“ما من كاتبٍ كتبنا أكثر منا…”
لم يقل نجيب محفوظ هذه العبارة، لكنها تُشبهه. في كل صفحة من رواياته، ثمة ظل من ذاته، شبح من تأملاته، همس من صراعه مع نفسه قبل الآخرين. نقرؤه فنشعر أننا نقرأنا. لا لأنه يشبهنا تمامًا، بل لأنه يعرّينا. في مدينته الرمزية، الحارة، وبيوته المتصدّعة، وصمت أبطاله الموجع، تتبدّى الذات المصرية والإنسانية كأنها تمشي على حافة مرآة، ترى وتشظى، تتأمل وتسقط.
محفوظ ليس كاتبًا نقرأه ثم نضعه على الرف. بل ندخله في وعينا كما تدخل الحكايات الأولى في الطفولة. يعود إلينا في لحظات الهزيمة، ويواجهنا حين نغرق في الحنين. كاتب الهاوية لأنه رأى السقوط، وكاتب الضوء لأنه لم يتخلَّ عن فكرة الخلاص، حتى لو كان غامضًا
الذات في اختبار الحافة: بداية ونهاية
من بين جميع أعماله، تظل رواية بداية ونهاية أحد أهم تجليات الحضور الأنثوي في أدب محفوظ. فيها تصبح “نفيسة” مرآةً للعار الاجتماعي، لكنها في الوقت نفسه ضحية وناقلة لصوت خافت يهمس داخل كل امرأة مسحوقة: “أنا أستحق الحياة”. إنها ليست فقط امرأة تنهار تحت عنف التقاليد، بل شخصية وجودية تتكسر لأنها صدّقت أن قيمتها لا تُحدَّد إلا بعيون الآخرين. وكلما قرأنا الرواية، اكتشفنا أن البداية الحقيقية لم تكن في موت الأب، ولا النهاية في انتحارها، بل في تلك اللحظة التي بدأنا نفهم فيها أن الخطأ لم يكن خطأها وحدها.
نفيسة ليست امرأة ساقطة، بل كائن محاصر. وحين اختار محفوظ أن يجعل موتها نهاية الرواية، لم يكن يحكم عليها، بل يحكم على مجتمع كامل لا يعرف كيف يغفر، ولا كيف ينظر للأنثى إلا بوصفها شرفًا معلقًا، لا ذاتًا كاملة.
الضوء يتكلم في العتمة: الحرافيش
في الحرافيش، يكتب محفوظ أسطورته الخاصة. هناك، لا تصبح الحكاية عن فرد واحد، بل عن سلسلة من الرجال والنساء الذين تتكرر مصائرهم وتتغير وجوههم، بينما تظل الحارة هي المسرح، والقدر هو المؤلف الخفي.
لكن خلف صراع الفتوات والمظلومين، هناك حضور أنثوي لا يُستهان به. نساء الحرافيش، في سكونهن الظاهري، يكتبن تاريخًا موازيًا من الصبر، والتمرد الصامت، والمقاومة الجوانية. لم يكن محفوظ بحاجة إلى نسوية معلنة، بل اكتفى بأن يجعل من النساء ضميرًا للحارة. فإما أن يُنصت لهن الرجل، أو يسقط في دوامة التكرار.
الحرافيش ليست فقط رواية أجيال، بل مرآة للزمن الذي لا يتغير إلا إذا تغير الإنسان. ولهذا، فهي أعظم ما كتب محفوظ: لأنها رواية الغفران، والحكمة، والوجع الطويل
الخان كرمز الغربة: خان الخليلي
في خان الخليلي، تتجلى الهشاشة الذاتية في أوضح صورها. “أحمد عاكف” ليس بطلًا تقليديًا، بل رجل ضائع بين شبح الجمال الذي لا يملكه، والحب الذي لا يناله، والأخ المثالي الذي يسرق منه كل شيء دون أن يقصد.
الرواية هنا تتأمل الذات الضعيفة، لا لتدنيها، بل لتراها. محفوظ لا يسخر من أحمد، بل يضعه أمام مرآة صامتة. والغريب أن “نورا”، الفتاة التي أحبها ولم يَجْنِ منها سوى الخيبة، تتحول هي الأخرى إلى كائن مراوغ، ليس لأنها مؤذية، بل لأنها محايدة: لا ترى فيه ما يريد أن يراه في نفسه.
المرأة هنا ليست موضوعًا للحب، بل كاشفة لوهم الذات. ولهذا، فإن خان الخليلي رواية عن الخيبة العميقة، والذات حين تُفاجأ بأنها لا تملك شيئًا مما كانت تتوهم.
الطريق الضائع إلى الذات: صابر والنساء
في الطريق، نواجه سؤالًا وجوديًا جوهريًا: من نكون إن لم نعرف آباءنا؟ “صابر” يبحث عن أبيه كما يبحث عن معنى لحياته. لكنه طوال الطريق، لا يلتقي إلا بنساء يمثلن أشكالًا مختلفة من الحنان، والرغبة، والخديعة. الأم التي ربته، والنساء اللواتي أحبهن، جميعهن يعكسن في مرآة أرواحهن هشاشته الأصلية.
محفوظ هنا لا يقدّم المرأة كملاذ، بل كسؤال إضافي. كل حب لا ينقذه، وكل امرأة تُعيده إلى نقطة البداية. وبدل أن يُكمل الطريق، يعود صابر إلى أمه. لأنه، كما يبدو، لا يبحث عن الأب، بل عن ظل حنان قديم.
الطريق ليست عن ضياع الأب، بل عن بحث الذات في المرايا المكسورة للآخرين.
الذات ضد السلطة: أولاد حارتنا
رواية أولاد حارتنا لم تعد فقط نصًا أدبيًا، بل أسطورة تأسيسية لعلاقة القارئ العربي بالتمرد والسلطة والمعنى. محفوظ، عبر شخصياته الرمزية، كتب التاريخ البشري كصراع بين العلم والغيب، بين القهر والعدالة، بين الحارة والجبلاوي.
لكن اللافت في الرواية هو الغياب شبه التام للأنثى. الحكاية تُروى من وجهة ذكورية بالكامل، والمرأة تكاد تكون هامشًا في أسطورة الذكورة الكبرى. هل تعمّد محفوظ ذلك؟ أم أن النظام الرمزي للرواية كان يقتضي تغييبها؟
الذات هنا لا تنظر إلى نفسها، بل تتصارع مع أب غائب، وسلطة لا تُرى، وحارة تصرخ ولا أحد يسمع. ومع ذلك، تبقى الرواية من أهم نصوص محفوظ لأنها طرحت سؤال المعنى بجرأة وجودية لم تتكرر.
الأنثى كمرآة للعالم: زقاق المدق
زقاق المدق تبدو في ظاهرها رواية عن انحطاط الحارة، لكنها في جوهرها مرثية لامرأة كانت تُريد أن تحيا. “حميدة” ليست شخصية منحرفة كما حُكم عليها طويلاً، بل فتاة أرادت أن تخرج من ضيق الزقاق إلى أفق العالم.
محفوظ، في تعامله مع حميدة، بدا مترددًا بين التعاطف والإدانة. لكنه، دون أن يشعر، رسم شخصية أنثوية هي من أكثر شخصياته حياة وازدواجًا. حميدة، بطموحها وقسوتها، بجمالها وغضبها، كانت تقول شيئًا، محفوظ لم يكتبه صراحة: إن الحرية للمرأة ليست نزهة، بل سُبة في عيون الزقاق.
زقاق المدق مرآة لحلم الأنثى بالتحوّل، وكابوس المجتمع حين يرى هذا الحلم.
الذات الممزّقة: “الشحاذ” و”حضرة المحترم” كنصّين وجوديّين
في الشحاذ، يكتب محفوظ عن شخصية عمر الحمزاوي، المحامي الناجح الذي يستفيق ذات يوم ليكتشف أنه “فارغ من الداخل”. إنها ليست رواية عن أزمة منتصف العمر، بل عن الجوع الكوني إلى معنى، والرغبة المحمومة في الهروب من رتابة الإنجاز. الحمزاوي يبحث لا عن الحب، ولا عن المجد، بل عن لحظة صدق مع الذات، حتى لو كلّفته كل شيء. يترك زوجته، عمله، أمنه، ليطارد ومضة ضائعة من الروح.
أما في حضرة المحترم، فإن رحلة عثمان بيومي تبدو معكوسة: من الداخل الفارغ إلى الخارج اللامع. صعوده الطبقي في السلم الإداري ليس إلا سقوطًا أخلاقيًا، وتحوله إلى “حضرة المحترم” لا يمنحه السلام، بل العزلة المثلّجة. تلك الرواية الصغيرة، بإيجازها وضراوتها، تلخّص ما يحدث حين يُستبدل الحلم بالمنصب، والمعنى بالسلطة.
في هاتين الروايتين، نلمح محفوظ وهو ينقّب في القلب. لا حارة، ولا نساء، ولا صراعات اجتماعية ضخمة. بل عين محدّقة في الذات، تطرح سؤالًا بسيطًا ومفجعًا: ماذا تبقّى مني؟
الحلم والهاوية: كمال عبد الجواد كمفكر مشروخ
كمال عبد الجواد هو أيقونة هذا التيه. في قصر الشوق والسكرية، نرى شابًا مثقفًا، يحفظ أبيات أبي العلاء، ويخشى لمس يد امرأة. ينتمي للحداثة لكنه أسير أبٍ متسلط. يتحدث عن الله كثيرًا لكنه لا يعرفه، يحب كثيرًا لكنه لا يختار.
كمال ليس مأساويًا لأنه يفشل، بل لأنه يدرك فشله ويعجز عن تجاوزه. لأنه يطمح لحياة روحية وفكرية في عالم لا يُكافئ الحالمين.
تلك المفارقة بين الإيمان والشك، بين الأنا العليا والجسد، بين التوق والعجز، هي ما جعلت من كمال شخصية تتجاوز الرواية لتصبح رمزًا: رمزًا لجيل أراد أن ينهض، لكنه لم يجد أرضًا صلبة يقف عليها.
اللص كضمير: سعيد مهران وسقوط العدالة
في اللص والكلاب، يقدم محفوظ واحدًا من أكثر أبطاله تمزقًا، لا على مستوى الفعل، بل على مستوى العدالة.
سعيد مهران ليس مجرد لص، بل ضمير موجوع. خانته زوجته، وصديقه، ومعلمه، وخانته الثورة نفسها.
حين يقتل، لا يفعل ذلك انتقامًا فقط، بل ليُثبت أن هناك حقًا يجب أن يُعاد، حتى لو بلغة العنف.
الرواية ليست مرافعة عن الجريمة، بل تساؤل: ماذا لو خاننا الجميع؟ أين نضع الحق؟ ومن نصِّب “الكلاب” حراسًا على الحقيقة؟
بعد نوبل: نجيب محفوظ بين الأسطورة والظلّ
حين فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، لم يكن ذلك مجرد تتويج فردي، بل لحظة تأسيس لشرعية روائية عربية عالمية. صار محفوظ فجأة رمزًا لقوة الأدب العربي، لا لذاته فقط، بل للغته وثقافته، ولبائع العرقسوس في حارة المزين بـ”زقاق المدق”، ولابن الأزهر الذي تعلّم كيف يمشي على الحافة بين الفلسفة والتصوّف.
لكن ما بعد نوبل لم يكن فقط مجدًا. صار محفوظ في نظر البعض “نهاية مرحلة”، أو “التتويج الذي أغلق الباب”. جُمّدت صورته في عقل القارئ العربي كممثل رسمي للرواية، وتم تعليبه في قوالب “الكاتب الذي أرضى الغرب”، أو “المؤسس الذي لا يُمسّ”. لكن محفوظ ظلّ يكتب، وإن بصوت مغاير. ظهرت أعماله المتأخرة مثل أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة، كنصوص شذرية، تأملية، تعيد تفكيك ذاته ولغته، وكأنه ينقّب عن جوهر الكتابة بعد أن جرّب كل شيء.
في تلك المرحلة، بدا محفوظ أكثر صوفيةً، وأكثر ميلًا إلى الصمت المُركّز. صار يسائل الحكمة لا عبر الشخصيات، بل عبر الشذرات. وكأن نوبل لم تكن نهاية المطاف، بل بداية عبوره من الروائي إلى الفيلسوف. من صاحب الحكاية، إلى من يتأمل المعنى خلفها.
ومع أن كثيرًا من القرّاء العرب لم يواصلوا قراءته بعد نوبل، إلا أن ما كتبه في سنواته الأخيرة يكشف عن روح حرة، لا تزال تتطهر من المجد، وتكتب كأنها تبدأ من الصفر.
نقرؤه كي نختلف معه: مرآة الجيل الجديد
تربّيتُ على كتابات نجيب محفوظ. كانت كتبه تقبع في مكتبة البيت كأنها جزء من أثاث الوعي. أول ما قرأته له كان الثلاثية، قرأتها وأنا بالكاد أفهم كل أبعادها، لكنني شعرت أنني أمام حياة كاملة. ثم أغرمت بـ أولاد حارتنا، وما زلتُ أراها كتابًا مزلزلًا، كُتب كي نُصاب بهزته مرارًا. لكن تبقى الحرافيش تحفته الخاصة التي لا يمكن تجاوزها، كتابه الأكثر اكتمالًا من حيث اللغة والفكرة والحلم. كل رواية منها كانت بابًا لمجرة مختلفة، ولا تزال ترن في داخلي كنبوءات قديمة.
ومع الوقت، وجدت نفسي في صراع مع محفوظ. لا أختلف معه في ما كتبه، بل فيما لم يكتبه. في صمته أحيانًا، في اختياره للرؤية، في موقع الأنثى من المتن. لم أعد أقرأه ببراءة التلميذة، بل بقلق الكاتبة. وذاك القلق ليس عداءً، بل محبة ناضجة.
محبة تعرف أن الفن لا يكبر إلا بالنقد، وأن العظمة تُختبر حين تُمسّ.
أحيانًا أُغلق كتابًا له وأقول: “كان يمكن أن تقولها هكذا يا نجيب.” أوقول: “لقد ظلمت النساء يا نجيب هنا”.
ثم أبتسم، لأنني أعرف أنه يبتسم بدوره. أعرف أنه كان يعرف أننا سنأتي، نحن الذين نُحبه من موقع الاختلاف، لا الاتباع. أن يظلّ نجيب محفوظ مادة للصراع الإبداعي، بعد كل هذه السنوات، يعني أنه حيٌّ بطريقة لا يُجيدها إلا الكبار.
ولهذا، فإن الجيل الجديد لا يقرأه ليُقلّده، بل ليكتب بعده. أو ضده. أو في ظله. وهي كلها وجوه للحب.