السبت 6 سبتمبر 2025

مقالات

الشعر الصوفي العربي.. المفهوم والمُشْتَرَك والبِنْيَة


  • 6-9-2025 | 12:30

د. الضوي محمد الضوي

طباعة
  • د. الضوي محمد الضوي

يقف الشعر الصوفي تجربةً فريدة في مسيرة الشعر العربي، فقد أمدَّ التصوفُ الشعرَ العربيَّ بأسماء وتجارب شعرية فريدة، نادرة التكرار، موهبةً وجودةً وغزارة، من أمثال الشيخ ابن الفارض، والشيخ محيي الدين بن عربي، بالإضافة إلى ما وصلنا من شعر الشيخ الحلاج، والسيدة رابعة العدوية، والشيخ عبد الغني النابلسي، وسيدي علي وفا، وغيرهم.

لم يحرص الشعراء الصوفية على التصريح بتجاربهم الروحية في أشعارهم، إلا ما غلبهم من مواجيدها، أو كُتِبَ لغاية تعليمية، بل اتخذوا من الخصائص البنائية الانزياحية للشعر معينًا على التعبير عن تجاربهم الروحية الخاصة، بكثير من الترميز والإيحائية.

وتتعدد المشتركات بين التجربة الشعرية والتجربة الصوفية، فالتجربة الشعرية تجربة خاصة، وجدانية، يعبِّر فيها الشاعر عمّا يعتمل داخله من الأفكار والمشاعر بصياغات جمالية، تعلي من شأن الخيال، وتتخذه وسيلة للإدراك، وسبيلا للصوغ الجمالي اللغوي، الذي يعتمد على الطاقة الإيحائية للغة أكثر من اعتماده على التقرير، ويركن إلى الرمز بقدر ما يتجنب المباشرة.

كل هذا يتحقق بصورة أو بأخرى في التجربة الصوفية، فهي أيضًا تجربة خاصة، إذ ورد منسوبًا إلى الشيخ نجم الدين الكبرى (ت 618هـ): "الطرق إلى الله كثيرة بعدد أنفاس الخلائق"، وإن تكن المبادئ العامة في السير إلى الله تعالى واحدة، مستمدة من الكتاب والسنة، وآداب التزكية المأخوذة عن شيوخ التصوف المتحققين المسندين، فإن ثمرة الطريق شخصية متفاوتة، بقدر الصدق والإخلاص، والفتح الرباني الذي يفيض به المولى تبارك وتعالى على عباده الصادقين في مسعاهم إليه سبحانه. ويقف الخيال وسيلة شديدة الخصوصية في التجربة الصوفية، إذ به يُدرك العابد ما لا يُدركه بحواسه المباشرة، يتجول به في عوالم، ويتحقق بمعارف، لم يكن ليجني هذا وغيره لولا خصوصية التجربة وفاعلية الخيال، وكلما صفت روح العابد، ورقت بشريته، وخرجت الدنيا من قلبه، صفت مرآة خياله، وبلغ بها ما لا يبلغه غيره بالحواس.

ولأن الأمر خاص، ولن يدركه من لا يعيشه، وخشية أن يُنكر عليهم غير أبناء تجربتهم (كما يشير أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية)، سعى الصوفية لإيجاد مصطلحات خاصة بهم، يستعملون معها الكلمات المتداولة بين الناس استعمالات لا يفهمها سواهم، يحمّلونها من الدلالات التي تعبِّر عن خصوصية تجاربهم ما لم تكن لأصل وضعها اللغوي. فالبسط والقبض والجمع، وجمع الجمع، والحان والخمر والساقي والدنّ، والفناء والبقاء والمحو والسكر والصحو، وغيرها من الكلمات، لكل واحدة منها معانٍ خاصة لدى الصوفية، تزيد على معناها الذي هو لها في أصل وضعها اللغوي. وقد جمع دارسو التصوف الإسلامي هذه الاصطلاحات ومعانيها من عيون كتب التصوف، كالرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري، وكشف المحجوب للهجويري، والتعرُّف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، وغيرها، وجعلوا لها معاجم خاصة بها، تعين المهتمين على فهم معاني اصطلاحات الصوفية، من هذه المعاجم: (معجم مصطلحات الصوفية لعبد الرزاق الكاشاني – ت 730هـ)، ومنها في العصر الحديث: (المعجم الصوفي لسعاد الحكيم) و(معجم ألفاظ الصوفية لحسن الشرقاوي) وغيرها. وإن ظل الوقوف على حقيقة هذه المعاني غير ممكن يقينًا إلا لمن يعيشون التجربة الصوفية نفسها، بل إن بعض المعاني تظل مستغلقة على أبناء التجربة أنفسهم ممن لم يبلغوا درجة فهمها في رحلة ترقيهم الروحية.

وهذه الطريقة في استعمال اللغة لا تختلف في كثير عن جوهر الصوغ الشعري الذي يستعمل فيه الشاعر اللغة بشيء من المجاوزة أو الإزاحة، فلا يجعلها بمعانيها التي هي لها، إنما يفجِّر منها، بعلاقات الترميز أو التجاور أو الإيحائية، معاني جديدة مختلفة، تزيد دلالاتها سعةً وجمالًا.

فإذا اجتمعت التجربتان الشعرية والصوفية في ذات واحدة، هي ذات الشاعر الصوفي، ومنتَج واحد، هو الشعر الصوفي، فإن هذا سيكون منطلقًا لإبداع فارق مدهش، كما نجده في كثير من أشعارهم.

كتب الشعراء الصوفية على مدار التجربة الشعرية العربية والإسلامية في كل الأشكال الشعرية تقريبًا، فكتبوا في الشكل التقليدي (البيتي)، لا سيما في أغراض الغزل والخمريات، كما كتبوا في أشكال الموشحات والدوبيت وغيرها.

وكما استفاد الشعر من التجربة الصوفية، فقد استفاد المنجز المعرفي الصوفي أيضًا من الشعر، فلطالما صاغ أئمة التصوف وشيوخه معانيهم ومواجيدهم في قوالب شعرية – لأغراض تعليمية – نقلوا من خلالها هذه المعاني والمواجيد لمريديهم وقاصدي التصوف، فامتلأت مجالس الذكر الصوفية بإنشاد القصائد في محبة الله سبحانه، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتغني بحمده وشكره، وشحذ الهمم في الإقبال عليه وعلى عبادته ومحبته. كما نجد هذا في قصائد مثل "الميمية" و"المنبهجة" لسيدي الإمام مصطفى البكري (ت 1188هـ)، ومنظومة أسماء الله الحسنى لسيدي الإمام أحمد الدردير العدوي (ت 1201هـ)، كذلك القصائد التي صاغوها في محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومديحه والتعريف به وبسنته وسيرته، والتي من أشهرها قصائد البردة المسماة (الكواكب الدرية في مدح خير البرية) و(القصيدة المحمدية) للإمام البوصيري (ت 696هـ)، بالإضافة إلى مدائح كثيرة في العصر الحديث لأئمة الصوفية من أمثال: (يا سيدي يا رسول الله يا سندي) للشيخ محمد الطاهر الحامدي، بالإضافة إلى أشعار الشيخ محمد خليل الخطيب، والشيخ صلاح الدين القوصي، وغيرهم. كما نظم الصوفية آداب طريقتهم ومعارفها، وما يكون فيها من الأحوال والمقامات ومعتركات السلوك إلى الله تعالى، في منظومات شعرية، استفادوا فيها من الشكل الشعري الموزون المقفى، كما استفادوا من الجوهر الدلالي الإزاحي للبناء الشعري على السواء. فوجدنا من ذلك قصائد (التائية الكبرى) للشيخ الفارض، و(الألفية الصوفية) للشيخ مصطفى البكري، وفي العصر الحديث من مثل هذا (منظومة في فضائل الطريق) للشيخ محمد الطاهر الحامدي.

لقد حمل الشعر الصوفي في مجمله دلالات واسعة، مشغولة بعلاقة الإنسان بربه الذي أوجده، علاقة محبة وتفانٍ في الخدمة، وحسن أداء لما أوجده الله لأجله، وكذلك علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، شريك الرحلة والمهمة، وعلاقته بالموجودات من نبات وحيوانٍ وطيرٍ وجمادٍ، وكل موجود أوجده الله تعالى لغاية وحكمة. انشغل الشعر الصوفي (كما التجربة الصوفية) بحسن أداء المهمة التي أوجدنا الله لأجلها، وهي محبته التي هي جوهر عبادتنا له. لقد كان دينهم وديدنهم وفلسفتهم التي حولها يدورون، وبها يتوجهون: المحبة، كما يقول الشيخ ابن عربي:

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجّهتْ

ركائبُهُ فالحبُّ ديني وإيماني.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة