تحل اليوم ذكرى ميلاد الشاعر الكبير عبد الرحمن شكري، أحد الرواد البارزين في تاريخ الأدب العربي الحديث، وثالث ثلاثة من أعمدة مدرسة الديوان التي وضعت مفهومًا جديدًا للشعر في أوائل القرن الميلادي الماضي، فهو شخصية أدبية فذة جمعت بين الشعر والنقد والفكر، وتركت بصمة عميقة في مسيرة الأدب العربي رغم ما واجهته من محن ومصاعب.
المولد والنشأة الأولى
ولد عبد الرحمن شكري في مدينة بورسعيد في 12 أكتوبر 1886، وتلقى تعليمه الأول في كتّاب الشيخ محمد حجازي، ثم انتقل إلى مدرسة الجامع التوفيقي الابتدائية – أول مسجد رسمي ببورسعيد – حيث حصل منها على الشهادة الابتدائية عام 1900.
الوعي الوطني والمسيرة التعليمية
فُصل شكري من مدرسة الحقوق في القاهرة لاشتراكه في المظاهرات التي نظمها الحزب الوطني في ذلك الوقت، إعلانًا لسخط المصريين على الاحتلال البريطاني لمصر ووحشية الإنجليز في حادثة دنشواي.
لم يثنِ هذا الفصل عزيمته، ففي عام 1906 انتقل إلى مدرسة المعلمين العليا وتخرج فيها عام 1909 متفوقًا، ولا سيما في اللغة الإنجليزية، مما أهّله للاختيار في بعثة إلى جامعة شفيلد بإنجلترا. درس خلال ثلاث سنوات الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفلسفة إلى جانب اللغة الإنجليزية، وعاد منها عام 1912 محملًا بثقافة واسعة أثرت في تكوينه الأدبي والفكري.
نشأة مدرسة الديوان
تعارف شكري والمازني وهما في مدرسة المعلمين العليا، وكان شكري قد أصدر ديوانه الأول "ضوء الفجر" وهو طالب عام 1909، وبعد عودته من إنجلترا، قدمه المازني إلى صديقه العقاد فتصادقا وتكوّن بينهم ثالوث أدبي مميز.
تزعم الثلاثة (شكري والعقاد والمازني) اتجاه الدفاع عن التجديد في الشعر والأدب، وأطلق عليهم اسم "مدرسة الديوان" نسبة إلى كتاب الديوان الذي وضعه العقاد والمازني، ومن المفارقات أن شكري لم يشترك في هذا الكتاب، بل تضمن نقدًا له بقلم صديقه المازني، وقد استمدت هذه المدرسة الأدبية مبادئها من معين الأدب الإنجليزي.
المكانة الأدبية والنقدية
كان عبد الرحمن شكري شاعرًا مجددًا ومفكرًا أصيلًا حريصًا على اللغة العربية الفصحى، كما كان ناقدًا لعبت آراؤه النقدية دورًا كبيرًا في الأدب العربي الحديث، ووجهته نحو وجهة تجديدية بناءة.
مفهوم الشعر عند شكري
يرى شكري أن الشعر ضرورة وليس ترفًا، لأنه يصور الحياة الإنسانية بخيرها وشرها ويعبر عن خوالج النفس البشرية. يقول في ذلك: "إن الشعر ليس من لوازم الحياة، ولو جاز لنا أن نعد الإحساس غير لازم للحياة أو التفكير غير لازم للعقل لجاز لنا أن نعد الشعر غير لازم للحياة، أليس مجال الشعر الإحساس بخوالج النفس وما يعتورها؟.. وأن الشعر أجلّ عمل في حياة الشاعر وأساس حياته؟".
ويرى أن للشعر عناصر من أهمها: التصوير والخيال والعاطفة والفكرة، ورفض بشدة مبدأ المبالغة والمغالطة في الشعر.
الحياة المهنية والعملية
بعد عودته من إنجلترا، عُين شكري بالتعليم الثانوي مدرسًا للتاريخ واللغة الإنجليزية والترجمة، ثم ترقى ناظرًا فمفتشًا، وقضى حوالي ستة وعشرين عامًا في خدمة التربية والتعليم في مصر، حتى أُحيل للمعاش حسب طلبه سنة 1938.
الظلم والمحنة
لخروج شكري المبكر إلى المعاش قصة مؤلمة تعكس مأساته مع الظلم الوظيفي. فلقد نظم قصيدة بعنوان "أقوام بادوا" فغضب رؤساؤه عليه وظنوا أنه يصفهم، فصاروا يحرضون عليه ومنعوه من الترقي.
خرج إلى المعاش بمرتب بسيط لا يكفيه ولا يكفي من يعولهم، حيث كان يعول أسرة شقيقه في مرضه وبعد وفاته، وهذا ما جعله يعيش بلا زواج طوال حياته، مكرسًا نفسه لرسالته الأدبية ومسؤولياته العائلية.
النهاية المأساوية
يئس شكري من عدالة الناس، فأحرق في لحظة يأس جميع ما لديه من نسخ مؤلفاته ودواوينه، في مشهد مأساوي يعكس عمق معاناته النفسية. ثم أصيب بضغط الدم وبالفالج الذي جعله يعتزل الناس والحياة.
انتقل عبد الرحمن شكري إلى جوار ربه في الإسكندرية يوم الاثنين الخامس عشر من ديسمبر سنة 1958، مستريحًا من ظلم الناس له، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا خالدًا رغم كل المحن التي عاناها.