الأحد 17 اغسطس 2025

مقالات

الرواية التاريخية في أدب نجيب محفوظ

  • 16-8-2025 | 10:19
طباعة

يُعد نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1988م، من أبرز الأدباء المصريين الذين اهتموا اهتمامًا عميقًا بالتاريخ.

وقد مثَّل التاريخ المصري عنصرًا جوهريًا في مشروعه السردي، فمن خلال أعماله استطاع محفوظ أن يُجسِّد مسيرة مصر عبر عصورها المختلفة، من عصر التاريخ المصري القديم، مرورًا بالحقبة الملكية، ووصولًا إلى ثورة 23 يوليو 1952م، وحتى ما بعد ذلك. ليس فقط باعتبارها خلفية زمنية لأحداث رواياته، بل محورًا أساسيًا تتشكل من خلاله رؤيته للفرد والمجتمع والسياسة، بل وكفاعل مركزي أيضًا في تكوين الإنسان المصري وتحولاته ووعيه. وقدَّم محفوظ صورة أدبية غنية ومتنوعة لمصر من خلال تطورها التاريخي والاجتماعي.

ويكشف التناول التاريخي عند محفوظ عن وعي فلسفي وسياسي عميق يربط بين الماضي والحاضر بأسلوب أدبي يمزج بين الواقعية والرمزية.

وقد مرَّت الرواية التاريخية في أدب نجيب محفوظ بعدة مراحل.

المرحلة الأولى: (مرحلة مصر الفرعونية: التاريخ كتمجيد للهوية)

تمثل البدايات الأدبية لنجيب محفوظ، وكتب عنها رواياته في ثلاثيته الفرعونية: عبث الأقدار (1939)، وتناول فيها صراع الإنسان مع القدر، ويرى فيها محفوظ أن الإنسان المصري القديم كان يؤمن بالقوة الإلهية، ولكنه يسعى لفهم مصيره.

ورواية رادوبيس (1943)، التي تتناول قصة حب بين فرعون وراقصة، ويقصد محفوظ من هذه الرواية إظهار فساد الحكم الفردي وانهيار السلطة، بسبب الاستبداد والرغبات الشخصية.

ورواية كفاح طيبة (1944)، وتتناول موضوع مقاومة الهكسوس، ورأى محفوظ من خلال هذه الرواية تمجيد النضال الوطني وإبراز الهوية المصرية، وهي رسالة رمزية ضد الاحتلال البريطاني الذي كان يحتل مصر آنذاك.

وفي هذه المرحلة وظف نجيب محفوظ التاريخ المصري القديم لطرح قضايا معاصرة مثل الحرية، والعدالة، ومقاومة الاحتلال. وقد استخدم الماضي الفرعوني ليس بوصفه وثنيًا، بل لإبراز الهوية المصرية.

أما المرحلة الثانية: (مرحلة مصر الملكية: المجتمع التقليدي والفساد السياسي)

ومن أبرز ما كتب نجيب محفوظ في هذه المرحلة رواية زقاق المدق (1947)، وهي تصوير حي للحياة الشعبية في القاهرة خلال الحرب العالمية الثانية، ورواية بداية ونهاية (1949)، تناولت انهيار الطبقة الوسطى في ظل أزمات اقتصادية وسياسية. ومن أبرز ما كتب في هذه المرحلة الثلاثية (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية)، وقد صدرت جميعها في عام (1957)، ومن خلال هذه الثلاثية رصد محفوظ التغيرات الكبرى التي شهدها المجتمع المصري منذ بداية الاحتلال البريطاني، مرورًا بثورة 1919م، وحتى بدايات ثورة يوليو 1952م.

والثلاثية وثّقت بدقة تحولات المجتمع المصري من عصر النخبة والاحتلال إلى بداية الوعي السياسي.

أما المرحلة الثالثة: (مرحلة ثورة 1952 وما بعدها: نقد السلطة والتحولات الكبرى)

في هذه المرحلة لم يتعامل محفوظ في الحديث عن ثورة 1952 بوصفها لحظة انتصار فقط، بل ناقشها ونقدها في روايات تعكس خيبة الأمل بعد الثورة، من خلال رواياته مثل: اللص والكلاب (1961)، التي تعكس خيبة الأمل بعد الثورة، ورواية ميرامار (1967)، وهي نقد لواقع ما بعد الثورة، ورواية ثرثرة فوق النيل (1966)، وهي تصوير للنخبة المثقفة في مرحلة الانهيار، مع نقد عميق لانفصال المثقفين عن الواقع.

وتكمن أهمية هذه الروايات الثلاث في هذه المرحلة في أنها تقدم قراءة من داخل المجتمع لتاريخ مصر السياسي، لا من خلال الوثائق الرسمية، بل من خلال نبض المواطن العادي وخيباته وطموحاته.

نجيب محفوظ لم يُقدّس الثورة، بل انتقل من التأييد إلى النقد مع مرور الزمن، حيث شعر بأن الثورة لم تحقق ما وعدت به، وصولًا لهزيمة يونيو 1967م.

وتعكس هذه المرحلة صراع الفرد مع السلطة، وتحولات الفكر السياسي، وانهيار الأحلام الثورية، وهي حقبة عبد الناصر والسادات. في هذه المرحلة ناقش محفوظ صعود القومية العربية والانفتاح الاقتصادي، وما ترتب عليهما من تغيرات اجتماعية وثقافية.

أما المرحلة الرابعة: (مرحلة التاريخ كمفهوم فلسفي)

وتناول فيها محفوظ روايات مثل أولاد حارتنا (1959)، وهي تمثيل رمزي لتاريخ الأديان والبشرية من آدم حتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتدور أحداثها في حارة تمثل العالم.

والرواية الأخرى رحلة ابن فطومة (1983)، وهي عبارة عن رحلة تأمل في الحضارات مستلهمة من رحلة ابن بطوطة، تبحث عن دار الحكمة المثالية، وهل يمكن بناء مدينة فاضلة؟

في هذه المرحلة، يستخدم محفوظ التاريخ كأداة تأمل فلسفي في معنى السلطة، والمعرفة، والعدل.

وهكذا تُعد الرواية التاريخية عند نجيب محفوظ ليست مجرد سرد لأحداث الماضي، بل هي توظيف فني للتاريخ كأداة لفهم الواقع وتحليله.

وتمثل الرواية التاريخية مرحلة مهمة في تطوره الأدبي، مهدت لأسلوبه الواقعي والفلسفي فيما بعد. وتتمتع روايات نجيب محفوظ بأهمية تاريخية استثنائية، ليس فقط لكونها تؤرخ لمراحل متعددة من تاريخ مصر الحديث والمعاصر، بل لأنها تفعل ذلك من خلال عدسة فنية تجمع بين التحليل الاجتماعي، والتأمل الفلسفي، والنقد السياسي.

ويكمُن البُعد التاريخي في أدبه في كونه لم يكتفِ بتسجيل الأحداث، بل قدم رؤية فكرية معمقة حول أسبابها ومآلاتها، مما جعل رواياته مصدرًا أدبيًا وتاريخيًا في آنٍ واحد.

وتتجلى الأهمية التاريخية لروايات نجيب محفوظ في قدرتها على الدمج بين الواقع والأفكار، بين ما حدث، وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟

إنها ليست فقط سردًا لحياة المصريين في مراحل مختلفة، بل قراءة نقدية لهذا التاريخ تكشف عن تعقيداته وتدعو للتفكير فيه من جديد.

وهكذا تتحول روايات نجيب محفوظ إلى أرشيف أدبي للتاريخ المصري، يصعب تجاوزه في أي دراسة جادة لهذا التاريخ.

وأخيرًا، يمكن القول إن روايات نجيب محفوظ تُشكِّل أرشيفًا سرديًا لتاريخ مصر الحديث والمعاصر، يمكن للباحثين والقراء الرجوع إليه لفهم التحولات الكبرى التي مرّت بها البلاد خلال القرن العشرين.