لم تعد الحروب في العصر الحديث قاصرة على المواجهات العسكرية فقط، بل أصبحت الحرب التجارية واحدة من أخطر أدوات الصراع الدولي، لما لها من تأثيرات متشعبة على الاقتصادات الوطنية والعالمية.
وأكد خبراء الاقتصاد خلال حديثهم لبوابة "دار الهلال" أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين لم تعد مجرد خلاف اقتصادي، بل تحولت إلى أداة صراع دولي تؤثر بعمق على الاقتصاد العالمي، موضحين أن هذه الحرب أدت إلى اضطرابات واسعة النطاق، وارتفاع معدلات التضخم عالميًا.
ورأى الخبراء أن الأزمة تتيح فرصًا لمصر لتعزيز الصناعة المحلية وجذب الاستثمارات الأجنبية، بشرط اتخاذ سياسات مرنة وحوافز إنتاجية فعالة، في ظل التحولات العالمية المتسارعة.
فمن جانبه أكد الخبير الاقتصادي الدكتور محمد عبد الهادي، إن الحرب الاقتصادية المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة تستهدف تقويض النفوذ الصيني المتصاعد، خاصة في ضوء الهيمنة الأمريكية التي ترسخت بعد اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944.
ترامب يشعل الصراع مجددًا
وأضاف أنه مع عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى المشهد، أعاد تفعيل سياسة الضغط الاقتصادي على الصين، من خلال فرض رسوم جمركية تجاوزت 100% على واردات السلع الصينية، ما دفع بكين إلى الرد بزيادة رسومها على السلع الأمريكية من 34% إلى 84%، متوعدة بمواصلة المواجهة حتى النهاية.
وأكد أن هذه الخطوات التصعيدية تسببت في اضطرابات اقتصادية عالمية شديدة، مؤكدًا أن تداعيات هذا النزاع لا تقف عند حدود البلدين، بل تمتد لتصيب أسواقًا عدة، من بينها السوق المصرية.
تأثيرات مباشرة على الاقتصاد المصري
وأشار عبد الهادي إلى أن الحرب التجارية تسهم في ارتفاع معدلات التضخم عالميًا، ما ينعكس بدوره على أسعار السلع المستوردة في مصر، ويؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية محليًا، كما أن الزيادة الكبيرة في الرسوم الجمركية عالميًا تعزز من نشاط التهريب الجمركي والسوق السوداء، وتؤثر سلبًا على الميزان التجاري المصري.
وأضاف أن تراجع القوة الشرائية عالميًا نتيجة هذه الحرب، سيؤدي إلى انكماش حركة التجارة الدولية، ويقلص من فرص التصدير والاستيراد أمام دول مثل مصر.
فرص واعدة لمصر رغم التحديات
ويرى عبد الهادي أن الأزمات تفتح دائمًا أبوابًا للفرص، حيث يمكن لمصر الاستفادة من هذا الوضع من خلال تشجيع الصناعة المحلية بتقديم حوافز ضريبية وتقليل الاعتماد على الواردات، وأيضا إبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع شركاء بديلين للصين وأمريكا، وجذب الاستثمارات الأجنبية عبر عقد مؤتمر دولي للترويج للفرص المتاحة، بجانب تعزيز سياسة الاكتفاء الذاتي من خلال مبادرات لدعم الصناعات الوطنية وتقديم قروض ميسّرة للمصانع.
الاقتصاد العالمي لن يفلت من التأثر
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي محمد أنيس، أن العالم لم يعد بمقدوره تفادي تأثيرات الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، نظرًا للتداخل العميق بين الاقتصادات الدولية.
وقال أنيس: "لا نعيش في عزلة اقتصادية كما كان الحال أيام الاتحاد السوفيتي"، موضحًا أن انخفاض النمو في الاقتصاد الأمريكي سينعكس حتمًا على الدول النامية، ومنها مصر، ويُضعف قدرتها على تحقيق معدلات نمو مرتفعة.
تشديد السياسات وزيادة المخاطر
أشار أنيس إلى أن السياسات الجمركية التي انتهجها ترامب قد تؤدي إلى موجات تضخمية عالمية جديدة، كما أن استمرار هذه السياسات سيزيد من معدلات التضخم في الولايات المتحدة، وهو ما سيؤثر بطبيعة الحال على الأسواق الدولية، وخاصة الدول النامية التي تعاني أصلًا من تحديات تمويلية وهيكلية.
فرص ممكنة في حال المرونة الأمريكية
وفي جانب الفرص، أوضح أنيس أن بعض الدول النامية يمكن أن تستفيد من الأزمة إذا تبنّت الولايات المتحدة سياسة تجارية مرنة تجاهها، ففي حال تركيز واشنطن على مواجهة الصين فقط، فقد يُتاح لمصر فرصًا لجذب استثمارات صناعية جديدة وتوسيع صادراتها إلى السوق الأمريكية، خاصة في حال وجود انفتاح سياسي واقتصادي من جانب واشنطن.
تجارة عملاقة تحت ضغط
تُظهر الإحصاءات أن حجم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا بلغ نحو 585 مليار دولار في عام 2024، إذ استوردت الولايات المتحدة من الصين بما قيمته 440 مليار دولار، بينما صدّرت لها بـ145 مليار دولار فقط، مما يعكس عجزًا تجاريًا أمريكيًا قدره 295 مليار دولار.
وتتنوع الواردات الأمريكية من الصين بين الإلكترونيات، والهواتف الذكية، والبطاريات، بينما تصدّر أمريكا إلى الصين فول الصويا والنفط والأدوية.
إعادة توجيه السلع وتفاقم الأزمة
وفي مواجهة الرسوم، اتجهت بعض الشركات الصينية إلى إعادة توجيه صادراتها عبر دول مثل ماليزيا وتايلاند وفيتنام، في محاولة لتجاوز الحواجز الجمركية، ما دفع واشنطن مؤخرًا إلى التفكير في فرض تعريفات على هذه الدول أيضًا.
كما أن الولايات المتحدة قد تُصعّد الحرب التجارية عبر تشديد الحصار التقني على الصين، خاصة في مجالات الرقائق الدقيقة المتقدمة، التي ما تزال بكين تعتمد فيها على التكنولوجيا الغربية.
ويشير صندوق النقد الدولي إلى أن الصين وأمريكا تمثلان معًا 43% من الاقتصاد العالمي، لذا فإن تصاعد الحرب التجارية بينهما قد يقود إلى تباطؤ عالمي في النمو، وتراجع في حجم الاستثمارات، إضافة إلى احتمال اتجاه الصين لـ"إغراق" الأسواق بسلعها المدعومة، مما يهدد الصناعات المحلية في دول كثيرة.