من أحسن المؤلفات التي ظهرت في هذه السنة عن الثورات، كتاب «تشريح الثورة» Anatomy of Revolution لمؤلفه كرين برنتون، الذي يكاد يتخصص في بحث المشكلات النفسية والاجتماعية فيما ينطوي على بواعث الثورات.
وهو يشبه الأدباء في المجتمع بالكريات البيضاء في البنية؛ فوجودها دليل السلامة، ولكن كثرتها إلى حد الإفراط علامة محققة على حالة مرض، ولا بد لهذه الحالة من معقّبات.
والأدباء لا يمثلون الأمة، بل يدلّون عليها، فلا تخفى حالة الأمة على من يعرف أدبها وأدباءها، وإن كانت نزعات الأدب لا تعبّر دائماً عن نزعات جميع الطوائف والآحاد.
فمن المعلوم أن الأدباء عامة أميل إلى الانتقاد وطلب التغيير، لأنهم يعيشون في جو المطالب المثالية، ولا يقيسون الأمور بمقاييسها العملية الواقعية؛ فليس السخط عندهم ترجماناً لسخط المجتمع كله، ولكنه سخط له دلالته على كل حال، فلا يمكن أن يغلب السخط على الأدب في مجتمع مطمئن يُرجى له طول الاستقرار.
وقد يكون التسليم أخطر من التشاؤم في الظواهر الأدبية؛ فالعبرة في الحالتين بالطبيعة والدلالة، وليست العبرة بعنوان التسليم أو التشاؤم.
فكثير من المتشائمين لا يحرّك ساكناً لتغيير العيوب التي يتشاءم منها، لأنه يحسب هذه العيوب أصلاً في الحياة لم يتغير من قبل، ولا يُنتظر أن يتغير من بعد، أو كما قال أبو العلاء:
وهكذا كان أهل الأرض مذ خُلقت
فلا يظن جهول أنهم فسدوا
وكثير من العيوب التي ينكرها المتشائمون لا ترجع إلى أمور تملكها الحكومات، فلا يؤدي الاقتناع بها إلى ثورة أو إثارة، إذ الشرط الأول للعيوب التي تُحدث الثورة أن تكون عيوباً في نظام الحكم، أو تكون عيوباً يعتقد الناس أنها ناشئة من نظام الحكم وإن لم تكن كذلك.
أما العيوب التي ينعاها الناس على أنفسهم في كل زمن، ولا يوجهونها إلى حكوماتهم، فلا شأن لها بالثورات، وإن أجمع الناقدون على ترديدها بلسان الأدب والفن أو بغيرهما من ألسنة التعبير.
وربما اتفق كثيراً أن تعمّ الشكوى وتتوازن، فتشكو طائفة، وتقابلها طائفة أخرى بنفي شكواها، فلا خطر على المجتمع من هذه الشكايات المتوازنة، لأنها لن تندفع إلى اتجاه واحد، ولا بد من الاتجاه الواحد إجماعاً أو قريباً من الإجماع قبل انفجار الثورات، فلا ثورة إذا تقابل الرضى والسخط على سواء.
ومن أمثلة التسليم الذي يُقال إنه أخطر من التشاؤم: تسليم الكاتب الروسي الكبير ديستويفسكي، الذي حُكم عليه بالموت ثم عُفي عنه ونُفي إلى سيبيريا، ثم أُفرج عنه، وقضى بقية حياته في سآمة وقلة اكتراث، إلا ما كان يكتبه من الروايات، ويصوّر به أبناء زمانه أصدق تصوير، ومنهم المخبول والمنقطع عن الدنيا، والداعي إلى العدمية أو الحيوانية، والساخر بكل دعوة وبكل شكاية.
قضى ديستويفسكي بقية حياته يكتب هذه الكتابة المستسلمة، ولم يجد رقباء القيصرية ذريعة لمصادرة رواية من رواياته التي ألّفها آخر حياته، ولكنه لما مات، مشى في جنازته مليون إنسان، ولم تمضِ أيام حتى أُلقيت على القيصر قذيفة مهلكة، وفار تنور الثورة في الأعماق، لأن جنازة الرجل المستسلم أوقدت فيها جذوة الحياة.
دلالة الأدب إذن ليست دلالة حروف وعناوين، ولكنها دلالة بواطن وأعماق، وإلى هذه البواطن والأعماق ينبغي أن تتجه دراسة عوامل الثورة في أعمال الأدباء.
وأية كانت هذه الأعمال الأدبية، فلا تنسَ مثل الكريات البيضاء التي تتكفّل بسلامة البنية إذا اعتدلت، وتنذر بالخطر إذا أفرطت؛ فإن المجتمع على خطر الثورة أو الانهيار كلما بلغت هذه الكريات البيضاء حد الإفراط.
ونحسب أننا نجمع شروط الثورة في سطر واحد، إذ نقول إن الأنبياء عليهم صلوات الله هم أكبر الثوار في تاريخ بني الإنسان.
ويكفي أن نذكر هذه الحقيقة دائماً لنذكر شروط الثورة الصالحة؛ فلا بد للثورة من قداسة ومن أمل ومن مبادئ مقرّرة، ولا تُحسب من الثورة الصالحة كل ثورة تُخرب وتهدم ولا تُقرّر ولا تبني، ولا تدين بقداسة لفكرة أو لزعامة يؤمن بها الثائرون.
ولم يخلُ التاريخ من هجمات ثائرة على الظلم والفساد، ولكنها ما لم تكن على مبدأ وإلى غاية، لم تلبث أن تسقط من حساب التاريخ، فلا تُذكر في صفحاته إلا كما تُذكر العاصفة المدمرة، أو البركان المزلزل، أو القطيع من الذئاب انطلق على مدينة فعاث فيها وعاد من حيث أتى، أو أخذ الآخذون عليه طريقه قبل أن يعود.
كذلك كانت ثورة الزنج في البصرة، وكذلك كانت ثورات مصر بعد بناء الأهرام، وكذلك كانت بعض الثورات في الشرق الأقصى عند أواسط القرن التاسع عشر: هي فتن وقلاقل، وأما أنها ثورات، فلا نصيب لها من هذا الاسم، إذ لم يكن لها نصيب من القداسة والمبدأ والزعامة.
لم يكن الأنبياء ثواراً صالحين إلا لأنهم جاءوا بمبادئ وقواعد خير من المبادئ والقواعد التي ثاروا عليها، وربما كانت المبادئ والقواعد واحدة، ولكن الناس خالفوها ونقضوها، فوجب أن يُعادوا إليها، فأعادهم إليها الأنبياء المرسلون.
وعلى سنة الأنبياء المرسلين، كل أديب من الأدباء الثائرين؛ فهو يعرف الخير الواجب قبل أن يُنكر الشر الواقع، وهو بنّاء وليس هدّاماً.
❏ ❏ ❏
وقد اتفق مؤرخو الثورات الحديثة على حاجة كل ثورة إلى الطوائف التي تُسمى بطوائف الضغط أو الاقتسار، قبل أن يتبدل نظام الحكم المضغوط عليه.
واتفقوا كذلك على إقامة الأدباء في طليعة هذه الطوائف؛ فإنهم طائفة من هذا القبيل، تُضطر الحكومات الفاسدة إلى عمل شيء ولو من قبيل المقاومة ومقابلة الضغط بمثله؛ فلا يُحسب من الأدباء الثائرين من تتجاهله الحكومات الفاسدة، ولا تحس منه «الضغط» على سلطانها، ولا تعمل شيئاً لتكفّ به ذلك الضغط عنها.
ويحسبون من الأدباء الثائرين من يجعلون الظلم صعباً على الظالمين، وإن لم يذكروا في كلامهم أحرف الظاء واللام والميم.
فمن رفع للناس مثلاً عالياً، ومن أودع في أذواقهم نشاطاً حياً يعاف القبح ويتوق إلى الجمال، ومن صوّر لهم البطولة محبوبة والصغار حقيراً مزرياً، ومن نفخ في نفوسهم روح الأمل وأشعل فيها جذوة الهمة، ومن نفض عنهم غبار الجمود والتقليد، كل أولئك يكلّفون الظالم جهداً جهيداً؛ لأنهم يجعلون الظلم صعباً عليه، ويجعلون الثورة عليه سهلة قريبة، ويجعلونها حقاً يؤمنون به فيعملون له، وما من إيمان يذهب بغير عمل يتبعه لا محالة في زمن قريب.
إذن، من هو الأديب الثائر؟
إنه قد يكون شعلة الثورة بجميع ألهيبها، دون أن يقضي حياته في تصريف فعل «ثار يثور ثوراناً، فهو ثائر».
إن مثل الأنبياء عليهم صلوات الله هو القدوة للمقتدين؛ فلا بد في كل ثورة من قداسة ومن أمل ومن إيمان، ولا حق لأحد في أن يثور ما لم تكن ثورته للبناء والرجاء، وتظل الثورة جماحاً حيوانياً يُعذر فيه الثائر أو يُلام، عذر الحيوان الجامح أو ملامته... فإذا عرف ما هو صانع بجماحه، وما هو حقه الذي ينشده، وما هو الباطل الذي يُزيله، فذاك هو الجهاد.
وأدب الثورة هو العلامة الفاصلة بين جماح الحيوان وجهاد الإنسان، ونعتقد أن فاروقاً كان له من الفضل في ثورة اليوم ما لم يكن لأدباء مصر مجتمعين منذ خمسين سنة؛ فلو أنهم صمدوا خمسين سنة يكتبون في وجوب الثورة، لما أقنعوا الناس بحقهم فيها، كما أقنعهم فاروق بعمله وقوله وجده وهزله.
وذلك هو فضله الأول...
فضله الذي يرفعه إلى أسفل!
ومن توفيق الله للأدب الثائر في مصر، أنه وضع النظريات، وجاءه التطبيق في شخص ملك واحد، بما يُعيي عشرات الملوك.
ولم يقم الأدب بكل ما يجب... ولا نكران للحقيقة.
ولكن الله وفّق، وجاءت النعمة من طريق البليّة، فكان التطبيق، بحمد الله الذي لا يُحمد على المكروه سواه، أوفى وأفعل من جميع الدروس.