تحل اليوم الثاني من يوليو ذكرى ميلاد أحد أبرز رموز الغناء المقاوم في العالم العربي، الشيخ إمام عيسى، الذي غادر دنيانا في عام 1995، بعد أن خلّف وراءه تراثًا فنيًا لا يُقاس بعدد الجوائز أو المبيعات، بل بعمق الأثر، وبقوة الحضور الذي ظل ينبض في شوارع المدن، وعلى ألسنة الشباب، وفي ساحات الاحتجاج العربي من تونس إلى العراق.
ولد إمام عيسى في قرية "أبو النمرس" بمحافظة الجيزة عام 1918، وفقد بصره في سنٍ مبكرة نتيجة إهمال طبي لعلاج إصابة في عينيه بالرمد. لكن الظلام البصري لم يكن حاجزًا أمام النور الداخلي الذي كان يتقد بداخله، فقد حفظ القرآن الكريم وهو طفل صغير، وتعلّم المقامات الموسيقية في رحاب الأزهر، ومنها انطلق نحو مسار مختلف تمامًا عن السائد من الفن السطحي والغناء الموجه.
لكن التحول الحقيقي في مسيرته جاء عندما التقى بالشاعر العامي المتمرد أحمد فؤاد نجم في ستينيات القرن الماضي. وقد شكّلا معًا ثنائيًا فنيًا نادراً، جمع بين كلمات نجم الساخرة واللاذعة، وألحان إمام الشعبية المعبّرة، فكانت النتيجة أغنيات خرجت من قلب الشارع المصري، لتحمل صوت الناس البسطاء، وتسخر من الظلم، وتعري الاستبداد.
جاءت نكسة 1967 بمثابة الشرارة التي أطلقت تلك الشراكة الإبداعية، حين كانت مصر والعالم العربي يعانيان من صدمة الهزيمة، وسط صمت مطبق من المعارضة الرسمية. في هذا السياق، ظهر صوت الشيخ إمام مختلفًا، إذ لم يغنِّ للوطن بوصفه سلطة، بل للناس بوصفهم الوطن الحقيقي. غنّى عن البطالة، والغلاء.
أغنياته مثل "جيفارا مات"، و"أنا رحت القلعة وشفت ياسين"، و"يا بلح أبريم"، و"بقرة حاحا"، و"صباح الخير على الورد اللى فتح في جناين مصر"، لم تكن مجرد أعمال فنية، بل كانت وثائق إدانة للواقع السياسي والاجتماعي. ولذا لم يكن غريبًا أن تُمنع أعماله، وتُطارد حفلاته، في زمن كانت الكلمة فيه تُحاسب مثل الرصاص.
لكن الشيخ إمام، رغم ذلك، لم يكن فنانًا نخبويًا ولا صوتًا معزولًا في الأبراج العالية. بل كان فنانًا شعبيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يجلس وسط الناس، في المقاهي، في الأحياء الفقيرة، يغني لهم، ويستمع إليهم، ويحول أحلامهم وآلامهم إلى أغنيات تحفر في الذاكرة الجمعية.
ورغم الظروف الصعبة التي عاشها، من فقر ووحدة، وانفصاله عن رفيق دربه أحمد فؤاد نجم في السنوات الأخيرة من حياته، إلا أن الشيخ إمام لم يفقد صلته بجمهوره. فقد رحل عن الحياة وحيدًا، في غرفة صغيرة بحي الغورية بالقاهرة، يوم 7 يونيو 1995، لكن صوته لم يرحل. بل استمر حيًا في وجدان أجيال متعاقبة، وجدت في أغانيه تعبيرًا صادقًا عن تطلعاتها للحرية والعدالة والكرامة.
تستمر فرق شبابية من مختلف الدول العربية حتى اليوم في إحياء تراثه، وإعادة توزيع أغانيه، وربطها بقضايا معاصرة، لتتحول من أناشيد احتجاج إلى ترانيم أمل، ومن صرخة غضب إلى وعد بمستقبل مختلف.
لقد كان الشيخ إمام أكثر من مجرد فنان. كان ظاهرة ثقافية وسياسية واجتماعية، تجسيدًا حقيقيًا لقدرة الفن على المقاومة، وعلى أن يكون سلاحًا في وجه الظلم، وصوتًا لمن لا صوت لهم.