى المبارك وذبح الأضاحي ابتهاجا بهذه المناسبة الكريمة وإحياء لنسيكة إبراهيم عليه السلام.. والعيدية كلمة عربية منسوبة إلى العيد ومعناها العطاء أو العطف وهو لفظ أطلقه الناس على كل ما كانت توزعه الدولة أو الأوقاف من نقود في عيدي الفطر والأضحى على أرباب الوظائف وتعرف في دفاتر الدواوين بالرسوم ويطلق عليها "التوسعة" في وثائق الوقف. وبدأ توزيع العيدية منذ العصر الفاطمي مع كسوة العيد خارجاً عما كان يوزع على الفقهاء وقراء القرآن الكريم بمناسبة ختم القرآن ليلة الفطر من الدراهم الفضية وعندما كان الرعية يذهبون قصر الخليفة صباح العيد للتهنئة كان الخليفة ينثر عليهم الدراهم والدنانير الذهبية من منظرته بأعلى أحد أبواب قصر الخلافة.. واستمر توزيع العيدية في عصر المماليك وكان اسمها "الجامكية" وتم تحريفها إلى العيدية وكانت تقدم على شكل طبق مملوء بالدنانير الذهبية أو الفضة بجانب المأكولات الفاخرة.
وعيد الميلاد لدى المسيحيين فلكل منهما جذور قديمة ظهرت على جدران المعابد وأوراق البردي.. كما أن فكرة استخدام المصابيح والفوانيس وإيقاد الشموع والمشاعل في ليالي الوقود وعيدي الميلاد والقيامة نبعت من أسطورة عقيدة الإله أوزير في مصر القديمة.. وأيضا استخدام سعف النخيل في مختلف الأعياد مثل أحد السعف لدى المسيحيين وعيد المظال لدى اليهود، وهي تقاليد تعود جذورها إلى حضارة مصر القديمة.
كذلك عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر الحرم أول شهور العام الهجري وقد اتفقت المراجع على أن الرسول (ص) قد صامه بعد أن علم أن اليهود تصومه تخليدا لذكرى اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون، وتذكر الرواية ان الرسول قال: "نحن أولى بموسى منكم وصامه وحبب المسلمين في صيامه" وأنه أراد أن يختلف عن اليهود فيه فقال عندما صامه، "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا يوم التاسع معه" فلم يأت العام التالي حتى توفى الرسول.
وقد ذكرت روايات عديدة أسباب أهمية هذا اليوم، منها أنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، ويوم نجاة سفينة نوح. إلا أنها جميعا روايات ذات طابع أسطوري.
عيد الغطاس يحتفل به يوم الحادي عشر من طوبة في تقويم الشهداء (التقويم القبطي)، وأصله عند الأقباط أنه اليوم الذي قام فيه يحيى بن زكريا -المعروف بيوحنا المعمدان- بتعميد المسيح عليه السلام في نهر الأردن، وكان الأقباط يحرصون في هذا اليوم على أن يغمسوا أولادهم في الماء وينزلوا بأنفسهم، وكان الاعتقاد أن ذلك يؤمنهم من الأمراض طوال العام، وقد استبدل عن الغطس فى نهر النيل فيما بعد باستعمال مغطس الكنيسة، ثم استبدل عن ذلك فيما بعد برش الماء المقدس، وكان هذا العيد من أهم الأعياد التي احتفل بها المصريون حتى أصبح بمثابة عيد قومي وليس عيداً دينيا فقط، وقد جرت العادة أن توقَد الشموع والمشاعل في ليلة العيد على ضفتي النهر، وقد ذكرت المصادر احتفال المصريين به في العصر الأخشيدي سنة 330 هجرياً وحضره (الأخشيد محمد بن طغج) فأشعلوا بأمره على ضفة جزيرة الروضة والجهة المواجهة لها في الفسطاط ألف مشعل غيرما أشعله الناس من المسلمين والأقباط الذين كانوا يحضرون الاحتفال بأحسن ما لديهم من ملابس.
عيد شم النسيم هو عيد مصري قديم يعود إلى آلاف السنين، ويحتفل به مع بداية فصل الربيع، ويرجع إلى العصر الفرعوني حيث كان يعرف باسم "شمو" وهو أحد الأعياد الزراعية المرتبطة ببداية موسم الحصاد وانتعاش الطبيعة، وأضيفت إليه كلمة النسيم لارتباطه باعتدال الجو، ومع دخول المسيحية إلى مصر ارتبط العيد بالاحتفال المسيحي بعيد القيامة (الفسح)، حيث حددته الكنيسة القبطية ليوم الاثنين التالي لأحد القيامة (حسب التوقيت القبطي).وحفظ المصريون عبر العصور طقوس العيد، مثل تناول الأطعمة المميزة السمك المملح والبيض الملون، والتي تعود إلى رموز فرعونية مرتبطة بالخصوبة والحماية من الشرور.
الاحتفال بالموالد لدى المسلمين والمسيحيين هى استمرار لما كان يحدث في أعياد الآلهة المصرية القديمة، بدءاً من وفود مجاميع المريدين إلى مكان المولد وإقامتهم في سرادقات خصصت لذلك، وزيارة الضريح والخروج في موكب أو زفة.. نستطيع أن نقول إن الفاطميين هم الذين طوروها في القرن الثالث عشر الميلادي، ومن أشهر الموالد لدينا في مصر مولد السيد البدوي والحسين ومولد ماري جرجس ومولد العذراء وغيرها، ومن المعروف أن هناك فئات من الشعب يلجأون إلى أصحاب القباب والأولياء الصالحين للتبرك بهم، وما زال إلى الآن تصنع عرائس الحلوى خلال تلك الموالد ولها نظير في الحضارة المصرية القديمة تتمثل في الحلوى التي كانت تتخذ شكل بعض الآلهة.
وبشكل عام فإن احتفالات المصريين بالأعياد تربط بين الحاضر والماضي حيث يحمل المصريون في قلوبهم تراثاً من زمن الأجداد، ويحفظون في طقوس أعيادهم بصمة خالدة من حضارة عريقة صنعت تاريخاً لا ينسى.. الطقوس ليست مجرد عادات تكرر، بل هي هوية تحفظ، وذاكرة جماعية تُنقل عبر الزمن، فهنا ندرك أن الحفاظ على هذه الطقوس سراً من أسرار الخلود.. فالمصريون برغم تقلبات الدهر يصنعون من الأعياد لوحة زمنية تجمع بين ألوان التراث وأضواء الحداثة، ليرسموا بأيديهم تاريخاً لا ينتهي ويُذكّروا العالم دائما
"من يحفظ ماضيه، يضيء مستقبله".