السبت 1 نوفمبر 2025

مقالات

المتاحف والآثار والدولة الوطنية

  • 28-10-2025 | 15:32
طباعة

إنشاء المتحف المصري الكبير كان حلماً راود كثيرًا من المهتمين بالآثار والتراث طوال عقود، منذ أن أخذ متحف التحرير يكتظ بالزوار في ثمانينيات القرن الماضي، ولم تعد المنطقة التي يوجد بها، ميدان التحرير، تستوعب أعداد الزوار والسائحين الذين يفدون من مختلف أنحاء العالم للاستمتاع برؤية القطع الأثرية بالمتحف.

وقد قطعت مصر شوطًا طويلًا مع المتاحف منذ القرن التاسع عشر، حيث بدأ الاهتمام بالآثار منذ عهد محمد علي، وكانت هناك محاولة لتأسيس متحف مصري يضم الآثار المصرية القديمة، وتراجعت الفكرة قليلًا بعد عهد محمد علي، خاصة مع حفيده عباس حلمي الأول، لكن في بداية القرن العشرين ومع وجود عباس حلمي الثاني، توسع الاهتمام المصري بالمتاحف، فصار لدينا المتحف المصري والمتحف الإسلامي ثم المتحف القبطي والمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، ليس هذا فقط، بل اتجهت مصر كذلك إلى المتاحف النوعية والمتخصصة، مثل تلك التي تتعلق بالزعماء ورموز مصر في الفن الأدبي، ومتاحف أخرى عديدة: المتحف الحربي في القلعة، متحف السكة الحديد، متحف خاص بالنيل في أسوان، متحف الجياد، متحف التعليم، وغير ذلك من عشرات المتاحف.

لكن يبقى المتحف المصري سيد المتاحف وأهمها، ذلك أن وجوده يعكس تطورًا مهمًا في الثقافة المصرية وفي وعي المصريين.

منذ أن تراجعت الحضارة المصرية القديمة، تراجع الاهتمام بآثارها وتراثها، ونُظر إلى تلك الآثار شذرًا، بعض المعابد القديمة، ثم الاعتداء عليها وهدمها، والبعض الآخر تم طمسه لتصبح دور عبادة، سواء في العصر المسيحي أو الإسلامي. وراح بعض المؤرخين ينظرون إلى تلك الآثار بإدانة دينية وثقافية شديدة، هي عند بعضهم "أصنام" أو أوثان، ومرة يقال عنها "مساخيط". في خطط المقريزي، مثلًا، أورد عن أبي الهول عنوانًا: "الصنم المسمى أبو الهول". ونعرف الآن أن في الجيزة كانت هناك أهرامات صغيرة، غير الأهرام الثلاثة، جرى هدمها لاستعمال حجارتها في بعض المنشآت، مثل بناء قلعة صلاح الدين بالقلعة وبناء سور مجرى العيون وغيرها.

مع غزو نابليون لمصر1798، أخذ الأمر في التغير، ذلك أن نابليون جاء معه عدد كبير من العلماء والدارسين، يتناولون كل شيء في مصر، من عادات السكان وتقاليدهم إلى النباتات والمزروعات، فضلًا عن الحيوانات والطيور وغيرها.

الجانب الأكبر من العلماء كان هدفه التعرف على الآثار المصرية القديمة، وقد بهرتهم واهتموا بها، ونشأ "علم المصريات" في الجامعات الفرنسية وغيرها من جامعات أوروبا، وبدأ التنقيب عن الآثار وتقديمها إلى العالم، ومن خلالها بدأت دراسة الحضارة المصرية القديمة، خاصة مع اكتشاف حجر رشيد ثم نجاح شامبليون في فك رموز اللغة الهيروغليفية هكذا أظهر الولع بمصر في أنحاء العالم.

الجانب الآخر أو المظلم لذلك الاهتمام هو انتشار سرقة الآثار المصرية، عبر الرحالة والمكتشفين الأوروبيين، خاصة أنه في القرن التاسع عشر، لم تكن هناك قوانين تحول دون تلك السرقات أو تجرمها، وهكذا نقلت مئات القطع الثمينة، بما فيها مسلات كبرى لتملأ المدن الأوروبية، مثل روما وباريس وغيرها.

صحيح أن نقل تلك القطع خلق على المستوى الشعبي في دول الغرب تقديرًا واحترامًا لتاريخ وآثار مصر، لكنها في النهاية آثارنا، سُرقت. ومع كثرة السرقات كان لا بد من الاتجاه إلى سن قوانين تجرم تلك السرقات وتمنعها قدر الإمكان، وكان لا بد كذلك من بناء متحف مصري يضم القطع الأثرية، فتُتاح للمواطنين رؤية القطع الثمينة دون الاضطرار إلى الذهاب إلى الصحراء ومختلف المدن المصرية لزيارة هذه المواقع، وفضلًا عن ذلك فإن وجود القطع في المتاحف يعني عمليًا التقليل من عمليات نهب الآثار وسرقتها.

وفكرة المتحف تقتضي توفر عدد من الباحثين والدارسين لدراسة تلك الآثار، وكذلك محاولة التنقيب العلمي عن الآثار، ولا يُترك الأمر في يد العصابات والتجار من الراغبين في النهب فقط، ودون أن يكونوا على علم بقيمة القطع الأثرية التي يكتشفونها، فيصيبونها بالتلف أو الكسر. وهكذا عرفت مصر دراسة الآثار، سواء عبر قسم الآثار في كلية الآداب، الذي تطور إلى معهد الآثار ثم صار كلية الآثار في جامعة القاهرة، والآن توجد مقرات لكليات الآثار في مختلف الجامعات المصرية، سواء الحكومية الرسمية أو الخاصة.

في البداية كان الاهتمام بالآثار المصرية وقفا على الأجانب، ألمان وفرنسيين في المقام الأول، ثم اهتم المصريون بالأمر وتكونت أجيال مصرية بادرت باقتحام هذا المجال، ويمكن القول إنهم قاموا بتمصير ذلك العلم. حتى المسئولون عن قطاع الآثار أو إدارته كانوا في البدء من الأجانب، مثل مارييت وماسبيرو، لكن مع الوقت صارت لدينا أسماء مصرية عظيمة يُعترف بدورها عالميًا، مثل سليم حسن وسامي جبرة وغيرهما، أجيال وراء أجيال من الدارسين والباحثين الميدانيين الذين امتهنوا التنقيب، ولهم حفريات قدموا من خلالها اكتشافات عديدة تُذكر بأسمائهم.

ومع هذا الاهتمام تعرفنا على حياة المصريين القدماء: آدابهم وثقافتهم، ديانتهم وطقوسهم، وعرفنا مثلًا أنهم بشروا مبكرًا بالتوحيد والإله الواحد، وأنهم توصلوا مبكرًا إلى أن هناك حياة أخرى خارج هذا العالم، فيها الثواب وفيها العقاب، ومن هنا، تكون الضمير الأخلاقي والديني، كما يقول هنري بريستد في كتابه فجر الضمير.

وحين يضم المتحف الآن القطع الأثرية، فهذا يعني أن الشخصية المصرية قديمة ومتطورة، ومتجذرة في التاريخ الإنساني، ولسنا أمة مستحدثة، لنا جغرافيا قديمة جدًا، معروفة وثابتة، وكذلك تاريخ راسخ وتراث حضاري وإنساني عظيم يؤكد ذلك كله، ويربط الماضي بالحاضر.

وقد أخطأ كثيرًا أولئك الذين حصروا المتحف الكبير في تكلفته المادية، واعتبروا أن ذلك الإنفاق ليس من الأولويات، وأنه كان يمكن تأجيله، كما يخطئ أيضًا من يتصور المتحف مجرد باب لزيادة الدخل السياحي فقط، فالمتحف أكبر من ذلك بكثير وأجلّ.

فيما يتعلق بالتكلفة، فإن العائد منه سوف يفوق ما أُنفِق عليه في مدة قصيرة، والدراسات العلمية التي وُضعت قبل الشروع في تنفيذه أكدت ذلك بوضوح تام وعملت عليه، غير أن المسألة ليست مالية ولا مادية فقط.

والواقع أن قضية تحرير علم المصريات والاهتمام بالآثار المصرية من القبضة الأجنبية، ودخول المصريين علماء وإداريين ليشغلوا مواقع بارزة، هي قضية وطنية بامتياز، خاضها المصريون ببسالة وقوة ونجحوا فيها.

لم يكن النضال المصري قبل ثورة سنة 1919 وبعدها من أجل الاستقلال التام وخروج المحتل مجرد قضية أو مطلب سياسي فقط، بل كان جزءًا من حركة وطنية عامة عملت في مختلف المجالات، اقتصاديًا من خلال تأسيس بنك مصر، وأكاديميًا ببناء الجامعة المصرية التي اشترتها الحكومة سنة 1925 لتصبح جامعة رسمية وطنية. ولم يكن الاهتمام بالآثار المصرية، والتنقيب عنها والحفاظ عليها وإنشاء مدرسة علمية حولها، إلا جزءًا من تلك الحركة الوطنية العامة.

ويلاحظ المهتم بالتاريخ المصري أن عهد عباس حلمي الثاني شهد اهتمامًا كبيرًا بالمتاحف، ذلك أنه العصر الذي شهد انتعاش الحركة الوطنية المصرية بعد كبوة الثورة العرابية، وهي الفترة التي شهدت تأسيس الأحزاب المصرية: الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ومن معه، وحزب الأمة بقيادة أحمد لطفي السيد وقاسم أمين، أو مدرسة الإمام محمد عبده المجدد ومفتي الديار المصرية.

كما لا يفوتنا أن تحويل مشروع المتحف المصري الكبير إلى واقع ملموس بدأ بعد ثورة 30 يونيو 2013، وطرد الجماعة المعادية لمصر وروحها، ثم صعود الرئيس عبد الفتاح السيسي سنة 2014 إلى رئاسة الجمهورية. ومنذ تلك اللحظة بدأ الاهتمام ببناء المتحف، ورغم أن تكلفته كانت عالية في نظر البعض، خاصة أننا كنا في ظرف اقتصادي غير جيد بعد سنوات الفوضى التي عشناها منذ سنة 2011، فإن قرار الرئيس السيسي كان واضحًا وتصميمه نهائيًا على ضرورة بناء المتحف الكبير وتم تدبير التمويل المطلوب.

بناء المتحف الكبير كان جزءًا من خطة مصرية متكاملة لبناء سلسلة متاحف في مختلف المناطق، مثل متحف شرم الشيخ وغيرها من المتاحف الكبرى، إلى جوار المتاحف النوعية والمتخصصة، مثل متحف الزعيم جمال عبد الناصر وتجديد متحف بيت الأمة (سعد زغلول)، وإعادة بناء متحف مصطفى كامل الذي هُدم سنة 2011 من دعاة الفوضى.

المتحف الكبير رسالة واضحة للعالم وللجميع تُبيّن الشخصية المصرية في التاريخ والإسهام الكبير الذي قدمته للحضارة الإنسانية.

عرفت مصر المتاحف مع بداية تأسيس الدولة الوطنية في القرن التاسع عشر، ولذا فإن الاهتمام بالمتاحف بناءً وتشييدًا، وتزويدها بالقطع المتحفية والأثرية، هو دليل وجود وقوة الدولة الوطنية – المدنية.

كما أن تعاقب المراحل الحضارية وتعدد المتاحف هو دليل تنوع وثراء خصب وعمق في التاريخ والشخصية المصرية، وعلينا أن نتمسك بذلك التعدد وندعمه.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة