ارتبطت الآداب والفنون ـ منذ الأزل ـ بالمواقف النضالية الكبرى الخالدة التي احتلتْ موقعًا بارزًا في حياة شعوبها. بدا ذلك في القصص أو الأدب الشعبي، بمثل ما بدا في الأدب الفصيح، والأمثلة في هذا المجال تفوق الحصر، نذكر منها الآن موقف الأدب من الملحمة العربية الكبرى في تاريخ مصر المعاصر، وهي ملحمة انتصار السادس من أكتوبر 1973.
لقد قابلتْ نشوة النصر الحاضرة خزي الهزيمة المنصرمة في 1967، وعلى هذا كانت استجابة الأدب والأدباء؛ فبقدر ما انعكستْ نكسة يونيو الحزينة على أقلام الأدباء كآبة وتشاؤمًا ونقدًا ـ انعكس انتصار أكتوبر تفاؤلًا، وإشادةً، ومدحًا.
ومن المعتاد ألا يُغرِّد الطائر في أثناء العاصفة. بل يلزم الطائر ـ وهو هنا المبدع أيًّا كان نوعه ـ وقتٌ لاستيعاب التجربة ومعايشتها والانصهار بحرارتها، ثم... يولد الإبداع.
وقد تنوعتْ صور الإبداع الأدبي في رسم صرح ذلك الانتصار تنوعًا بقدر تنوع فنون الإبداع الأدبي بين: الشعر، والرواية، والقصة القصيرة، والمسرحية، والمقال، والبحث، والحوار، والخاطرة، والحديث الإذاعي... إلى آخر ما هنالك من فنون القول.
في كل ما أبدع الأدباء إجماع على أن الحرب لا تُذكر لذاتها، وإنما تُذكر لنتائجها، تطبيقًا لمبدأ خالد قديم هو: "إنما هدف الحرب السلام"، وقولهم: "الحرب محنة خيّرة"، وقول همنجواي: "حياة المحارب مصارعة من أجل الأمعاء المفتوحة". من نماذج ذلك ـ عالميًّا ـ ما عرفناه من قصيدة الأرض الخراب للشاعر ت. س. إليوت؛ تشوقًا للسلام بعد انقضاء عشر سنوات على وضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، وكذلك قصيدة (أخي) لميخائيل نعيمة. هكذا مضى شعراء مصر والعالم العربي منذ القصيدة الأولى التي صاغها الشاعر صلاح عبد الصبور بعنوان (إلى أول مصري رفع العلم) عقب العبور مباشرة، وكتابات بعض الشعراء أثناء تأديتهم واجب الخدمة العسكرية مثلما كتب الشاعر رفعت سلام قصيدته (منية شبين) مصوِّرة المعارك من داخل لهيبها، بما في ذلك بلوغه نبأ استشهاد أحد أقاربه في الحرب، وديوان (نقش على بردية العبور) لأحمد الحوتي، وما في أشعار نزار قباني، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وسامح درويش، وأمثالهم ممن يفوق عددهم الحصر.
ويتصدَّر ذلك، عادة، ما يشيد بالشهداء، ومنه قول فاروق شوشة في قصيدته موكب الشهداء من ديوانه (يقول الدم العربي):
خشوعًا، فهذا اليوم في ساحهم عرس
فصمتًا ففي أعماقنا يورق الهمس
مواكب من تحت التراب لها صدى
ورفرفة بين الضلوع، لها همس
وتتابعت الإبداعات، فمنذ كتب جمال الغيطاني (المصريون والحرب من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر)، والأعمال الأدبية ـ بطبيعة الحال ـ لا تقدم الحقائق تقريرًا، وهذا فارق ما بين الخبر والإبداع الأدبي، كما أنه سر اللذة الأدبية التي يشعر بها قارئ الروايات أو الأشعار مما يندرج تحت صفة (أدب الحرب)، أو (أدب المعارك)، أو (أدب البطولة) على نحو ما فصَّل سيد نجم في كتابه الشامل أدب الحرب.
ويمكن احتساب ما كتبه الأدباء في مرحلة اللاحرب واللاسلم (الاستنزاف) جزءًا من هذا التراث الأدبي القومي في هذا المجال، ومنه ـ على سبيل المثال ـ قصة يوسف القعيد (السفر) بما فيها من جو الحرب أو الاستعداد للحرب. والمجموعة القصصية التي كتبها محمد سالم بعنوان (يوميات على جدار الصمت) عن أحدث المعارك في أكتوبر المجيد منذ بداياتها، وإن صدرت متأخرة ـ كما قدمنا وفسرنا ـ سنة 1987، وما كتبه محمود الورداني من منطلق تجربته الشخصية، حيث كان أحد أبطال الحدث العظيم، وذلك في روايته (نوبة رجوع) التي صدرت ـ أيضًا ـ متأخرة، وذلك سنة 1990، وقصة (عبودة ليس صغيرًا) لحسين عيد التي كُتبت أثناء حرب أكتوبر، ولم تُنشر إلا في أكتوبر 1976، و(الأسرى يقيمون المتاريس) لفؤاد حجازي، وما كتبه أحمد حجي من مذكرات في (أوراق مقاتل مصري)، التي نُشرت سريعًا في نوفمبر 1973. في ذلك كله يحتلّ التلميح موقع التصريح، والوجدان مكان العقل، والعاطفة مكان المنطق؛ لأن هدف الكاتب هو استحياء الزمن الفائت أو الماضي، واستحضاره، وإعادة بثّ الحياة والنبض فيه؛ ليعيش المتلقي أو القارئ لحظات مرّت بمقياس التاريخ الزمني، لكنها حفرتْ في وجدان الشعوب بمقياس الزمن الحضاري والإنساني. ومهمة الأدباء هي أن ينقلونا إلى الزمن الذي مضى؛ لنعيد تأمله على مهل، هنا يتاح المجال للقارئ أن يضيف تفسيرات من عنده تضيء جوانب مما كان مبهمًا أو غامضًا. فضلًا عما يتضمنه ذلك كله من أهداف (الأدب الهادف) الذي يقوم بمهمة تربوية ونفسية تؤتي ثمارًا متنوعة من العظة والاعتبار، والقدوة والمثل الحي، والدروس المستفادة.
ومن النظرة العامة إلى ما صدر ـ حتى الآن ـ من إبداع أدبي حول هذا النصر العظيم أعتقد أنه لم يحقق التصوير الملحمي المناسب لذلك الإنجاز التاريخي العظيم بعد مرور هذا الزمن، وما هو بقصير.
آية ذلك أننا لو عقدنا موازنة عاجلة بين تراث أدب النكسة، وتراث أدب أكتوبر لوجدنا البون شاسعًا، والفارق ضخمًا، ربما لأن الوجع والفزع، والألم والغم، والانكسار والعار الناجمين والمصاحبين لنكسة يونيو 1967 أكبر من أن يوصفا، وأن الصدمة أقوى، والآثار أبقى. لكن ذلك لا يقدم تفسيرًا سهلًا لعدم ظفرنا ـ حتى الآن ـ بملحمة أدبية تضارع، أو تتساوى مع ملحمة العبور، وأقول مكررًا (العبور)؛ لأن العبور ـ في ذاته ـ قضى على أسطورة (خط بارليف المنيع الحصين... إلخ) إلى آخر ما هنالك من ادعاءات. ومن هنا كانت قصيدة صلاح عبد الصبور: (إلى أول جندي رفع العلم) ذات وقع سريع ـ آنذاك ـ وصدى مستمر حتى الآن. ذلك أنه إذا كان التاريخ قد سجل في صفحاته أشهر سبع ملاحم عالمية ألهبتْ الوجدان البشري واحتلتْ مكانها في التاريخ كالإلياذة، والأوديسة، والإنيادة، والمهابهارتا، والسيرة الهلالية، وتغريبة بني هلال، وسيرة عنترة بن شداد، والملاحم التاميلية بالهند، وجلجامش، وغيرها، فما أجدر ملحمة العبور أن تحتل مكانتها اللائقة في الإبداع العربي المعاصر في الفنون المقروءة والمصورة والمسموعة والمشاهدة، وبخاصة مع اتساع قنوات التواصل الاجتماعي وتعددها وتنوعها، وبخاصة شعر العامية اللصيق بالمرسل والمتلقي معًا، ومن هنا لا نستطيع أن نغفل منزلة فن (السمسمية) في مدن قناة السويس.