وُلد نجيب محفوظ سنة 1912 في أسرة متوسطة بحي الجمالية، وانتقلت الأسرة إلى العباسية وهو في سن السادسة.
وفي عام 1930 دخل الجامعة المصرية، وتخرج في قسم الفلسفة عام 1934. وفكّر – وهو طالب في السنة الثانية – أن يلتحق بقسم اللغة العربية، فأشار عليه سكرتير الكلية وقتئذٍ بأن لائحة الجامعة تجيز له الالتحاق بهذا القسم عقب تخرجه وحصوله على درجة الليسانس في الفلسفة.
وقد ساعدته دراسته الجامعية على تعلم اللغتين الإنجليزية والفرنسية، كما قرأ لكثير من الأدباء العرب والأجانب، وعن المناهج الأدبية التي أثرت في تكوينه؛ فهو يقول: "إن تكويني الأدبي كان نتيجة لقراءة الكثيرين من الأدباء العرب والأجانب، فمن العرب تعلمت من القراءة لطه حسين، والعقاد، وسلامة موسى، والحكيم، والمازني، ومن الأجانب: تولستوي، ودوستويفسكي، وتشيخوف، وجيمس جويس".
وقد بدأ نجيب محفوظ إنتاجه بتأليف مجموعة من القصص التاريخية عن مصر الفرعونية، مثل "كفاح طيبة"، تلك الرواية التي جسّدت تاريخ فترة عصيبة من تاريخ مصر، ولقد جسّد فيها الأحداث بطريقة جميلة، منعت الرتابة والملل من التسلل إلى نفس القارئ.
ثم انتقل نجيب محفوظ إلى اللون الاجتماعي أو الطبيعي، وفي هذه المرحلة الطبيعية الاجتماعية عالج الكثير من الموضوعات عن مصر الحديثة ومشكلاتها من سنة 1919 وحتى عام 1952 قبيل ثورة يوليو.
تبدأ هذه الفترة برواية "القاهرة الجديدة" (1945)، و"خان الخليلي" (1946)، و"زقاق المدق" (1947)، و"بداية ونهاية" (1949)، وأخيرًا "الثلاثية"، وهي تجسيد للمرحلة كلها بأحداثها وقضاياها.
صرّح نجيب محفوظ باتباعه الأسلوب الواقعي، حيث تطلبه المضمون الذي أراد التعبير عنه: "... حيث كنت مشغولًا بالحياة ودلالتها، كان أنسب أسلوب لي هو الأسلوب الواقعي الذي قدّمت به أعمالي".
فنجيب محفوظ أديب دارس لا يتكئ على الموهبة وحدها، ولا يتنقل بين فنون الأدب إلا عن إدراكٍ عميقٍ لخصائص كل فن.
ورؤية الكاتب ينبغي أن تكون شاملة للواقع الإنساني ككل، لا تقف عند الحاضر، بل تربطه بالماضي والمستقبل.
وقد كان نجيب محفوظ أحد أولئك الذين لم يتخصصوا في موضوع بعينه، وإنما أولوا الحياة العريضة اهتمامهم الأول، ومن ثم تجيء كافة العلاقات التي يعرض لها ضمن هذا الإطار الشامل لقطاعات مختلفة في وقت واحد.
وعندما نتقصى بالدراسة أحد الموضوعات التي حفلت بها أعمال هذا الفنان، ينبغي ألا نعير زمن صدور تلك الأعمال أي التفات، إلا في حدود تتبعنا لتطوره الفني والفلسفي. أما إذا توخّينا الدقة في تفهّم ظاهرةٍ ما طرقها المؤلف بالتعبير، فإن ما يعنينا حقًّا هو الزمن الروائي.
المجتمع في أدب نجيب محفوظ:
إن أدب الأديب ثمرة من شجرة كبيرة تضرب بجذورها في الحياة الإنسانية، ولا يكفي أن نشير لما في الثمرة من حلاوة، بل لا بد أن نشير أيضًا لما فيها من مرارة، بل قد تكون المرارة في بعض الثمار أكثر دلالة عليها من الحلاوة.
والعمل الأدبي حقيقة واحدة، وإن تعددت المداخل إليها، فالمدخل الأدبي، والمدخل النفسي، والمدخل الفني، كلها سبل تلتقي في النهاية عند غاية واحدة.
وإذا أدركنا العلاقة بين الفرد والمجتمع، لعلمنا أهمية وضع المجتمع والفرد تحت عدسات فاحصة، للوقوف على مدى تأثير كل منهما في الآخر، ومدى تجسيد الأدب لهذه النتائج.
فالمجتمع له الاعتبار الأول؛ فهو المؤثر في الفرد وفي مثله، وفي تحديده لأيديولوجيته.
ويرى الدارسون لنجيب محفوظ أن المجتمع لا يتكون – عنده – من مجرد تجمع أفراد يعيش كل منهم في عزلة يجترّ مشكلاته وهمومه، ذلك لأنه يستحيل تصور الفرد منعزلًا عن ظروفه الاجتماعية التي تحيط به، والعلاقات الاجتماعية التي تربطه بغيره، ومن يعتمد عليهم في كيانه ووجوده.
أما من حيث إن كان للمجتمع الحق في محاسبة الفرد، فهذا تجيب عنه حقيقة أن المجتمع صورة أكمل وأكثر تعبيرًا عن روح الخير، وخضوع الفرد هنا لمطالب المجتمع وأوامره ليس إهدارًا لإنسانيته، بل هو أقرب إلى أن يكون تأكيدًا لهذه الإنسانية، ومحاسبة المجتمع له عند تمرده تنبع من ضرورة المحافظة على سلامة المجموع.
ويمثّل الأدب النافذة التي ينظر منها الأديب إلى دنيا الواقع والمجتمع الذي يعيش فيه، وقد ظهر ذلك عند نجيب محفوظ في رواياته الاجتماعية التي تابع فيها من سبقوه.
ولنجيب محفوظ النهج نفسه، وخصوصًا في روايتيه "خان الخليلي"، و"بداية ونهاية"، حيث يصوّر نجيب محفوظ شخصياته بما يكشف عن صراعاتهم النفسية، ونظراتهم إلى القيم الاجتماعية، وتفاعلهم مع أحداث المجتمع، ومشاركتهم في توجيه هذه الأحداث، ولكن في حيادية تامة.
ومن خلال البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية لمجتمع القاهرة، تطالعنا قصص نجيب محفوظ في تركيزه على البيئة الشعبية في الحواري والأزقة تارة، وفي اتجاهه نحو الطبقة البرجوازية تارة أخرى، حيث قدّم الشخصية الإنسانية في البيئات الشعبية، كما قدّم تلك الشخصية في البيئات المتوسطة من خلال تصارعها مع المتغيرات، فبرع في تصوير الشخصيات والمواقف من خلال البيئة.
ويبدأ النقد الاجتماعي – كما يرى الدارسون – من الاعتقاد بأن علاقات الفن بالمجتمع هامة وحيوية، وبأن هذه العلاقات يمكن أن تعمل على تنظيم وتعميق استجابة المرء الجمالية للعمل الفني.
فإدراك الفرد لتلك العلاقة يجعله يهتم كثيرًا بالفن وصوره المختلفة، سواء أكان مكتوبًا أم مصورًا أم مسموعًا، ليتعلم كيف يفهم مجتمعه ومشكلاته. ومهمة الكاتب في ذلك هي تقريب المسافة بين القارئ والمجتمع برباط أو وسيط هو العمل الفني.
ويرى الدارسون لنجيب محفوظ أن البعد الاجتماعي لعملية الإبداع في الرواية هو المحرك لكل كُتّاب القصة، لأن القصة ليست وصفًا أو تأملًا، بل هي طريقة ضمن الطرق التي تتناول المجتمع ومشكلاته في صورة منصهرة داخل العمل الفني أو الأدبي والروائي خاصة.
ونجيب محفوظ – فيما يرى دارسوه – من الكُتّاب والأدباء العرب الذين شغلتهم الحياة والمجتمع كثيرًا، مما حدا بهم إلى محاولة التعبير عن ذلك، فهي صورة من صور الأدب، هي الرواية بمفهومها الواسع.
ويُلفت النظر في أدب نجيب محفوظ أن الشريحة الاجتماعية التي عُني بها، وتوفر على تصويرها، كانت هي الطبقة الوسطى بمستوياتها المختلفة، من بين طبقات المجتمع المصري، وفي القاهرة فقط دون غيرها من سائر المدن المصرية، كما تدل على ذلك أسماء رواياته.
الرواية الاجتماعية:
تتميّز هذه الرواية عن الرواية الوجدانية التحليلية بارتباطها بالواقع الاجتماعي بشكل أعمق وأوسع، إذ تصوّر مشكلات هذا الواقع وهمومه على مستوى طبقة اجتماعية كاملة، وليس على مستوى الفرد.
فالشخصية فيها لا تمثل فردًا يعيش أزمته الخاصة وهمومه الذاتية بعيدًا عن التفاعل مع أحداث البيئة الاجتماعية والتأثر بها، وإنما هي أقرب إلى النموذج الاجتماعي الذي يحمل خصائص طبقة اجتماعية بعينها، ويعبّر عن أفكارها وقيمها.
ومن ثم يمكن أن يكون هذا النوع من الروايات مصدرًا – إلى حدٍّ ما – من مصادر التاريخ للحقبة الزمنية التي تقع أحداث الرواية فيها، مع الأخذ في الحسبان ما تقتضيه طبيعة الفن الأدبي من أصول يحقق بها ذاته، وينأى بها عن مجرد التسجيل للواقع.
ومن أبرز من أسهموا في إنتاج هذه الرواية: نجيب محفوظ، وعبد الرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس. وكانت الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي سادت المجتمع المصري منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، وإلى ما بعد قيام الثورة المصرية سنة 1952، مادة خصبة أمام هؤلاء الكُتّاب، فصاغوا منها أعمالًا روائية تعد علامة بارزة في فن الرواية المصرية في العصر الحديث.
الرؤية الاجتماعية عند نجيب محفوظ:
يكاد الباحثون يجمعون على أن الرؤية الفنية لدى كُتّاب الرواية الاجتماعية بعامة، أو بتعبير آخر: أسلوب التناول عند هؤلاء الكُتّاب، تتمثل في الأسلوب الواقعي، الذي يقوم – كما يقول رينيه ويليك - على: "التمثيل الموضوعي للواقع الاجتماعي المعاصر؛ فهو يتجنب الغريب والشاذ من الوقائع والأحداث، ولا مكان فيه للمعجزات والمصادفات، وترتبط فيه الأسباب بالنتائج، ولا يقتصر تناوله على الموضوعات المشرقة الخيّرة، بل يتناول كذلك القبيح والسيئ، ويقدم المجتمع بإيجابياته وسلبياته، بكمالاته ونقائصه".
وهو يصف الأحداث والشخصيات، ويحشد الكثير من تفصيلاتها وجزئياتها بدقة وإخلاص، حتى ليكاد يكون نقلًا آليًا للواقع أو تصويرًا فوتوغرافيًا له، دون تأثير من عواطف الكاتب ومشاعره على هذا الوصف.
وفي ذلك الأسلوب تأكيد لفكرة الربط بين المضمون والشكل في المثال الأدبي، حيث إن هذه الرواية تتناول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، والمشكلات التي تنجم عنها، والإطار الذي يتلاءم لعرض هذه الأشياء هو الإطار الواقعي بخصائصه السابقة.
ويرى الباحثون أن هذا الأسلوب في التناول يمثل مرحلة متقدمة في نمو الوعي بأصول الفن الروائي، توازي نمو الوعي الثقافي في تلك الفترة، واتساع منافذ الاتصال بين أدباء مصر وكُتّابها والآداب الأجنبية. وأخيرًا، فإنه يتناسب مع عقلية القارئ أو المثقف العادي الذي اعتاد الوضوح والمنطقية في ثقافته الموروثة، ولم يألف بعد الأساليب المعقدة التي تعبر عن بواطن النفس ومجريات الشعور.
ولا ينفي هذا إيثار كل منهم لنوع خاص من قضايا المجتمع ومشكلاته ألحّت عليه، واستحوذت على اهتمامه الفني، كما لا ينفي تباينهم في مدى القدرة على الإفادة من وسائل التكنيك الروائي، وتميز كل منهم بلون خاص يشيع في جوانب عمله، ويبدو كاللحن المميز لهذا الكاتب أو ذاك.
وقد اختلف هؤلاء الكُتّاب في مدى ما أسهموا به في هذا الاتجاه الروائي، فنجيب محفوظ أوفرهم إنتاجًا في هذا المجال.
ويقول بعض النقاد إن الرواية مرآة صادقة تعكس الكثير من مظاهر الحياة المصرية بعامة، وأوضاعها السياسية والاجتماعية.
ولذلك كانت روايات نجيب محفوظ معبرة ومفسّرة، بالإضافة إلى خبرته العميقة بعادات وتقاليد الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها.
ولا ضير عليه في تسمية رواياته بأسماء الأماكن الموجودة في القاهرة؛ فإنه من حق الأديب الفنان أن يختار ما يروقه من الأماكن مسرحًا لأحداث رواياته، ولعل الدافع الرئيسي وراء ذلك هو معرفته الدقيقة بأحوال تلك الطبقة.
ويشير د. غنيمي هلال إلى أن نجيب محفوظ تأثر في رواياته الاجتماعية باتجاه كُتّاب القصة الأوروبية في مطلع العصر الحديث، الذي عني بدراسة الإنسان في القصة بوصفه نموذجًا لطبقة من الطبقات الاجتماعية، أو لجيل من الأجيال، حيث يعبّر عن اتجاهاتها الفكرية ومُثلها.
فالقصة لدى هؤلاء تاريخ للعادات والتقاليد والقضايا الاجتماعية، وهم بذلك يخضعون لنظرية "تين" في قوله: "في كل مجتمع أنواع من الناس، وفي كل نوع أناس متشابهون فيما بينهم، يتحدون في أحوالهم في ميلادهم ونشأتهم، ويتفقون في مصالحهم وحاجاتهم وأذواقهم وعاداتهم وثقافاتهم، كما يتفقون في بواطنهم، فإذا رأى المرء واحدًا منهم فقد رآهم جميعًا".
وقد كان فكر نجيب محفوظ خلال رواياته الاجتماعية يغلب عليه إيمانه العميق بأن المجتمع هو الصانع للنجاح والفشل، وهو الموجه للأخلاق، وأنه بالإصلاح الاجتماعي والسياسي يتحقق العدل، ويستقر النظام.
وهو ما لاحظه د. محمد حسين عبد الله في كتابه حول نجيب محفوظ، وهو من الدراسات الرائدة حول أدب محفوظ.
وسوف يكون من شأن علماء الاجتماع في وقت لاحق الحكم على ما إذا كان طموح نجيب محفوظ قد استطاع أن يجعل ألوان الوعي الوطني تتلاقى في داخل إنتاج فني، لكن الناقد الأدبي يستطيع من الآن أن يقول: إن هذا الوعي الذي اضطلعت به عبقرية نجيب محفوظ قد أعطى لإنتاجه أصالة رئيسية في إطار الأدب العربي، وحتى في إطار الرواية العالمية.
ونجيب محفوظ – كما قلنا – هو أحد أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة التي بدأ نموها مع بداية نمو الرأسمالية الوطنية في مصر قبل ثورة 1919.
والطبقة الوسطى هي البيئة الاجتماعية التي تعد أعمال نجيب محفوظ صدى مباشرًا لهمومها الحياتية، والتحام تلك الهموم بنسيج حياة المجتمع المصري نفسه، كما يتمثل في صعود أبناء تلك الطبقة في السلم الاجتماعي وهبوطهم، وولادة الجديد – دومًا – من خلال القديم، البالي أو الميت.
فما المقصود بالطبقة الاجتماعية؟
الطبقة الاجتماعية – كما يعرفها المختصون – هي: "جماعة من الناس تمثل أحد المكونات الأساسية للبناء الاجتماعي لمجتمع طبقي".
وقد تلخصت الطبقة الوسطى لدى نجيب محفوظ في صغار الموظفين أو صغار التجار، وقصص: "القاهرة الجديدة"، و"بداية ونهاية"، و"قصر الشوق"، و"السكرية"، تدور حول هذه الطبقة.
والطبقة الوسطى هي الطبقة النامية المتحركة، والتي دب فيها النشاط في هذه الحقبة نتيجة لما حدث من تطورات اجتماعية عقب الحرب العالمية الأولى، وثورة 1919، وحصول مصر على الاستقلال.
وبرغم عذاب وقلق هذه الطبقة، إلا أنها لا تخلو من فضائل رائعة، وفي رأس الفضائل يأتي الإحساس الصارم بالمسؤولية العائلية، والتضحية في سبيل الأسرة، والتفاني في سبيل الأهل والإخوة.
وهذا ما لاحظه د. مندور، إذ أشار إلى أن علاج نجيب محفوظ لمشكلات الطبقة الوسطى كان منصبًا على الآثار المترتبة على النظام الفاسد للمجتمع المصري كله، لا على تلك الطبقة.
ولكن نجيب لم يكتفِ بالتركيز على عيوب هذه الطبقة الخارجية، أو الناتجة عن عوامل خارجية في المجتمع كله، بل عمد إلى جوانب الفساد التي تنخر في أعماق هذه الطبقة، والتي تجلوها الظروف، وهي عوامل مختلفة، مثل: الازدواجية التي عاشت فيها بين واقع الحياة ومثلها الدينية والاجتماعية، وما فرضته عليها ظروفها من التمسك والمحافظة - ولو في الظاهر – بينما يدبّ الفساد داخلها.
ومن هنا ثبتت عناصر الصراع الحقيقية، التي أملى منها نجيب محفوظ قلبه، ليخط مأساة هذه الطبقة.