ارتبط الغناء الوطني في مصر بشكل وثيق بالأحداث السياسية، بل أصبحت الأغنية مؤرخًا حقيقيًا لجميع الأحداث التي مرت بها مصر عبر العصور. فلم نجد دولة في العالم تمتلك مثل هذا الكم من الأغاني الوطنية التي أبدعها الشعب المصري. وإذا نظرنا إلى تلك الظاهرة، نجد أن طبيعة المصري وارتباطه بأرضه وحبه لوطنه جزء من كيانه وفطرته وعقيدته.
سعد زغلول
سيد درويش
وعلى الجانب الآخر، نجد أن هناك نهضة حقيقية في الأغنية الوطنية المصرية طوال القرن العشرين، وقد يرجع ذلك لعوامل كثيرة، منها كثرة الأحداث السياسية المتلاحقة طوال القرن الماضي، ابتداءً من الحرب العالمية الأولى، التي كان لها أثر كبير على شكل الأغنية المصرية، وانتشار الأغاني الخليعة في بداية القرن العشرين. وقد جاء ذلك أيضًا لأغراض سياسية، خاصة عندما أُعلنت الحماية البريطانية على مصر في عام 1914، حيث تم غلق جميع الحانات والمقاهي التي كانت تجمع الصفوة من مثقفي وفناني مصر.
فلم تكن المقاهي في وسط البلد وشارع عماد الدين خلال تلك الفترة كما نشاهدها اليوم، بل كانت مركز إشعاع ثقافي لتبادل الأفكار والتشاور في كل شؤون الحياة، وحوارات بين المتخصصين والأصدقاء. فنجد ركنًا للشعراء والأدباء، وركنًا للمهندسين، وآخر للتجاريين. ومن هنا جاء سيد درويش والريحاني وكل فناني تلك الفترة. فكانت مثل هذه اللقاءات، التي قد تُعد ندوات من التوعية والثقافة والإبداع، تمثل خطرًا حقيقيًا على الاستعمار، الذي بدوره منع أي تجمعات، وبدأت شركات الأسطوانات تسجل العديد من الأغاني الهابطة التي تُلهي هؤلاء الشباب، وكأنها حرب من نوع آخر، هي حرب ثقافية وفكرية لإبعاد الشباب عن القضايا السياسية، وانغماسهم في الملذات والانحراف حتى يفقدوا انتماءهم الوطني.
ولكن جاءت ثورة 1919، التي كان لها أكبر الأثر، خاصة في الموسيقى والغناء، لتُحدث تحولًا حقيقيًا في شكل الأغنية، ليقود تلك المرحلة المجدد الحقيقي للموسيقى العربية، الشيخ سيد درويش، الذي كان بمثابة "السوشيال ميديا" في عصره، بأغانيه التي كانت تُلهب حماس الشعب، لتتردد أغانيه في كل مكان. كما جاءت أغانيه الوطنية أكثر تعبيرًا عن تلك الفترة، ليستطيع سيد درويش أن يدخل ما يسمى بالأغنية الوطنية الصريحة والواضحة كما نعرفها بشكلها الحالي.
فقد كانت حال الأغنية الوطنية قبل ثورة 1919 لا تُعد أغنية وطنية صريحة واضحة، بسبب بطش الاستعمار الذي يرفض التغني باسم الزعماء والأبطال الذين يمثلون قدوة ورمزًا للوطنية مثل سعد زغلول. فكان الغناء يأتي بكلمات فيها تورية، وبشكل غير صريح باسم الزعيم سعد زغلول، ليُغنى له بشكل لا يفهمه الإنجليز عند ترجمة الكلمات، مثل أغنية "يا بلح زغلول يا حليوه يا بلح" وأغنية "شال الحمام حط الحمام من مصر السعيدة للسودان، زغلول وقلبي مال إليه...." لمنيرة المهدية. وكانوا يقصدون بكلمة "بلح زغلول" أو "حمام زغلول" إشارة إلى الزعيم سعد زغلول.
فلم يكن هناك غناء وطني باسم الوطن، أو أغنية وطنية تتناول قضية سياسية. فكانت ثورة 1919 هي الشرارة الأولى التي جعلت سيد درويش يُبدع أروع الأغاني الوطنية الخالدة التي يمتد تأثيرها إلى الآن، مثل: "أنا المصري كريم العنصرين"، و"بلادي بلادي"، و"أهو ده اللي صار"، و"أحسن جيوش في الأمم جيوشنا"، و"اقوم يا مصري مصر دايمًا بتناديك". فكانت هذه الأغاني مصدر إزعاج للاستعمار، وكانت تُلهب حماس الوطن بكافة طوائفه.
ولكن بعد وفاة سيد درويش في عام 1923، كادت الأغنية الوطنية أن تندثر. وكان الاستعمار بعد وفاته يمنع التغني بأغنيات سيد درويش في أي مكان. حيث قال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: "كل من يُضبط متلبسًا من طلبة معهد الموسيقى وهو يغني لسيد درويش كان من الممكن أن يُفصل من المعهد".
إلى أن جاءت ثورة 1952، وكان عبد الحليم حافظ هو أهم أيقونات تلك الثورة. وظل منذ سنواتها الأولى يقوم بعمل الكثير من الأغاني الوطنية التي كانت تُقدم في ذكرى الثورة كل عام، ليترك تراثًا من الأغاني الوطنية التي أرخت لتاريخ مصر ولكل الأحداث التي حدثت منذ 1952 وحتى وفاته في 1977.
فكانت الأغنية الوطنية التي ارتبطت بثورة يوليو هي ترسيخ لمبادئ الثورة وللاشتراكية، بل كانت الأغنية أيضًا هي المؤرخ لأهم الأحداث، مثل أغنية "حكاية شعب" التي تؤرخ لكيفية بناء السد العالي.
ولم تكن الأغنية الوطنية داعمًا فقط وقت الانتصارات أو الإنجازات، بل لعبت دورًا سياسيًا كبيرًا بعد نكسة 1967 في التخفيف عن آلام الشعب العربي، وبث أمل النصر وعدم الاستسلام. جاء شكل الأغنية في تلك الفترة يحمل مسحة من الحزن لتعبر عن الألم الدفين في قلب عربي، لكنها كانت تحمل القوة والإصرار على النصر. فغنى عبد الحليم أغنية "عدى النهار"، والتي تبدأ بأداء هادئ حزين، ثم يتصاعد اللحن بمنتهى الحماسة إلى صيحة قوية على كلمات "أبدًا بلدنا ليل نهار بتحب موال النهار".
وحتى حين جاء نصر أكتوبر المجيد في عام 1973، لم نجد الأغنية الوطنية تحمل اسم مصر فقط، بل كانت دائمًا تشمل العرب. ففي أغنية "أحلف بسماها وبترابها"، تقول كلماتها: "ما تغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا"، ولم تقل: "ما تغيب الشمس المصرية". وفي أغنية "عاش"، تقول الكلمات: "عاشوا العرب اللي في الليلة أصبحوا ملايين تحارب".
ظل عبد الحليم، وكل جيله، يغنون الكثير من الأغاني الوطنية التي نستطيع أن نقرأ تاريخنا السياسي من خلالها. وظل عبد الحليم يغني الأغاني الوطنية حتى في افتتاح الملاحة في قناة السويس بعد سنوات من نصر أكتوبر المجيد، ليغني: "النجمة مالت ع القمر فوق في العلالي، قالت له شايفه يا قمر أفراح قبالي". جاءت تلك الأغاني جميعها لتؤرخ لتلك الفترة بكل صدق وبكل وطنية، ويكمن سر بقاء تلك الأغاني على مر الأجيال في صدق هذا الإحساس الذي وَلَّد كل هذا الإبداع.
وفي لحظات فارقة من تاريخ مصر، برزت الأغاني الوطنية كصوت قوي يُعبر عن مشاعر الشعب وتلاحمه مع جيشه، وذلك خلال ثورة 30 يونيو، حيث شهدت مجموعة من الأغاني التي عكست روح التحدي والوحدة.
وقد بدأت بعض الأغاني مع اقتراب موعد الثورة، حيث ظهرت في بادئ الأمر بأغانٍ تحفيزية تشجع على النزول إلى الشوارع والمشاركة في التغيير، مثل أغنية "انزل" لبهاء سلطان، التي كانت واحدة من الأغاني التي هزت مشاعر الملايين، حيث تقول كلماتها: "قلنا دي ثورة علشان الذل اللي شربناه".
وأيضًا أغنية "يا بلادي" لمحمد حماقي، التي أعاد غناءها، وهي كانت من روائع عبد الحليم حافظ، التي عكست روح الوطنية والانتماء.
ولكن لكل حدث سياسي تبرز بعض الأغاني كأيقونات تُصبح الأكثر تعبيرًا عن هذا الحدث. ففي ثورة 30 يونيو، نجد أغنية "تسلم الأيادي" هي واحدة من الأيقونات التي عبرت عن تلك الثورة، حيث ظلت كلماتها ونغماتها محفورة في الذاكرة لدى الكثير من المصريين الذين عاشوا وتعايشوا تلك الفترة. وهي من كلمات وألحان مصطفى كامل، وشارك في غنائها مجموعة من كبار الفنانين المصريين، مثل إيهاب توفيق، حكيم، غادة رجب، هشام عباس، وسمير الإسكندراني. وتقول كلمات الأغنية:
"هو دا البطل اللي ضحى بالحياة
اللي شال اسمك يا بلدي وافتدى
اللي حامي الأرض يسلم
اللي صان العرض يسلم
اللي بيهم مصر دايمًا تفتخر وتقول ولادي
تسلم الأيادي... تسلم يا جيش بلادي"
اتسمت الأغنية بإيقاعها المبهج والراقص، وفي الوقت نفسه تحمل أصالة الألحان القديمة. وقد ساهم في انتشارها أن لحن الأغنية جاء متأثرًا بشكل كبير بلحن أغنية شهيرة لها بصمتها وتأثيرها في قلوب كل الوطن العربي، وهي أغنية رمضانية معروفة: "تم البدر بدري"، التي تُعرض دائمًا في نهايات شهر رمضان الكريم، من ألحان عبد العظيم محمد وغناء شريفة فاضل، ويعود إنتاجها إلى عام 1960. وما زال لحنها يتردد كل عام في شهر رمضان.
ومن بين الأصوات التي برزت في تقديم الأغاني الوطنية بعد ثورة 30 يونيو، يأتي الفنان حسين الجسمي، الذي قدّم العديد من الأغاني المؤثرة التي ألهبت حماس الملايين. ومن أبرز أعماله أغنية "تسلم إيدك"، التي كتبها نادر عبد الله، وأعد لحنها وليد سعد.
ولم تقتصر مساهمات الجسمي على هذه الأغنية فقط، بل قدّم أيضًا أغنية حققت نجاحًا كبيرًا، انتشرت ألحانها في الوطن العربي، وهي "بشرة خير"، التي أطلقها عام 2014 بمناسبة الانتخابات الرئاسية، كتب كلماتها أيمن بهجت قمر، ولحنها عمرو مصطفى، وتوزيع توما. وقد حققت هذه الأغنية شهرة واسعة في مختلف أنحاء العالم أيضًا، وتميّزت بلحنها الإيقاعي الراقص والمبهج والسريع.
لنأتِ إلى ملحمة وطنية كانت من أشهر الأناشيد في ثورة 30 يونيو، وهي نشيد "قالوا إيه علينا دولا": تُعد ملحمة وطنية خالدة تُخلد أسماء أبطال صنعوا ملحمة من الوطنية والتضحية من أجل الوطن. جاءت الكلمات لتعبر عن الفخر والاعتزاز بالجنود المصريين، وتؤكد على أن الموت في سبيل الوطن هو شرف كبير.
"قالوا إيه علينا دولا وقالوا إيه
منسي بقى اسمه الأسطورة... إيه
من أسوان للمعمورة وقالوا إيه...
قالوا إيه علينا دولا وقالوا إيه
شبراوي وحسنين عرسان،
قالوا نموت ولا يدخل مصر خسيس وجبان... وقالوااا إيه"
جاء اللحن عفويًا فطريًا، مملوءًا بالإحساس والصدق والتلقائية، كلمات خرجت من القلب لتأسر القلوب. كنا نفتقد لمثل هذه الأناشيد التي تلعب دورًا مهمًا في تعزيز الروح الوطنية والانتماء للوطن، وتجعل الناس يشعرون بالفخر والاعتزاز بانتمائهم لهذا الوطن.
ومن الأغاني التي تذكرنا أيضًا بثورة 30 يونيو، أغنية "طوبة فوق طوبة" من غناء آمال ماهر، التي كانت تُذاع كثيرًا في وسائل الإعلام من قنوات وإذاعات بعد ثورة 30 يونيو، وكانت تُعبر عن روح تلك الفترة، وتشجع الناس على العمل والبناء من أجل المستقبل. حققت الأغنية نجاحًا كبيرًا، وأثارت مشاعر الكثير من المصريين. جاء أداء آمال ماهر رائعًا، وكانت الكلمات والألحان مؤثرة ومميزة، كما جاءت الأغنية أيضًا مصوّرة بشكل متميز وجذاب.
الأغاني الوطنية تظل جزءًا من التراث الثقافي والفني للشعب المصري، وتشكل جزءًا من ذاكرة الأمة المصرية التي يفتخر بها الأجيال القادمة. إنها شاهد على روح التحدي والوحدة التي ميّزت الشعب المصري خلال تلك الفترات من تاريخ مصر.
ستظل الأغنية هي الفن الأسرع انتشارًا، والأكثر تأثيرًا في النفس البشرية.
كانت ثورة 1919 هي الشرارة الأولى التي جعلت سيد درويش يُبدع أروع الأغاني الوطنية الخالدة التي كانت تُلهب حماس الوطن بكافة طوائفه، وامتد تأثيرها إلى الآن
شريفة فاضل
منيرة المهدية
لعبت الأغنية دورًا سياسيًا كبيرًا بعد نكسة 1967 في التخفيف عن آلام الشعب العربي، وبث الأمل وعدم الاستسلام، فكانت تحمل القوة والإصرار على النصر
عبد الحليم حافظ
آمال ماهر
خلال ثورة 30 يونيو،
وفي لحظات فارقة من تاريخ مصر، برزت الأغاني الوطنية كصوت قوي يُعبر عن مشاعر الشعب وتلاحمه مع جيشه
حسين الجسمي