يقدّم الكاتب الصحفي الكبير عبد القادر شهيب في كتابه «أموال الإخوان: من حسن البنا حتى إبراهيم منير» محاولة شاملة لفهم البنية المالية لجماعة الإخوان عبر ما يقرب من قرن من الزمان، إذ يضع المال في قلب التحليل السياسي والتنظيمي، ويتعامل مع التمويل لا كمسألة ثانوية بل كعامل مكوّن للهوية الداخلية للجماعة. الكتاب، الصادر عن دار سما للنشر عام 2021، يستند إلى وثائق ومحاضر وشهادات ومتابعات صحفية، ويُصرّ المؤلف منذ البداية على أن ما يقدمه ليس كشف فضائح بالمعنى المبتذل للكلمة، وإنما رسم خريطة دقيقة لأدوات التمويل، ومسارات الاستثمار، وكيفية إدارة الموارد. ومن خلال هذا المنهج تصبح التجربة المالية للإخوان بمثابة مرآة كاشفة لعلاقتهم بالسلطة والمجتمع والدولة، بل ولطبيعة الخطاب الدعوي والسياسي الذي استخدموه تاريخيًا في مقابل الواقع العملي الذي يعيشه أعضاؤهم وقياداتهم.
تبدأ الحكاية مع حسن البنا في الإسماعيلية، حيث كان التمويل في شكله الأول قائمًا على الاشتراكات البسيطة للأعضاء وعلى تبرعات محلية محدودة، لكن هذه البداية الصغيرة لم تلبث أن تحولت بسرعة إلى أسلوب منظم في جمع الأموال، قائم على ربط قيمة الاشتراك بالولاء، وعلى تحويل التبرع إلى واجب ديني لا يقل عن الصلاة والزكاة. هذا الطابع الإيماني للمال شكّل البذرة الأولى لفكرة أن الموارد ليست مجرد أداة لتسيير الشؤون اليومية، بل هي آلية لضبط الانتماء والسيطرة الداخلية. ومن هنا توسع الإخوان في إنشاء مدارس وجمعيات خيرية ومستشفيات ومؤسسات اجتماعية، ظاهرها خدمة المجتمع، لكنها عمليًا كانت تؤدي وظيفتين متلازمتين: اكتساب شرعية شعبية، وتوفير دخل مستمر للجماعة.
يتتبع شهيب في كتابه كيف أصبحت الاستثمارات التجارية جزءًا أصيلًا من بنية التنظيم، من شركات ومشروعات صغيرة إلى شبكات اقتصادية واسعة في الداخل والخارج. لم يكن المال مجرد داعم للنشاط السياسي، بل كان هو الضامن الوحيد لقدرة الجماعة على البقاء في مواجهة الضربات الأمنية أو القرارات السياسية بحظرها وحلّها. وفي كل مرة كان الصراع مع الدولة يحتدم، كان المال يشكّل صمّام أمان، يسمح بإعادة بناء الهياكل أو تمويل الحملات الإعلامية أو دعم أسر المعتقلين. هذه الخبرة الطويلة في إدارة المال جعلت الإخوان يطوّرون قدرة خاصة على السرية والانضباط، حتى أصبحت إدارة الموارد أشبه بدولة داخل الدولة، لا يعرف تفاصيلها إلا عدد محدود من القيادات.
السرية المالية لم تكن مجرد تكتيك للحماية من الملاحقة، وإنما تحولت إلى بنية تنظيمية تخلق طبقات داخل الجماعة: قاعدة عريضة تُطلَب منها التبرعات والالتزام، وقيادة ضيقة تتحكم في الحسابات الكبرى وتوزيع الأموال. هذه المفارقة أنتجت تباينات طبقية داخل التنظيم نفسه، فبينما بقي الخطاب العام حافلًا بشعارات الزهد والتقشف والعدالة الاجتماعية، كان الواقع يشير إلى بروز طبقة من رجال الأعمال المحسوبين على الجماعة، ارتبطت مصالحهم الاقتصادية مباشرة بالنشاط السياسي والدعوي. وهكذا صار التمويل أحد أهم معايير النفوذ الداخلي، وأداة لتوزيع السلطة، بحيث لا يصبح العضو قياديًا إلا إذا ارتبط اسمه بقدرة على تمويل أو جذب تمويل.
الكتاب لا يكتفي بالسرد التاريخي بل يتوقف عند لحظة 2013 وما تلاها بوصفها اختبارًا حاسمًا لقدرة الجماعة على الصمود بعد عزل محمد مرسي. فقد صادرت الدولة أعدادًا كبيرة من الشركات والجمعيات والمدارس والممتلكات التي كانت تشكل عصب التمويل الداخلي. ومع ذلك يبين شهيب أن الضربات، على شدتها، لم تكن كافية لاقتلاع الجذور المالية الخارجية، إذ تحولت نسبة معتبرة من الاقتصاد الإخواني إلى الخارج، حيث أنشئت مؤسسات وجمعيات ومراكز في أوروبا ودول أخرى لعبت دورًا في تأمين استمرار النشاط الإعلامي والسياسي، وفي تمويل معارضة منفى استطاعت رغم الشتات أن تحافظ على بعض القدرة على الحركة. هذا البُعد الدولي للتمويل كشف أن الجماعة لم تعد مرتبطة فقط بسياقها المحلي، بل أصبحت جزءًا من شبكة عابرة للحدود تستفيد من قوانين العمل المدني في دول أخرى، ومن تبرعات جاليات مسلمة، ومن أدوات مصرفية عصرية.
المفارقة التي يضعها الكتاب تحت الضوء هي أن هذه القدرة على التمويل الخارجي لم تعنِ بالضرورة قدرة على العودة إلى الداخل. فالدعم المالي الدولي مكّن الجماعة من الاستمرار في النشاط الإعلامي والسياسي، لكنه لم يُترجم إلى نفوذ فعلي داخل مصر، حيث جرى تفكيك القواعد الاقتصادية الداخلية وحصار أي محاولات لإعادة البناء. بهذا المعنى، يصبح التمويل هنا سلاحًا ذا حدين: مصدرًا للصمود، لكنه في الوقت نفسه أداة لكشف حدود القوة في غياب الأرضية الاجتماعية والسياسية المحلية.
إحدى أهم ملاحظات شهيب أن التعامل مع الجماعات السياسية–الدينية ينبغي ألا يقتصر على تحليل خطابها أو برامجها، بل يجب أن يتضمن تفكيك بنيتها الاقتصادية. فالأموال لا تموّل فقط، بل تصنع القرار وتحدد الأولويات وترسم حدود النفوذ. ومن دون فهم دقيق لهذه البنية المالية يبقى أي تحليل سياسي ناقصًا. ولهذا يوصي الكتاب بضرورة إدخال البُعد الاقتصادي في أي دراسة مستقبلية عن الإخوان أو غيرهم من الحركات المشابهة.
يمكن القول إن الكتاب ينجح في تقديم سرد متوازن: هو ليس دعاية سياسية مضادة، وليس كذلك دفاعًا عن الجماعة، بل هو محاولة لتجميع ما هو متاح من وثائق وشهادات وأرقام وربطها بسياقها التاريخي.
لكنه في الوقت ذاته لا يدّعي أنه يملك الإجابة النهائية، بل يترك مساحة لبحث تكميلي مطلوب، خصوصًا فيما يتعلق بالاستثمارات الخارجية التي ما زال كثير منها يعمل في مناطق رمادية يصعب تتبعها.
ومن هنا فإن القيمة الأساسية للكتاب تكمن في كونه خريطة أو أرضية انطلاق لدراسات أكثر تفصيلًا، وليس حكمًا قاطعًا ونهائيًا.
إن قراءة «أموال الإخوان» تفتح الباب أمام تساؤلات أوسع: كيف يمكن لجماعة دينية أن تتحول إلى قوة اقتصادية ضخمة تؤثر في المجال السياسي؟ وما الذي يعنيه ذلك للعلاقة بين الدين والمال والسلطة في العالم العربي؟ وإلى أي حد يمكن فصل الخطاب القيمي عن المصالح المادية حين يكون المال أداة للبقاء؟ هذه الأسئلة تجعل الكتاب ليس مجرد رصد لتجربة جماعة بعينها، بل مادة للتفكير في صلة الاقتصاد بالسياسة والدين عمومًا. وهنا تكمن فرادته؛ إذ إنه يذكّر القارئ أن أي تنظيم لا يعيش بالشعارات وحدها، وإنما بميزانية محددة، وأن السياسة حين تنحجب خلف الدين تظل في النهاية رهينة الحسابات المالية.
وإلى أي مدى يمكن للدول والمجتمعات العربية أن تطوّر آليات رقابة وشفافية تمنع تحوّل الجماعات الدينية إلى قوى اقتصادية–سياسية موازية للدولة، أم أن التجربة ستظل قابلة للتكرار في صور أخرى ما دامت البنية المالية لهذه الجماعات عصية على التفكيك الكامل؟