نحن هنا في الفصل الثالث من كتاب جمال حمدان استراتيجية الاستعمار والتحرير (1983). وفيه قام حمدان بقراءة وترجمة لما ضمته بعض أهم المراجع الأجنبية عن موضوع الكشوف الجغرافية والاستعمار. وهو بداية تعاظم دور البحر وسقوط نهائي لثنائيات الصراع القديمة (كالاستبس والغابة، والسهل والجبل، والرمل والطين) وحل محل كل ذلك عصر الإمبراطوريات البحرية العظمى.
تشغل هذه المرحلة ثلاثة قرون من مطلع القرن السادس عشر وحتى الثامن عشر. وبديهي أنه ليس هناك انقطاع في مسيرة التاريخ والجغرافيا، لأن هذه المرحلة جاءت استمرارا للماضي وتطويرا للحروب الصليبية والصراع مع العالم الإسلامي، كما أنها هي نفسها الأب الشرعي للاستعمار الحديث الذي ما زلنا نراه إلى اليوم في 2025.
وحين يطرح حمدان السؤال المنطقي: لماذا خرجت أوروبا (وأوروبا الغربية على وجه الخصوص) في ذلك التاريخ بعينه إلى البحر والمحيط؟ فإنه يعود إلى المفكر الجغرافي الأمريكي الشهير ألسويرث هنتنجتون – أحد رواد الحتم البيئي في مطلع القرن العشرين – الذي أرجع الأمر إلى نظرية هجرة الحضارة نحو الشمال. فالحضارة البشرية ومركز ثقلها نشأ في دائرة الشرق الأوسط القديم: مصر والعراق وفينيقيا، ثم انتقل إلى كريت فاليونان فروما، وعشية الكشوف جاء دور غرب أوروبا، جنوبه أولا ثم شماله.
غير أن حمدان لا ينساق وراء المراجع الأجنبية التي ينقل عنها، إذ نجده يسجل تحفظه قائلا:
•"غير أن كثيرا من الكتاب الغربيين يحلو لهم أن يردوها إلى حيوية وتطلع غير عادي في شعوب غرب أوروبا، وإلى حب استطلاع ومغامرة وتفوق طبيعي في الجنس. هم بمعنى آخر يثيرون تفسيرا عنصريًا".
في المقابل، يبحث حمدان في نوعين من التفسيرات:
•الضغوط الخارجية
ينقل حمدان عن الجغرافي البريطاني الشهير هالفورد ماكيندر تفسيره بأن الذي خلق الشعور القومي مبكرًا في أوروبا هي الضغوط الثلاثة التي أحدقت بها من جهاتها الثلاث: خطر الفيكينج من الشمال، والاستبس من الشرق، والسراسنة (العرب) من الجنوب. ويكفي أن الوحدة السياسية ثم الكشوف الجغرافية بدأت مباشرة في إسبانيا والبرتغال بعد طرد المور والعرب وكرد فعل للصراع معهم. ويخلص من ذلك إلى القول بأن القومية المبكرة والوحدة الوطنية السباقة التي عرفتها أوروبا، ومكنت لها من الخروج إلى الكشوف الاستعمارية، هي في التحليل الأخير "هدية غير مقصودة من العرب والشرق".
•العوامل الجغرافية
ينقل حمدان عن الجغرافي الشهير ديروينت ويتليسي أن البيئة الطبيعية لأوروبا كانت وراء ذلك الخروج للاستكشاف، فهي بيئة بحرية مثالية. القارة كلها ليست إلا "شبه جزيرة من أشباه الجزر" لأنها مؤلفة من سواحل مترامية متعرجة (مسننة) بالخلجان والفيوردات والـ rias، ومحمية بالجزر والأرخبيلات، وخلفها أنهار وأحواض أنهار غنية، تدعمها غابات أخشاب جيدة وآجام القنب والكتان، وثلاثتها خامة بناء السفن. هذا إن لم تقع وراء تلك السواحل أو الأنهار تربات جرداء وأقاليم متجلدة (glaciated) تطرد السكان طردًا إلى البحر، والبحر بدوره غني بثروته السمكية الكثيفة.
الاستعمار البرتغالي
من مراجعة ثلاثة مصادر لكبار الجغرافيين الأمريكيين والإنجليز، لخص لنا حمدان المعلومات ووضع ملاحظاته واستنتاجاته عن الكشوف الجغرافية التي استهلتها البرتغال في نهاية القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، وذلك على النحو التالي:
•طرد المسلمين من الأندلس
في نفس الوقت الذي كان العرب المسلمون يُطردون من الأندلس وعموم أيبريا، استأنف البرتغال والإسبان صراعهم الصليبي بمده ونقله إلى المغرب العربي نفسه، ومن خلفه أفريقيا.
ومن أهم الدوافع هنا تلك الشحنة التي دفعت البرتغال والإسبان ورغبتهم العارمة في انتزاع تجارة الشرق الثمينة من العرب والوصول إلى جزر التوابل بالدوران حول اليابس الإفريقي، أي بطريق بحري بديل. وثمة فوق هذا الرغبة الصليبية الكامنة في الانتقام من الإسلام بتطويقه والالتفاف حوله. وهنا يلاحظ حمدان أن هذه الرغبة هي التي أعطت الاستعمار البرتغالي من بدايته نزعة كاثوليكية ومسحة صليبية لا شك فيها.
•إفشاء العرب أسرارهم!
مع طرد المسلمين من الأندلس تمكن البرتغال من الدوران حول الكيب (الرحالة دياز) ووصلوا إلى الهند (الرحالة فاسكو دي جاما). وإذا كانوا قد أفادوا من التجاريات الشمالية الشرقية في بداية الرحلة في غرب أفريقيا، فقد استفادوا في شطرها المتجه من شرق أفريقيا إلى الهند من الرياح الموسمية الجنوبية الغربية التي أفشى سرها لهم الرحالة العربي أحمد بن ماجد. وكانت النتيجة سرقة الموقع الجغرافي البؤري للعرب، ومعه سرقوا تجارة الشرق، ومع هذا وذاك سرقوا قوتهم السياسية بالكامل.
•تحالف مؤقت مع الحبشة
وخلال هذا التطويق البرتغالي للعالم العربي، تحالف البرتغال مع الحبشة المسيحية التي قدمت لهم مساعدات كثيرة ضد مصر خاصة. وكان التعاون بينهما قد بدأ في الواقع قبل الكشف بقرن كامل إبّان الصليبيات، وكان بينهما مشروع خيالي لتحويل مجرى النيل الأزرق في الحبشة إلى البحر الأحمر لتجف مصر وتنقرض جوعًا.
ما لم يقله حمدان هنا – أو لم تقله مراجعه – أنه لم تكن هناك عداءات دينية بين الحبشة ومصر أو الشعب المصري، بقدر ما كان هدف البرتغال إضعاف نظام المماليك في مصر، وبالتالي ضرب سيطرتهم على التجارة مع الهند التي تجعل من مصر نقطة المركز في تصدير توابل الهند إلى أوروبا.
وقد ظهرت اليوم مصادر حديثة ترى أن أهل الحبشة عانوا من ويلات تجارة الرقيق المزدهرة في أسواق القاهرة.
(4) معركة ديو البحرية
نحن هنا أمام واحدة من المرات القليلة التي يحدث فيها خلط عند جمال حمدان في وصف حدث تاريخي جغرافي، وذلك حين يحدثنا عن معركة مهمة تسمى في التاريخ "ديو البحرية"، فيقول في انتصار البرتغال على العرب:
"ولقد كان هذا جميعًا إيذانًا بنهاية الدولة العربية، فبدأت الانحدار الرهيب الذي سيجعلها بعد قليل فريسة سهلة للعثمانية. وهذه بدورها [العثمانية] ستأتي لتخنق – بسياستها الجمركية الابتزازية الغبية – البقية الباقية من تجارة المرور وتضاعف من الانهيار المخيف. وقد حاول الأتراك فيما بعد ملاقاة البرتغال في المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر، ولكنهم هزموا في النهاية في موقعة ديو البحرية".
وسبب الخلط هنا أن لدينا مستويين من معركة ديو Battle of Diu:
معركة ديو البحرية في 1509.
حصار ديو في 1538.
ما يتحدث عنه حمدان من معركة خسر فيها العثمانيون أمام البرتغال هو حصار ديو 1538، حين خرج أسطول عثماني من البحر الأحمر وجاء إلى "ديو" في غرب الهند ليحاصر القلعة التي حصنها البرتغاليون في شبه جزيرة ديو. ولم ينجح العثمانيون في الحصار وانسحبوا خاسرين.
أما "معركة ديو البحرية" التي غيرت مجرى تاريخ المنطقة فكانت قبل ذلك الحصار بثلاثين سنة، وخاض فيها أسطول مصر المملوكية – وليس العثمانيين – معركة فاصلة أمام أسطول البرتغال الذي جاء إلى الهند. وأمام شبه جزيرة ديو في شمال غرب الهند تمكن الأسطول البرتغالي من تحطيم أسطول مصر المملوكية في 1509.
وتذهب المراجع المتاحة اليوم في 2025 إلى أنه لولا معركة ديو البحرية 1509 لما وقع الغزو العثماني لمصر، فقد وصلت الأخبار إلى العثمانيين بأن تدميرًا فادحًا في قدرات المماليك العسكرية ومذبحة شاملة وقعت لعدد كبير من قواتهم أمام سواحل الهند، ترتب عليها توقف التجارة وتعطل طرق الأرباح التي كانت ترد لمصر من أسطول الهند وبيع التوابل لأوروبا. وفي ظل هذه الثنائية الكارثية على مصر المملوكية (تحطم عسكري وجفاف منابع ثروة التجارة) أصبحت الفرصة سانحة ليقوم السلطان العثماني بغزو مصر بداية من الشام في أغسطس 1516، وصولًا إلى دخول القاهرة في يناير 1517، أي بعد أقل من 8 سنوات من تحطم أسطول مصر المملوكية في ديو.
(5) استعمار برتغالي على النمط الإغريقي
يأخذنا حمدان إلى تلخيص طبيعة الاستعمار البرتغالي، فيرى أن الإمبراطورية البرتغالية في الشرق لم تزد على نقط ومواقع عسكرية منتشرة على السواحل، ولم تمتد على مساحات واسعة من اليابس، وكانت في نمطها أقرب ما تكون إلى نوع الاستعمار الإغريقي، أي أنه استعمار محطات ومدن وليس استعمارًا للسكنى والتوطن.
يقول حمدان بشكل بليغ في وصفه للمستعمرات البرتغالية على السواحل الإفريقية إن أفريقيا لم تكن للبرتغال سوى "عقبة لا عتبة" إلى الهند، مجرد موطئ قدم ومحطات في الطريق ومواقع حربية. لكن في مراحل تالية ستتحول المواقع البرتغالية على ساحل غرب أفريقيا إلى محطات لحشد وتصدير الرقيق إلى العالم الجديد.
أما في الهند فلم تتعد البرتغال نقطة "قاليقوط" على جنوب الساحل الغربي أو رقعة "جوا" على شماله. وتفسير ذلك أن البرتغال لم يكن لديها قوة بشرية كافية للاستعمار السكني الاستيطاني حتى لو أرادت. بل إن أمر هذه القوة البشرية ليثير الدهشة حقًا، ففي عصرها البطولي هذا لم تكن البرتغال تزيد على المليون نسمة سكانًا.
في عقود قليلة حققت البرتغال استعمارها بسرعة غير عادية، لكن الإمبراطورية البرتغالية مع ذلك لم تعمّر أكثر من جيل. ولم تلبث بعد ذلك أن أخذت في التقلص والانكماش مع ظهور قوى بحرية جديدة، وحينها نقلت البرتغال ثقلها الاستعماري إلى البرازيل.
ويختم حمدان المشهد قائلًا: "الغرابة إذن ليست في سقوط الاستعمار البرتغالي في النهاية، وإنما في قيامه أصلًا".
الاستعمار الإسباني
هنا يحدد حمدان أربعة مراجع أجنبية عاد إليها في نقل التاريخ والجغرافيا. وقد أوجز لنا حمدان من هذه المراجع الصورة التالية:
•عدوى البرتغال وكروية الأرض
كان نجاح البرتغال بمثابة العدوى للقوى الاستعمارية الأوروبية الساعية للوصول إلى الهند بالملاحة شرقًا. لكن بعد التأكد من كروية الأرض فقد بات مأمولًا الوصول إلى الهند بالإبحار من أوروبا غربًا. ومن ثم خرجت إسبانيا منذ منتصف القرن السادس عشر إلى الكشف مغربة في الأطلسي. وهكذا قُدِّر لإسبانيا أن تكشف أمريكا خلال سعيها للوصول إلى الهند بالإبحار غربًا.
•عكس عقارب الساعة
لم يعرف كولومبس في إبحاره غربًا لصالح الإسبان أن هناك أمريكا شمالية، لأنه وصل أولًا إلى مجموعة جزر تشبه جزر الهند في الشرق، وستُعرف في الجغرافيا لاحقًا باسم "جزر الهند الغربية". وهذه الجزر هي أول ما وطئ الإسبان في العالم الجديد، فكانت لصغرها وتفتتها فريسة سهلة، ومنها انطلق الإسبان إلى هضبة المكسيك، وفيما بعد وصلوا إلى فلوريدا وكاليفورنيا. ومن هذه المنطقة (التي ستُعرف لاحقًا باسم أمريكا الوسطى) عبروا برزخ بنما إلى المحيط الهادئ وأبحروا جنوبًا على طول ساحل القارة وصولًا إلى سهول الأرجنتين.
•استعمار بفارق الأسلحة
وفيما يشبه الاختلال الكبير بين القوى البرتغالية المتفوقة في الأسلحة الوافدة والمواطنين المستقرين في العالم القديم، كانت إسبانيا هنا أيضًا في العالم الجديد قليلة العدد، فلم يكن سكانها آنذاك يتعدون 6 ملايين نسمة، مقابل 12 مليونًا من الهنود الحمر. وفاقت مستوطنات الإسبان الاستعمارية مساحة وطنهم عشرات المرات!
* البيئة الطبوغرافية وعوامل المناخ
* صحيح أن الذي ساعد إسبانيا في تفوقها على الهنود الحمر البارود والمدفعية التي فتكت بالفروسية وأسلحة المشاة البدائية، لكن هناك أيضًا العامل الجغرافي، ويتمثل في أن تشابهًا طبيعيًا ومناخيًا كبيرًا بين هضاب العالم الجديد (ولا سيما المكسيك) وهضبة المزيتا في الوطن، كان مما سهَّل عملية الانتشار وسرعة التمدد. ونفس هذا العامل الطبيعي هو الذي يفسر لماذا لم يتوغل الإسبان كثيرًا في أمريكا الشمالية، فهناك يبدأ وسط بيئي ومناخي مختلف عما ألِف الغزاة المتوسطيون.
•البابا يقسم الاستعمار
مع كشف العالم الجديد وقع نزاع بين إسبانيا والبرتغال على المستعمرات الواعدة. فرسم بابا الفاتيكان على الكرة الأرضية خطًا يمر بوسط المحيط الأطلسي يقسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ وفق ما عُرف باسم "معاهدة تورديسيللاس"، وبموجبها كان كل ما يُكشف شرق هذا الخط من نصيب البرتغال، وكل ما يُكشف غربه من نصيب إسبانيا. ومع مطالبة البرتغال تعديل هذا الخط وزحزحته غربًا أصبح شرق أمريكا الجنوبية (البرازيل) من نصيب البرتغال، بينما أصبح بقية جسم أمريكا الجنوبية والوسطى إمبراطورية قارية إسبانية ضخمة.
•إسبانيا تصل إلى الفلبين
في موجة جديدة للكشف الجغرافي الإسباني يبحر فرديناند ماجلان ليعبر المحيط الهادئ ويصل من أقصى طرف أمريكا الجنوبية (مضيق ماجلان)، وحين يدخل المحيط الهادئ يصل إلى مجموعة جزر سيعطيها اسم "فيليبيناس" Felipinas (على اسم الملك الإسباني فيليب الثاني)، ومن وقتها دخلت الفلبين فلك الإمبراطورية الإسبانية. ويُجمل حمدان الأمر بقوله: "وهكذا خرجت إسبانيا والبرتغال من الوطن، وقد أعطى كل منهما ظهره للآخر ليجدا نفسيهما في النهاية يلتقيان وجهًا لوجه في الشرق الأقصى: إسبانيا في الفلبين شرقًا إزاء البرتغال في جزر الهند الشرقية غربًا."
هل تستمر السيادة للبرتغال وإسبانيا أم سيظهر منافسون جدد؟ هذا ما نتعرف عليه في الحلقة المقبلة من "استراتيجية الاستعمار والتحرير".