يمثل مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي واحدًا من أبرز الفعاليات الفنية في المنطقة العربية، إذ استطاع على مدى أكثر من 3 عقود أن يرسّخ مكانته كجسر للتواصل الثقافي بين الشعوب، ومنصة لتبادل الخبرات المسرحية عالميًا، وفي دورته الثانية والثلاثين في العام الحالي، يواصل المهرجان رسالته في تقديم عروض نوعية وورش عمل وندوات، تفتح آفاقًا جديدة أمام المسرحيين والجمهور على حد سواء.
وللتعرف على أبرز ملامح هذه الدورة، ورؤية المهرجان تجاه التحديات الفكرية والتنظيمية، كان لـ «بوابة دار الهلال» هذا الحوار مع الدكتور سامح مهران، أستاذ الدراما ورئيس مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، الذي تحدث عن فلسفته في الإدارة، وتصوراته لمستقبل المسرح التجريبي.. وإلى نص الحوار:
-
بداية.. ما الذي يميز الدورة الثانية والثلاثين من المهرجان؟
المهرجان ليس حدثًا جماهيريًا تقليديًا، بل هو مهرجان نوعي موجّه للباحثين عن التجارب المسرحية المختلفة، صحيح أنّ العروض العالمية الكبيرة تحتاج إلى تمويل ضخم، وقد لا نمتلك دائمًا الإمكانات لجلب أكبر الفرق التجريبية في العالم، لكننا في المقابل نحرص على استضافة ضيوف أكاديمين ومسرحيين بارزين، وتقديم عروض مميزة تتناسب مع الظرف العالمي الراهن، وهذه الدورة تتميز ببرنامج ثري يضم إصدارات متميزة، وهي أحد عشر كتابًا جديدًا تترجم وتوثق أحدث الاتجاهات المسرحية العالمية، وينظم المهرجان ورش عمل متنوعة، وعروضًا مسرحية ذات خصوصية، ومن أبرز ما يميز المهرجان هذا العام مشاركة دول لم يسبق لها الحضور مثل قطر، إضافة إلى عروض من السعودية، وتونس، وإيطاليا، وأرمينيا، ورومانيا وغيرها.
- ما الرسالة الأساسية التي يسعى المهرجان لتكريسها من خلال استضافة العروض العالمية؟
الرسالة الأساسية التي يسعى المهرجان إلى تكريسها هي التثاقف مع الآخر؛ فالفن شكل من أشكال الدبلوماسية الشعبية، وجسر للتواصل بين الشعوب؛ و الثقافة عندما تنغلق على نفسها تتحول إلى شيء مرعب يقود إلى كل أشكال المركزيات والتحزبات، أما الانفتاح على الآخر فيُغني تجاربنا ويُفعل العقل النقدي ليُميز ما يمكن أن نستفيد منه وما يمكن أن نرفضه أو نتفاوض بشأنه.
- كيف أثّرت التحوّلات الاقتصادية ووسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الهويّات الثقافية.. وما انعكاسات ذلك على عروض المهرجان؟
نعيش اليوم حالة من التوتر المستمر، بين الذات المسبقة والذات المكتسبة، بين الفرد وجماعته، وبين الخصوصية المحلية وموجات العولمة لقد غيّر رأس المال المعولم والهياكل الاقتصادية الجديدة بشكل جذري ملامح الهوية، وزاد من تعقيدها مع الانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي؛ ولهذا لم يعد بالإمكان الحديث عن جماعات متجانسة أو ثابتة، بل عن اختلاف وتباين دائم في الفكر والرؤى.
ونعمل على تقديم عروض متميزة ومتباينة، ولدينا هذا العام عرض إنتاج مشترك ثلاثي، بين الولايات المتحدة الأمريكية، وزيمبابوي، وكولومبيا وإذا تقدّم إلينا عرض جيد ومتميز، نرحب بمشاركته في المهرجان، ونقدم عروضا متميزة وفعاليات مهمة في المحور الفكري من جلسات تناقش أبرز القضايا المسرحية في مصر والوطن العربي والعالمي، ونخصص جلسات احتفاء برموز المسرح في مصر والوطن العربي والعالم في مقدمتهم دكتور هناء عبد الفتاح.
-
ما أبرز التحديات التي تواجه المهرجان؟
لقد استأجرنا بتكاليف مالية ضخمة أجهزة خاصة بتقنيات الصوت والإضاءة، رغم أن ذلك ليس من مسؤولية المهرجان المباشرة، بينما كان على المسارح نفسها أن توفرها، نحن في إدارة المهرجان نحرص على دعم الفرق العربية والأجنبية بشكل كامل، وتوفير كل ما تحتاجه لإنجاح عروضها، تصنيع الديكورات يتم في مصر، أما الأجهزة غير المتوفرة فنقوم بتوفيرها خاصة، و نبذل جهدًا متواصلًا على مدار العام لنضمن تهيئة كل ما يلزم لإقامة عروض المهرجان بأعلى مستوى.
- ما خطتكم لتسويق المهرجان وجذب جمهور أوسع في ظل التحديات التمويلية؟
مهرجان المسرح التجريبي كبير له جمهور مختلف ومميز، فكل عام نشهد إقبالًا واسعًا وتدافعًا على بوابات الدخول، والحضور يتم دائمًا بأسبقية الدخول، المهرجان بقوته وتاريخه قادر على تسويق نفسه، وبالتالي لا نواجه أزمة في جذب الجمهور، إنما تكمن التحديات الأساسية في التمويل، فلو توفّر الدعم المالي الكافي، سنتمكن من استقدام فرق مسرحية عالمية كبرى.
وهذا المهرجان بات أشبه بإرثٍ يتوارثه الجمهور جيلًا بعد جيل، ويتجلى ذلك في حضوره وإقباله الكبير على فعالياته عامًا بعد عام، فالجمهور يأتي ليشاهد عروضًا متنوعة، ويطّلع على ثقافات مغايرة وتجارب مسرحية من دول عربية قريبة، ويتابع عن كثب تطور الحركة المسرحية في الخليج وشمال إفريقيا؛ فالمسرح في جوهره بحثٌ دائم عن الجديد، غير أننا ما زلنا في حاجة ماسّة إلى حراك مسرحي أوسع وأعمق يواكب هذا التنوع ويثريه.
ورغم أن تقنيات الخشبة متاحة وتساعد على تقديم عروض متقدمة، إلا أن المشكلة تكمن في غياب ثقافة الاختلاف، حيث شهدنا تراجعًا نسبيًا في السنوات الأخيرة على المستوى الفكري، فرغم هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، التي قرّبت العالم وجعلته أكثر اتصالًا، إلا أننا نلاحظ وجود فجوة فكرية حقيقية بين العقول، و نحن لا نقبل كل ما يأتينا من الآخر بشكل مطلق، كما أننا لا نفرض على العالم قيمنا الخاصة فقط، بل نسعى إلى الدخول في حوار وجدل مع الآخر من خلال الفنون، بحيث نأخذ ما يتناسب مع ثقافتنا وهويتنا ونرفض ما لا يلائمنا، وهنا يبرز دور العقل النقدي كعنصر حاسم في عملية التبادل والتثاقف الثقافي.
-
في حديثكم ركزتم على «العقل النقدي».. ماذا تقصدون؟
نحن هنا في مصر، كما هو الحال في العالم كله، نشهد نظامًا تعليميًا يعتمد في جوهره على التلقين وإدخال المعلومات «التعليم البنكي» لكن الهدف الحقيقي من التعليم يجب أن يكون أعمق من ذلك؛ إذ ينبغي أن نعمل منذ المراحل الدراسية الأولى على تنمية قدرة الطالب على إبداء الرأي وصقل عقله النقدي، فبالعقل النقدي يتمكن الفرد من فرز الأفكار وانتقاء ما يناسبه والأخذ به، وفي المقابل رفض ما لا يتوافق مع قيمه وهويته.
أنا رجل مسرح، وأعتبر أن تجربتي هي الإبداع، فأنا كاتب ومؤلف، و قدّمت ستة عروض مسرحية كمخرج، إلى جانب إسهاماتي النقدية التي نشرت في مجلات، وصحف متخصصة مثل صوت الكويت، الحياة اللندنية وغيرها، غير أنني عندما احترفت الكتابة كمؤلف مسرحي ابتعدت عن النقد تمامًا، لأنني أؤمن أن الجمع بين أن تكون مبدعًا وناقدًا في الوقت نفسه أمر لا يليق ولايتسق أخلاقيًا؛ فلا يجوز أن أنافس الآخرين بإبداعي ثم أقيّم أعمالهم.
والمهرجان يزخر بعدد كبير من كبار النقاد المصريين والعرب والدوليين، ومنهم وفي مقدمتهم البروفيسور الفرنسي باتريس بافيس، فإن الساحة النقدية غنيّة بما يكفي لتواكب العروض وتفتح آفاق النقاش والتفاعل، والمهرجان التجريبي ليس مجرد فعالية فنية، بل هو فعل حضاري، ورهان على المستقبل، ورسالة انفتاح وحوار دائم بين الذات والآخر، بين الهوية والانفتاح، بين الإبداع والنقد، وهذا ما يجعل المهرجان علامة فارقة على الخريطة المسرحية العالمية.
- ما الأهم في اعتقادكم.. الكم أم الكيف في الإنتاج المسرحي؟
حين كنت مديرًا لمسرح الغد، في عام 2002 قدّمنا أحد عشر عرضًا مسرحيًا في موسم واحد، واليوم نتساءل: أين هو إنتاج البيت الفني للمسرح الآن؟ ورغم كثافة الإنتاج المسرحي في مصر من مختلف المؤسسات، يبقى السؤال الأهم: ما المؤثر الحقيقي في حركة و نهضة المسرح؟ هل هو الكم وحده، أم الكيف وجودة ما يُقدَّم؟.
- كيف ترى دور الجمهور في العروض التجريبية؟
أوجه رسالتي بوضوح وأؤكد دائمًا أن الانغلاق لا يفيد، والانفتاح يقتضي بالضرورة رفع سقف الحريات ولو بشكل تدريجي، نحن لسنا دعاة فوضى، لكننا نؤمن أن المسرح يجب أن يظل متصلا بالواقع المعيش، لا بالواقع الافتراضي أو المصطنع، فالمسرح الحقيقي هو ذلك الذي يكسر الحدود بين التمثيل والحياة، ليمنح العروض ديناميكية حيّة، ويجعل المتفرج شريكًا فاعلًا في إنتاج المعنى طوال زمن العرض.
لقد خضت تجربة مسرحية مهمة مع الفنان الدكتور محمد الشافعي، في عرض بعنوان «ديسكو»، الذي تحوّل لاحقًا إلى عرض «بلاي» وكان من رؤية العرض أن يتغير كل ليلة وفق تفاعل الجمهور؛ إذ كنا ندفع المتفرج إلى ساحة الرقص ليصبح جزءًا من الحدث، وننشئ معه جدلًا حيًا يضمن التفاعل والمشاركة، والأهم أننا كنا نمنحه الاحترام الكامل، فلا تُفرض عليه سلطة تُجبره على معنى محدد، بل يُترك له المجال ليشارك في صياغة دلالات العرض، وهذا ما نطمح أن نكافح من أجله أن يكون المسرح فضاءً ديمقراطيًا كاملًا، تتحقق فيه المساواة بين عناصر العرض، فلا سلطة تعلو على سلطة أخرى، ولا هيمنة على المتلقي، أتمنى أن يترسّخ هذا الفكر الديمقراطي في المسرح، لأن بداخل كل واحدٍ منا «ديكتاتورًا صغيرًا» يجب أن نزيله من نفسية المواطن منذ نشأته، ليكبر واعيًا بتفاعله وآرائه، مدركًا أنه شريك في إنتاج المعنى لا مجرد متلقٍ سلبي.
- هناك من يرى أن التسابق في المهرجانات يُفقدها روح التجريب.. ما تعليقكم؟
التجريب مفهوم نسبي؛ فلا يمكن أن يكون هناك تطابق تام بين مجتمع وآخر، ولا بين تجربة مسرحية وأخرى، حين توليت رئاسة المهرجان في دوراته الأولى، كان هدفي الأساسي هو تبادل الخبرات، لذلك كنتُ ضد فكرة التسابق، ومع عودة المنافسة في عهد الدكتورة نيفين الكيلاني، ورغم حصولنا على جوائز المهرجان في عدة دورات، ما زلت أرى أن فكرة التسابق في المهرجانات قد تكون مضللة، فهي قد تجعل الفنان يستسلم للحظة نصرٍ عابرة فيثبت على اتجاه واحد، بدلًا من أن يستجيب للحركة المسرحية المتغيرة والمتطورة، إن الجوائز قد تُغري البعض، لكن القيمة الحقيقية تكمن في المشاركة والتجريب والتطور، لا في الميدالية أو الدرع، وأنا الآن أستجيب للحركة المسرحية من جانب التسابق.
- أخيرًا.. ما تقييمك لحركة الإبداع المسرحي في مصر؟
المسرح المصري غني ومتنوع، وقد حصد جوائز مرموقة في دورات سابقة من المهرجان، من بينها عرض المخرج خالد جلال، والمخرج ناصر عبد المنعم، والمخرج انتصار عبدالفتاح، وعروض للعديد من الفنانين والمخرجين منهم المخرجة ريهام عبد الرازق عن «كلام في سري»، والمخرج محمد مرسي، والمخرج ناصر عبد المنعم، وغيرهم، وهنا يطرح السؤال نفسه: «لماذا لا تُعاد هذه التجارب المضيئة لكن برؤى جديدة ومقاربات مختلفة، لنؤكد أن الإبداع المسرحي في مصر قادر على التجدد والاستمرار.
وفي النهاية أتقدّم بخالص الشكر والتقدير إلى أجهزة الثقافة، وإلى المخرج عادل حسان، رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، على مبادرة «أهلًا بالتجريبي»، التي تعكس بوضوح أن جميع قطاعات وزارة الثقافة تدعم المهرجان وتدفع به إلى الأمام، كلٌّ بطريقته الخاصة وتبعا لما هو متاح.

