الجمعة 28 يونيو 2024

شهادة شيوعى على عصر عبد الناصر

15-1-2017 | 13:40

تمنيت كثيراً أن يعود عبدالناصر للحياة.. فتلك الكلمات التى أكتبها ستكون آخر عهدى بالكتابة وسأزج فى أحد المعتقلات الرهيبة، وأستمتع بالتعذيب الوطنى الحر، وعزائى أن بعض هؤلاء الذين يطالبون بعودته سيكونون إلى جوارى فى إحدى الزنازين.. هل ينكر أحد أن عبد الناصر مؤسس المعتقلات فى مصر، وهل كان المصريون فى عهد الملكية البغيض يعرفون حمزة البسيونى وصلاح نصر وسجن العقرب ؟

أنا لم أعرف تشوهات سياسية بقدر ما عرفت فى الناصريين واليسار المصرى الذى يدافع عن معتقلات عبدالناصر برغم أنه كان أول ضحاياها.

والحقيقة أنا لا أحترم أحدا من هؤلاء باستثناء عمنا نبيل الهلالى واليهودى أهارون رحمهما الله والأستاذ بكر الشرقاوى أمد الله فى عمره .

د. بكر الشرقاوى نائب رئيس مؤسسة السينما الأسبق شيوعى .

فى عهد الملكية لفقت ضده قضية تتهمه بإهانة الباشا فؤاد سراج الدين وعدد من رموز الحكم والذات الملكية واعتناق الشيوعية، ودخل السجن رهن التحقيقات فى فبراير ١٩٥٢.

قبل صدور الحكم اندلعت ثورة ٢٣ يوليو (المجيدة ) وتقدم محامى المتهم بعريضة مفادها أن الأوراق المقدمة ضده ملفقة، كما أنها تتهمه بإهانة رموز العهد الملكى البغيض، وبرغم أنه لم يرتكب شيئا من هذا القبيل إلا أنها تحتسب الآن لصالحه وليس ضده فى عهد الثورة المجيدة .

هكذا خرج بكر الشرقاوى من السجن وسقطت الدعوى، وتخرج فى الجامعة وعاش مواطنا صالحا خمس سنوات، حتى جاء للإسكندرية عبد اللطيف بغدادى عضو مجلس قيادة الثورة، وأصدر أمرا بالقبض على الشرقاوي.

فحص المحامى الأوراق لمعرفة أسباب الاعتقال، وتبين أنها نفس الأوراق القديمة المفبركة فى زمن ماقبل الثورة والتى تتهمه بالتهجم على الذات الملكية والباشاوات، واعتقد المحامى بأن هناك خطأ فى أمر الاعتقال، وقدم براءة القضية السابقة، وأن موكله حتى لو صدقت الاتهامات ضده فهو يهين رموز العهد البائد، وكانت المفاجأة أن البغدادى قال إن كل هذا ليس مهما لأن الشرقاوى تطاول على مصر؛ ليغيب الشرقاوى خلف القضبان خمس سنين.

وهكذا خرج من المعتقل بوصفه أحد أرباب السوابق؛ لأنه كان متهما فى عهد الثورة المباركة بإهانة فؤاد سراج الدين وآخرين من العهد البائد.

بعد ثلاثة أعوام أخرى تقابل مع صديق أخبره بأنه مكلف بتجنيده فى تنظيم سري، ولما رفع حاجبيه فى دهشة لأن الطبيعى أنه مراقب قال إن الاختيار وقع عليه بعناية، ولما سأل عن طبيعة عمل التنظيم ومهامه قال حماية النظام والثورة، ولما سأل عن قائد التنظيم قالوا: جمال عبد الناصر.

وهكذا انضوى الشرقاوى تحت أعجب تنظيم سرى فى التاريخ لأن الذى يقوده سرا جمال عبد الناصر ، وهوالقائم على رأس الحكم بمنصب رئيس الجمهورية.

قال الشرقاوى إن عبد الناصر أنشأ هذا التنظيم السرى بنظام الخلايا - وهو غير التنظيم الطليعي- بعد التمرد الشهير بسلاح الفرسان ومطالبة بعض الضباط الشرفاء بعودة الحياة الديمقراطية وعودة الجيش لثكناته، وكان الشرقاوى جزءا من التنظيم المكلف بالسيطرة على وزارة الثقافة.

الشرقاوى - ٩٠ عاما - يؤكد كل كلمة يقولها بالاستشهاد بعدد من الأحياء، ومن الغرائب أن رأفت الميهى كان فى التنظيم، وأنهم جاءوا بنجيب محفوظ نفسه على قمة التنظيم المسؤول عن الثقافة، ولما سأله الشرقاوى : ماذا سنفعل وما المطلوب ؟ قال الأستاذ نجيب : «مش عارف إديهم اللى همه عاوزينه وخلينا احنا نتفرغ لشغلنا».

كان الشرقاوى يتقاضى وقتها ٥٠ جنيها بخلاف سيارة، ويحفظ فى رأسه رقم هاتف أمروه بأن يحرقه بمجرد حفظه؛ ليتصل فى حالة الخطر من أى مكان؛ ليبلغهم برقمه السرى فى التنظيم .

تلك الشهادات الحية تستحق التسجيل بعد عقود من تزييف وعى الجماهير، لم يكن الشرقاوى - وهو أحد كتاب المسرح المعدودين - ساداتيا ولا رجعيا ولا حتى يحب الملك، لكنه يؤكد أن مصر لم تكن دولة، وكانت تحكمها تنظيمات وميليشيات معظمها سرية.

كان عبد الناصر وأعوانه قد ألغوا الأحزاب بحجة أنها فاسدة، وكان الطبيعى أن يعالج تلك الأحزاب أو يهدمها ويبنى أحزابا جديدة، لكنه حكم البلاد بجماعة الضباط الأحرار، الذين يتنقلون من منصب لآخر، ومن وزارة لأخرى بلا توقف، وصار شعار الاتحاد القومي: «كلكم جمال عبد الناصر» وهو شعار كان يبدو لنا وقتها نموذجا لتعاطف الزعيم مع الشعب وإحساسه بمعاناته، لكنه الآن يبدو مضحكا لأن أحدا وقتها لم يجرؤ على السؤال : وماذا لو مات عبد الناصر ؟

مات عبدالناصر ولم تكن الكارثة احتلال مصر وأن جيشها لم يطلق طلقة واحدة نحو إسرائيل فى هزيمة مروعة لم تحدث فى التاريخ، بل أيضا فى انهيار خيوط دولته المصنوعة من نسيج العنكبوت.

عقب النكسة ألغى عبد الناصر تنظيمه السري، وأنشأ تنظيما آخر هو التنظيم الطليعي، ولما مات وتولى السادات كان معظم الضباط الأحرار فى سن الموت يتساقطون واحدا وراء الآخر بحكم الطبيعة، ولم يعد هناك بديل عن ذلك التنظيم – الضباط الأحرار- وبدأ فى التآكل والانقراض، ولم يجد الرئيس السادات أمامه طريقا سوى بناء الأحزاب من جديد والاتجاه للديمقراطية، وإعادة المجتمع المدني، وأفكار رجال العهد البائد، وحتى الآن ما زلنا فاشلين فى استعادة الدور السياسى للأحزاب والمجتمع المدنى فى استقرار البلاد وتداول السلطة، كما كان يحدث فى عهد الملك الفاسد فاروق.

يشهد الشرقاوى بأن فاروق لم يكن ملكا خائنا، ورفض تأييد بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر، حتى لا يتكرر الاحتلال البريطانى لمصر، ويشهد بأن النحاس باشا وغيره من رجالات السياسة المصرية كانوا قادرين على إحداث العديد من الإصلاحات التى نادت بها الثورة بل إنها كانت أفكارهم وبأقل كثيرا من التكاليف التى سددتها الثورة وعبد الناصر، وعلى الأقل لم يكن أحد سيسمح بانفصال السودان وضياع السودان واحتلال سيناء وفتح أبواب السجون والمعتقلات.

هل نحن مستعدون لقراءة تاريخنا بلا تزوير، وأن نصحح مسارنا، لنضع وطننا على الطريق الصحيح، أم سنظل نراوح فى تلك الدوامة التى أسقطنا فيها عبد الناصر، لنعيش بلا تجربة ديمقراطية ولا حرية ولا حتى عدالة اجتماعية ؟

كتب : عادل سعد