السبت 26 ابريل 2025

بورتريه الهلال

جلال الدين السيوطي.. إمام البيان ومجدد عصره

  • 22-4-2025 | 14:59

جلال الدين السيوطي

طباعة
  • همت مصطفى

في زمنٍ كانت فيه الكلمة تُوزن بالذهب، والعلم يُطلب من المهد إلى اللحد، بزغ نجمه، فهو عالِمٌ موسوعيٌّ عاش في أواخر دولة المماليك، فكان كالسراج الذي أضاء عتمة التحوّلات، والبحّار الذي غاص في محيطات العلم ليخرج منها بعشرات المصنّفات في شتى فروع المعرفة الإسلامية، وهو الكاتب الغزير، والفقير إلى ربه، الذي ترك للأمة الإسلامية إرثًا علميًا قلّ نظيره، إنه الإمام الشيخ جلال الدين السيوطي.

وكان جلال الدين السيوطي، ظاهرة علمية استثنائية، جمع بين الحافظة القوية، والبيان البليغ، والغيرة على الدين، والزهد في الدنيا، وهو الذي سُئل في إحدى المرات متى تكتب؟ فقال: «إذا وجدتُ فراغًا من نوم أو أكل أو صلاة»  فكان قلمه لا يعرف السكون، وعقله لا يعرف الركود.

ونحن في حديثنا عن الإمام جلال الدين السيوطي،  لا نستحضر رجلًا من رجال الكتب، بل نستدعي قرنًا من النور، وامتدادًا لتراثٍ مجيد، لا يزال ينبض بالحياة في مكتبات العالم الإسلامي إلى يومنا هذا.

 ميلاد في بيت العلم والصلاح

ولد  الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي،  في القاهرة  في غرة رجب سنة (849 هـ/1445م)، ونشأ في بيت علم وصلاح، ليحمل على عاتقه همّ المعرفة، وينهل من بحور العلوم حتى غدا منارة يهتدي بها طلاب العلم من المشرق إلى المغرب، لم يترك بابًا من أبواب العلم إلا وطرقه، ولا فنًا من فنون المعرفة إلا وسجّل فيه حضوره، حتى تجاوزت مؤلفاته الخمسمئة مصنف في التفسير، والحديث، والفقه، واللغة، والتاريخ، والسيرة، والأدب.

تعود جذور عائلة «السيوطي» إلى محافظة أسيوط بصعيد مصر؛ وهذا هو سبب تسميته بالسيوطي، رحل والده من أسيوط إلى القاهرة؛ لطلب العلم، ولقيا العلماء حتى أصبح من العلماء البارزين الذين يعرفهم الناس و يقصدهم أبناء الوجهاء، ونشأ «السيوطي»  في مجالس علم أبيه حتى توفي والده وهو في السادسة من عمره، فاهتم به أصدقاء والده من العلماء، وأولوه رعايتهم وعنايتهم، وعلى رأسهم الإمام الفقيه الكمال بن الهمام.

عاش  الإمام «السيوطي»  في زمان راجت فيه الحركات العلمية، وتيسرت فيه سبل العلم بما لم يتيسر في زمان قبله؛ مما ساعده على تحصيل العلوم المختلفة في زمن قياسي؛ فحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم اتجه لحفظ المتون، وطلب العلوم المختلفة، كالفقه والأصول، والتفسير، والحديث، واللغة، وغير ذلك من العلوم.

شيوخ السيوطي

رحل الشيخ «السيوطي»  في طلب العلم إلى عديد من البلدان، كالشام، والحجاز، واليمن، والهند، والمغرب، وتلقى العلم على يد كبار علماء عصره، أمثال: الشيخ شهاب الدين الشارمساحي، وشيخ الإسلام علم الدين البلقيني، و شرف الدين المناوي، و العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي، والعلامة محيي الدين الكافيجي، والشيخ سيف الدين الحنفي، وغيرهم كثيرون.  

ولم يقتصر تلقي «السيوطي» على الشيوخ من العلماء الرجال، بل كان له شيخات راسخات في العلم من النساء، أمثال: آسية بنت جار الله بن صالح الطبري، وكمالية بنت عبد الله بن محمد الأصفهاني، وأم هانئ بنت الحافظ تقي الدين محمد بن محمد بن فهد المكي، وخديجة بنت فرج الزيلعي، وغيرهن كثير.

تدريسه للعلوم وتوليه الإفتاء

برع الإمام «السيوطي» في ما تلقاه من علوم، ما جعله عالمًا موسوعيًّا في العلوم الشرعية والعربية، كعلم القراءات، والفرائض، والفقه، والأصول، واللغة، ووصل إلى رتبة «الحافظ» في علم الحديث، حتى قيل عنه: إنه خاتمة الحُفَّاظ. ▪ولما اكتملت عنده دوائر العلم وأدوات المعرفة جلس للإفتاء، وتدريس العلوم، وفي هذا الشأن يقول عن نفسه رحمه الله: (رُزقت التبحُّر في سبعة علوم: التفسير والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع)، ويقول أيضًا: (وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله، أقول ذلك تحدثًا بنعمة الله لا فخرًا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر؟!) اهـ من كتاب حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة.

تلامذة السيوطي

لا يخلو متعلم بعد «السيوطي» إلا ونهل من بحره الزاخر، واستفاد من مؤلفاته النافعة، ومن أبرز تلامذته الذين عاصروه: شمس الدين الداودي، وشمس الدين الشامي محدِّث الديار المصرية، وابن إياس المؤرخ الكبير، وزين الدين الشَّماع، وشمس الدين بن طولون.

مؤلفات السيوطي

جاوزت مؤلفات الإمام «السيوطي»  الستمائة مؤَلف في الفنون والعلوم المختلفة، ساعده على ذلك اعتزاله الناس بعد ما بلغ سنَّ الأربعين، ورفض مقابلة الأمراء والوجهاء، وانقطع في بيته في روضة المقياس على ضفاف النيل، للقراءة والتأليف، فألف الكثير من الكتب التي تُعد من أمهات المراجع في الفنون المختلفة، والتي ملأت طباق الدنيا علمًا.

ويقول عن نفسه كما جاء في مقامته «طرز العمامة في التفرقة بين المقامة والقمامة»: فليس في الإسلام قُطر إلا وقد وصلَت تصانيفي إليه، ولا مِصر إلا وتجد شيئًا من كتبي لديه، ووصلَتْ إليَّ من علماء الأمصار المطالعاتُ والرسائل، ما بين راغبٍ في تأليفي وطالبٍ لجوابِ ما بعَث به من الفتاوى والمسائل. ومن مؤلفاته في علم التفسير والقراءات: الإتقان في علوم القرآن، الدر المنثور في التفسير المأثور، ترجمان القرآن، المسند، أسرار التنزيل.

وفي علم الحديث: «كشف المغطى في شرح الموطا، التوشيح على الجامع الصحيح»، الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج»، مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود»، شرح ابن ماجه، تدريب الراوي في شرح تقريب النووي».

وفي الفقه: الأزهار الغضة في حواشي الروضة، الحواشي الصغرى، مختصر الروضة، مختصر التنبيه، شرح التنبيه، الأشباه والنظائر، إلى جانب مؤلفاته في التفسير والعربية والأصول والتصوف والتاريخ والأدب».

أقوال العلماء عنه

وقال عنه تلميذه الداودي: وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه رجالاً وغريبًا، ومتنًا وسندًا، واستنباطًا للأحكام منه، وأخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث؛ قال: ولو وجدت أكثر لحفظته، قال: ولعله لا يوجد على وجه الأرض الآن أكثر من ذلك. [ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 10/ 76.]

وقال تلميذه عبد القادر بن محمد: الأستاذ الجليل الكبير، الذي لا تكاد الأعصار تسمع له بنظير.. شيخ الإسلام، وارث علوم الأنبياء عليهم السلام، فريد دهره، ووحيد عصره، مميت البدعة، ومحيي السنة، العلاَّمة البحر الفهامة، مفتي الأنام، وحسنة الليالي والأيام، جامع أشتات الفضائل والفنون، وأوحد علماء الدين، إمام المرشدين، وقامع المبتدعة والملحدين، سلطان العلماء ولسان المتكلمين، إمام المحدِّثين في وقته وزمانه. [إياد خالد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ص5] ووصفه ابن العماد الحنبلي بأنه: المُسْنِد المحقِّق المدقِّق، صاحب المؤلفات الفائقة النافعة. [ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 10/ 74]

مجدد المائة التاسعة 

رجا الإمام «السيوطي» رحمه الله أن يكون هو إمام المائة التاسعة من الهجرة ومجددها؛ لعلمه الغزير، وتصانيفه الشاملة؛ فيقول عن نفسه: «إني ترجيت من نعم الله وفضله أن أكون المبعوث على هذه المائة، لانفرادي عليها بالتَّبحر في أنواع العلوم»،  مختارات من علوم القرآن: تركي بن الحسن الدهماني. 

جوانب القدوة في شخصيته

من خلال التعريف بسيرة الإمام  «السيوطي»  يمكننا الوقوف على أبرز جوانب القدوة في شخصيته، وهي:  الهمة العالية في طلب العلم،  إخلاص النية وإتقان العمل سببان في التميز والتفرّد، التوكل على الله والأخذ بالأسباب، الزهد فيما في أيدي الناس، اعتزاز العالم بنفسه، وثقته بعلمه، العكوف على العلم وتأليف الكتب، والانشغال بالطاعات والأعمال الصالحة التي تنفع الناس في دينهم ودنياهم.

رحيل السيوطي

رحل الإمام  «السيوطي» عن عالمنا في 19 جمادى الأولى سنة 911 هـ، ودفن خارج باب القرافة في القاهرة، ومنطقة مدفنه تعرف الآن بمقابر سيدي جلال؛ نسبةً إليه.

الاكثر قراءة