في حياة كلٍّ منا مشاهد لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة، ربما تكون هذه المشاهد تأريخًا لأحداث عشتها وتفخر أنك جزءٌ منها لتحكيها لأولادك وأحفادك، إحساسٌ بالعزة والكرامة، إحساسٌ بأنك رافض وفاعل ومؤثر حتى ولو بالقليل من المساندة، هذا الإحساس يتنامى كل لحظة، ويؤكد أنك كنت على الضفة الصحيحة من النهر، وأنت ترى الضفة الأخرى وما يحدث بها، أنك اخترت قارب النجاة الصحيح.
فلاش باك - دار الأوبرا المصرية
كم هي الأيام تمضي سريعًا، ما زلت أتذكر الشرارات الأولى لثورة 30 يونيو، التي أصبحت كعصافير النار المتطايرة، التي تحط على كل الميادين في كل المحافظات المصرية لتُشعل نيران الثورة.
وهنا أتذكر ما قامت به الجماعة الإرهابية عندما كانت في الحكم، وأخذت قرارات أشعلت الغضب داخل الحياة الثقافية والفنية في مصر، تزامنًا مع الإعلان الدستوري الذي يُحصّن مرسي وجماعته، وبداية ظهور حملة "كفاية".
أتوقف أمام مشاهد يُندى لها الجبين، عندما كانت البداية بفتوى بإلغاء فن الباليه، ومحاولة الضغط على وزارة الثقافة لفعل ذلك، ثم عزل الدكتورة إيناس عبد الدايم من منصبها كرئيسة دار الأوبرا، وتعيين المهندس بدر الزقازيقي، الذي قابلته حينئذ، وقال لي ما حدث من تخييره لتولي رئاسة الأوبرا أو جلب أحد أعوان الجماعة الإرهابية لتولي إدارتها، وقال لي إنه تحدث مع الدكتورة إيناس التي طلبت أن يوافق بدلًا من أن تُختطف الأوبرا.
هنا، وسط مشهد ضبابي لا يعرف أحدٌ ما كان يُحاك داخل الغرف المغلقة، كان الجميع يعيش لحظات ترقُّب، حتى إن بعض الفنيين بالأوبرا كانوا يصنعون ما هو أقرب إلى المونيتور تحت إحدى الأشجار لمتابعة ما يتم في الوزارة، والكل ممسكٌ بالهاتف لمعرفة الأخبار.
حتى جاء المثقفون ونجوم الفن، أو بالأدق "القوة الناعمة"، ليقولوا كلمتهم، ويعلنوا مسيرة من أمام دار الأوبرا إلى مقر وزارة الثقافة، هذه المسيرة التي كان يقودها قادة الفكر المصري، وعلى رأسهم الكاتبة الكبيرة فتحية العسال، وعندما وصلت المسيرة إلى الوزارة، تحولت إلى اعتصام مفتوح.
اعتصام المثقفين
لم ينكر أحد الدور البارز للقوى الناعمة في هذا الاعتصام، وخاصة دور فتحية العسال، التي أصبحت تبيت داخل مقر الوزارة بالزمالك.
وسرعان ما تحول الاعتصام إلى كرنفال للفنون المختلفة، فنجوم الأوبرا أمثال هاني حسن قدموا استعراضات على الأسفلت، رغم أن هذا يُهدد سلامتهم، وأبناء خالد جلال في مركز الإبداع كان لهم دور، وبعض الفنانين من أبناء الفنون الشعبية، وسط خطب عصماء من بعض المخرجين السينمائيين.
وفي وسط الاعتصام، توزعت أوراق حملة "كفاية"، وكنت قد أخذت ورقة وصورتها، وجعلت عددًا ليس بالقليل يوقّع عليها، وأعطيتهم للفنان محمود فارس في كافتيريا الهناجر بالأوبرا.
نقابة السينمائيين
داخل نقابة السينمائيين، وقفوا على قلب رجل واحد، يرفضون ما يُحاك ضد شعب مصر من أحداث، وخرج الجميع في تظاهرة إلى وزارة الثقافة رافعين الكروت الحمراء في وجه الجماعة الإرهابية.
ولا أنسى ما قام به خالد الصاوي في هذه التظاهرة، عندما كان يطالب الجميع بالانضمام إلى المسيرة، وهو يقول بأعلى صوته: "يا حبايبنا، انضموا إلينا"، لتزداد أعداد المسيرة التي خرجت من أمام الوزارة إلى مجلس الشعب، رافضين الإعلان الدستوري، والكل ممسك بأعلام مصر والكارت الأحمر، من نجوم الفن إلى نجوم الإعلام، والسينمائيين، والفنانين، والمطربين.. كان مشهدًا مهيبًا.
من التلفاز إلى الميدان
في هذه الأثناء، كنت أُنهي عملي وتواجدي في الأوبرا أو داخل الأحداث، لأُسْرِع إلى برامج التوك شو لأُشاهد ما يحدث في المقطم من غليان الشعب المصري أمام جماعة خطفت البلد إلى طريق الهاوية، حتى جاءت لحظات كتم الأنفاس، وتدخُّل الجيش، ممثلًا في الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الذي أمهل الجماعة الإرهابية ثلاثة أيام، ومعه كل ممثلي طوائف الشعب المصري، وسط تهديدات الجماعة الإرهابية بدمار مصر: "هنولّع في مصر"، كما قالوا.
هنا، نزل كل المصريين إلى ميادين مصر، وكنت واحدًا منهم.. حاولتُ اختراق الملايين في ميدان التحرير لأصل إلى كوبري قصر النيل قبل دخول الميدان الممتلئ عن بكرة أبيه، ولا أعلم كم من الوقت مرَّ لأدخل الميدان من كثرة الزحام، والكل ممسكٌ علم مصر وألعاب الليزر الأخضر، في مشهد مهيب يُقشعر له الأبدان، والطائرات تدوي فوق الرؤوس، والأغاني الوطنية تُلهب الحماس.
الحمد لله أنني عايشت هذه اللحظات والمشاهد التي أفتخر أنني كنت فيها مشاركًا، هذه المشاهد التي حمت مصر وحدودها، وانتصرَتْ للأمن والأمان والاستقرار.