الأحد 2 يونيو 2024

خروجا عن مبادئ الإسلام المماليك والدماء!

15-3-2017 | 11:57

بقلم -رجائى عطية

أجملنا الحديث عن مقدمات دولة المماليك ، وعرفنا مما أجملناه أنها بدأت عهدها بإراقة الدماء على جدار السلطة، فرأينا مجموعة من المماليك تجمعوا على « توران شاه » ابن نجم الدين صالح الأيوبى ، وقتلوه صريعًا حريقًا غريقًا فى النيل قبل أن يمضى شهر على سلطنته ، ثم استداروا فجعلوا السلطنة ـ برغم وجود « الأشرف مظفر الدين بن صلاح الدين يوسف » حفيد الملك الكامل الأيوبى ، جعلوها لشجرة الدر ، فلما أعيتها وأعيتهم الحيل فى استمرارها على دست الحكم بسبب الاعتراضات التى ثارت على ولايتها ، وقيل إن من ضمن الاعتراضات ما جاء من اعتراض الخليفة العباسى قبل سقوط الخلافة فى بغداد ، تزوجت من عز الدين أيبك ، وولوه السلطنة ولقبوه بالمعز أيبك ، وتآمر هو وشجرة الدر على قتل فارس الدين أقطاى الجمدار ، فاستدرجه أيبك إلى « قلعة الجبل » حيث تم قتله والإلقاء برأسه من على أسوار القلعة ، بينما تخلص المعز أيبك مع الوقت ـ من الصبى « الملك الأشرف الأيوبى » ، فجمده واستقل هو بالسلطة.

لكن هُيىء له أن يتزوج على شجرة الدر من ابنة « بدر الدين لؤلؤ » صاحب الموصل، فدبرت لقتله غيلة قبل أن يتزوج عليها كما مَرَّ بنا ، فقتل بالحمام بأيدى مجموعة من الخدم ، ثم ارتدت الدائرة على شجرة الدر فقتلت بتحريض « على » ابن المعز أيبك ، الذى خلف أباه فى السلطنة ، انتقامًا منها لقتلها أباه .

ثم لم يشفع للسلطان « سيف الدين قطز » ما حققه من انتصارات عظيمة على المغول ، كان أبرزها انتصاره المؤزر عليهم فى « عين جالوت » (٦٥٨ هـ / ١٢٦٠م) ، مما أوقف زحفهم على الشام ومصر ، فقام نائبه الظاهر بيبرس بالتآمر مع أمراء المماليك البحرية على قتله ، لذيوع صيته ، وتراخيه فى تنفيذ ما وعد به الظاهر بيبرس ، فجندلوا السلطان بخديعة قادها الظاهر بيبرس أظهر فيها تقبيل يد السلطان قطز تعبيرًا عن شكره إياه على إهدائه له إحدى سبايا التتار الجميلات ، ثم قبض على يده ولم يطلقها حتى لا يستطيع الدفاع عن نفسه ، بينما أعمل الباقون السيوف فيه حتى أجهزوا عليه .

ولم تكن إراقة الدماء من البدايات هى كل ما انزلقت إليه دولة المماليك البحرية الجديدة ، وإنما هى التى استعارت بتدبير الظاهر بيبرس ، خلافةً عباسيةً شكليةً قعيدة ، تتوارى من خلفها سلطنة المماليك ، وتستمد منها شرعية زائفة ، بينما جعلت من الخلفاء صورة مؤسفة للضعة والمذلة والهوان ، كانت أسوأ ختام للخلافة العباسية ولنظام الخلافة بوجه عام !

العرق الممدود

بين دولتى المماليك !!

نضحت هذه البدايات الملبوسة على نظام وأداء دولة المماليك ، انعكست فى الصراعات والمؤامرات والخيانات وإراقة الدماء إذا لزم الأمر ، وظل هذا العرق ممدودًا فى دولة المماليك رغم ما حققته أحيانًا من إنجازات وربما أمجاد ، وهى فى الواقع دولتان متمايزتان : دولة المماليك البحرية التى شكلت من المماليك الذين اشتراهم الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وأسكنهم قلعة بجزيرة الروضة بالنيل ، فاكتسبوا هذا الاسم ، وامتدت دولتهم (١٣٢) عامًا ، من سنة ٦٤٨ هـ / ١٢٥٠م حتى سنة ٧٨٤ هـ / ١٣٨٢ م ، تعاقب على الحكم فيها أربعة وعشرون سلطانًا ، أشهرهم أو أبرزهم « سيف الدين قطز » الذى اغتيل غدرًا ، و« الظاهر بيبرس » ، و« قلاوون »، و« الناصر محمد بن قلاوون » ، وكان آخر سلاطين المماليك البحرية « حاجى بن شعبان » الذى تولى السلطنة بمصر من سنة ٧٨٣ هـ/١٣٨١م حتى سنة ٧٨٤ هـ / ١٣٨٢م .

أما الدولة المملوكية الثانية ، فكانت دولة المماليك البرجية أو « الجراكسة » ، وهم جراكسة اشتراهم السلطان « قلاوون » أحد المماليك البحرية ، والذى كان يطمع فى استمرار السلطنة والسيادة فى ذريته ، وقد حكم بالفعل هو وأولاده وأحفاده أكثر من قرن ، من سنة ٦٧٨ هـ / ١٢٧٩ م حتى سنة ٧٨٥ هـ / ١٣٨٣ م ، وقد أطلق على هؤلاء المماليك الجراكسة « المماليك البرجية » ، لأنهم أسكنوا فى أبراج القلعة ، وقد امتدت دولتهم (١٣٥) عامًا ، من سنة ٧٨٤ هـ / ١٣٨٢م حتى الفتح العثمانى وشنق آخر سلاطينهم « طومان باى » على باب زويلة سنة ٩٢٣ هـ / ١٥١٧ م .

وقد اشتهر وبرز من المماليك البرجية السلطان « سيف الدين برقوق » الذى تولى من سنة ٧٨٤ هـ/ ١٣٨٢ م حتى سنة ٨٠١ هـ/ ١٣٩٨ م ، وأبلى فى حكمه بلاءً حسنًا ، والسلطان « قايتباى » الذى اشتهر بقلعته التاريخية القائمة للآن بمياه البحر الأبيض بنهاية جزيرة « فاروس » بأقصى غرب الإسكندرية ، فضلاً عن مدرسة ومقبرة قايتباى ووكالة قايتباى بجوار الأزهر ، وسبيل قايتباى ، ووكالة قايتباى وباب النصر والسروجية ، وقبة قايتباى ، وبعض المدارس والعمائر التى لا تزال آثارها قائمة فى مصر والحجاز والشام والقدس .. والسلطان « قانصوه الغورى » الذى استشهد فى معركة « مرج دابق » التى دارت فى أغسطس ٩٢٢ هـ/ ١٥١٦م بقرب حلب بالشام ، بين العثمانيين الغزاة بقيادة سليم الأول، والمماليك بقيادة السلطان « قانصوه الغورى » ، وفيها أبلى ومن معه ضروبًا من الشجاعة والبسالة ، وزلزلوا العثمانيين وأوقعوا بهم خسائر فادحة كانت كفيلة بردهم على أعقابهم ، لولا خيانة

« خاير بك » ، الذى انحاز ببعض الجند إلى الجيش العثمانى ، فدبت الفوضى وسقط السلطان الغورى شهيدًا تحت سنابك الخيل فى عام ٩٢٢ هـ / ١٥١٦ م .

أما السلطان « الأشرف طومان باى » ، فقد آلت إليه السلطنة بعد « قانصوه الغورى » ، وقاتل قتالاً باسلاً لصد الغزو العثمانى بعد أن تفرقت الجيوش وتشتت الأمراء ، فضلاً عن طغيان المماليك وتخاذلهم ، ونهض رغم كل هذا لصد العثمانيين فى « الريدانية » (العباسية) ، وبذل جهودًا هائلة لإحياء الموات ، وجاهد لإقناع المماليك بمباغتة العثمانيين فى الصالحية وهم فى حالة تعب وإعياء ، إلاَّ أن المماليك خذلوه ولم يستجيبوا له ، فقاتل « طومان باى » فى

« الريدانية » قتالاً هائلاً فى ٢٩ من ذى الحجة ٩٢٢ هـ / ٢٣ يناير ١٥١٧م ، وقتل بيده

« سنان باشا » الصدر الأعظم العثمانى ، إلاَّ أن طلائع جيش العثمانيين نجحت فى الدخول إلى القاهرة فى موكب كان من المؤسف أن يتقدمه الخليفة العباسى والقضاة .

ولم يستكن « طومان باى » ، فما كاد سليم الأول يهنأ بهذا الفتح ، حتى باغته
طومان باى فى بولاق فى الخامس من المحرم ، ونجح المصريون فى إشعال النيران فى معسكر العثمانيين ، وأعيد ذكر اسم السلطان طومان باى فى الخطب يوم الجمعة ، بيد أن سلاح البنادق أعطى جنود العثمانيين ميزة واضطر « طومان باى » إلى الانسحاب إلى « البهنسا » ، ثم التقى الجيشان المصرى والعثمانى قرب قرية « الوردان » فى الجيزة فى ٩ ربيع أول ٩٢٣ هـ/ أول أبريل ١٥١٧م ، حيث دارت معركة حامية استمرت يومين ، قبل أن يظهر العثمانيون ويضطر طومان باى إلى اللجوء إلى بعض رؤساء الأعراب فى البحيرة ، وكانت له أياد عليهم طالبًا منهم العون والحماية ، فأحسنوا استقباله وأقسموا له بالأيمان ألا يخونوه ، ولكنهم خانوه ووشوا به إلى السلطان سليم الأول ، وتم القبض عليه ، حيث أخرجه العثمانيون فى يوم الاثنين ٢٢ ربيع الأول ٩٢٣ هـ / ١٥ أبريل ١٥١٧م ، إلى حيث نصبت له مشنقة بباب زويلة تقدم إليها ثابتًا رابط الجأش ، فلما لقى حتفه ظل جثمانه معلقًا ثلاثة أيام قبل دفنه فى قبة السلطان الغورى ، وبوفاته انتهت دولة المماليك وسقطت أيضًا الخلافة العباسية الشكلية ، وصارت مصر فى ولاية العثمانيين !

إن ربك لبالمرصاد

كما تديـن تدان !

روى ابن إياس فى « بدائع الزهور فى وقائع الدهور » ، أن الدائرة دارت على « حسن بن مرعى » وأخيه « شكر » مشايخ الغربية ( ويبدو أن منطقتهما كانت تبع البحيرة ثم تحولت إلى الغربية ) ، وهما اللذان خانا « طومان باى » وأسلماه للعثمانيين ، فجاءت الأخبار يوم الثلاثاء ٢٠ ربيع الأول سنة ٩٢٥ هـ / ١٥١٩م بأن « أينال السيفى طراباى » كاشف الغربية ، قد احتال عليهما فى مكان بالقرب من « سنهور » فأتيا إليه وركَنَا له وقد ظَنّا أن ذنبهما قد نسى ، فلما شربا ودخل السكر فى رأسيهما ، هجم عليهما جماعة من المماليك الجراكسة ممن كانوا عند « أينال » ، فعاجلوهما بالحسام قبل الكلام ، وقطعوا رأسيهما واشتفوا منهما ، حتى قيل إن بعضهم شرب من دمهما ، وبعضهم جزل (قطع) لحومهما بالسيف ، والمجازاة من جنس العمل ، وكما تدين تدان، وفى يوم الأربعاء ٢٧ ربيع الأول أُحْضِرَ رأساهما إلى القاهرة ، فرسم ملك الأمراء « خايربك » الذى صار نائبًا للعثمانيين فى مصر بعد موقفه المزرى فى معركة « مرج دابق » ـ رسم للوالى أن يعلقوهما على باب النصر ، وقيل إنه يوم إحضار الرأسين : رأس « حسن بن مرعى » ورأس « شكر » أخيه ، علقوهما فى رقبة فرس السلطان « طومان باى » الذى كان راكبًا عليها يوم ذهب إليهما وخاناه وسلماه ، وقيل إن الناس وأولاد طومان باى فرحوا لدى الطواف بالرأسين وتعليقهما فى باب النصر ، وأظهروا فى ذلك اليوم الفرح والسرور وأطلقوا الزغاريد وتطيبوا بالزعفران !

إراقة الدماء على جدار السلطة

فى دولتى المماليك

لا شك أن دولتى المماليك ، شأنهما شأن الدولتين الأموية والعباسية ، لم تخل أيامهما من تحقيق إنجازات ، وربما أمجاد ، إلاَّ أن هذا ليس بغيتنا هنا ، ليس جحدًا ولا إنكارًا أو تجاهلاً لما عساه يكون قد تحقق من هذه أو تلك ، فهى موجودة فى المؤلفات التى عنيت بسرد التاريخ بصفة عامة ، وإنما مقصدنا هنا التفتيش والبحث فى « جرثومة » السلطة وما أدت إليه من مؤامرات وخيانات وإراقة للدماء ، فتت فى عضد تلك الدول وأدت إلى انهيارات سيئة فى الختام ! فضلا عما تخلل صفحات الحكم من جنوحات وصفحات دموية طالت الناس ، وطالت الأهل فيمن طالت ، ما بين الأخ وأخيه ، وبين الابن وأبيه ، والأب وبنيه ، وخلف ذلك كله ميراثًا من العنف الدموى ظنى أنه فى مقدمة الأسباب التى تستمد منها الكيانات الإرهابية المتشحة كذبًا بالإسلام ، والساعية فى الحقيقة إلى ركوب الحكم والسلطة !

رب تساؤل يُطْرح ، ما الحاجة إلى هذا الطرح ما دامت هذه الدول قد حققت إنجازات ، وأحيانًا أمجادًا ، بيد أن السؤال الواجب الذى يجيب على هذا التساؤل : ترى ما عساه كان يمكن أن تحققه تلك الدول ـ بالحضارة الإسلامية غير المنكورة ـ إذا ما برئت من هذه الآفات والأسقام والفظائع ؟!

ومن المهم أن نعرف الأخطاء والمثالب ، قبل أن نتغنى بالأمجاد ، فالتغنى فى ذاته
لا يفيد ، وقد يؤدى إلى خَدَرٍ يصرف النظر عما يجب التعرف عليه ، بينما التعرف على

« الجرثومة » يكفل ترشيد الحاضر والمستقبل ، ثم هو يضع أيدينا على مكمن الداء فيما صرنا نعانيه الآن من جماعات العنف والإرهاب !

آفتان ، لا آفة واحدة

فى دولتى المماليك !

من المعروف أن دولتى المماليك : البحرية ، والبرجية أو الجراكسة ، لم تعتمدا بصفة أساسية على الإرث كوسيلة لركوب السلطة ، وإنما اعتمدتا فى المقام الأول على ما يفرزه صراع القوى وأدواته وإمكانياته بين المتنافسين ، والذى تهيئ نتيجته إلى وصول الأقوى إلى دست الحكم .

إلاَّ أن الدولتين لم تخلوا تمامًا من آفة الميراث ، ترى ذلك فيما نجح فيه الظاهر بيبرس من جعل الحكم من بعده إلى أولاده ، فتولى منهم « بركة خان بن بيبرس » سنة ٦٧٦ هـ / ١٢٧٧ م ، و « سلامش بن بيبرس » سنة ٦٧٨ هـ / ١٢٧٩ م . ورأينا هذا الإرث فى ذرية السلطان « قلاوون » ( ٦٧٩ هـ / ١٢٧٩ م ) فتبوأ السلطنة بعده ابنه « الأشرف خليل بن قلاوون » (٦٨٩ هـ /١٢٩٠م) ، ثم ابنه « الناصر محمد بن قلاوون » ، وتولى السلطنة ثلاث مرات ، أولاها سنة ٦٩٣ هـ / ١٢٩٣ م ، والثانية سنة ٦٩٨ هـ/ ١٢٩٨ م ، بعد أن نجح فى إزاحة « كتبغا » ثم « لاجين » ، والثالثة سنة٧٠٩ هـ /١٣٠٩ م بعد « بيبرس الجاشنكير » ، وقد تولى « قلاوون » بعد ثلاثين عامًا من قيام دولة المماليك البحرية ، وبقى السلطان فى بيته بين أولاده ثم أحفاده حتى نهاية الدولة ، فتولى من أولاده « الأشرف خليل » ثم « الناصر محمد قلاوون » ، وتولى السلطنة ثمانية من أولاد الناصر محمد ، هم أبو بكر ، وكجك ، وأحمد ، وإسماعيل ، وشعبان ، وحاجى ، وحسن ، وصالح ، ثم عاد ابنه حسن إلى تولى السلطنة مرة ثانية من سنة ٧٥٥ هـ / ١٣٥٤م . وتولى السلطنة أربعة من أحفاد الناصر ، هم صلاح الدين بن حاجى ، وشعبان بن حسن ، وعلى بن شعبان ، وحاجى بن شعبان ، وامتد عهد هؤلاء الأحفاد من سنة ٧٦٢ هـ / ١٣٦١ م حتى سنة ٧٨٤ هـ / ١٣٨٢ م .

أما دولة المماليك البرجية أو الجراكسة ، فقد غلب عليها الفرز الناجم عن صراع القوى ، وتوارى الإرث أو كاد ، وصار الصراع على السلطة محكومًا بنتائج موازين القوة بين المتنافسين .

وعلى ذلك ، عانت الدولتان من آفتين : آفة الصراع وما يفرزه ، وآفة الميراث وما يحكمه ، وقد تسببت الآفتان فيما جرى من مؤامرات وخيانات وإراقة للدماء .

بعض الدماء التى أُريقت على جدار السلطة

فى دولتى المماليك !

لم يكن قتل «المعز أيبك» ، ولا قيامه وشجرة الدر بالتدبير لاغتيال «آقطاى الجمدار» ، ولا قتل « الظاهر بيبرس » لسيف الدين « قطز » بطل « عين جالوت » ـ لم يكن هو كل ما تخلل دولتى المماليك : البحرية ، والبرجية ، من إراقة للدماء .

ونحن لا نستقصى هنا حوادث القتل لعامة الناس ، وكثيرًا ما حدث ، ولكنا نستقصى نواتج الصراع على السلطة وما أدى إليه من قتل أو خيانة .

يتحدث المؤرخون بأن السلطان السعيد « محمد بركة خان » ابن الظاهر بيبرس ، الذى حكم عامين من ٦٧٦ هـ / ١٢٧٧م حتى سنة ٦٧٨ هـ / ١٢٧٩ م ـ قد أُسْقِطَ من السلطنة إسقاطًا ،لينصّب مكانه أخوه السلطان «بدر الدين سلامش» ابن الظاهر بيبرس، وأقطعوا للمخلوع ولأخيه نجم الدين : خضرا والكرك والشوبك وأعمالهما ، ولأن الغدر والخيانة كانا غالبين ، سيَّرَ « بركة خان » مبعوثين منه إلى الأمير سيف الدين قلاوون وأعيان الأمراء ، ليستوثق لنفسه منهم بما وعدوه إياه هو وأخاه ، فلما حلفوا على الوفاء بما التزموا به ، خرج من باب القلعة بعد حصار دام ثلاثة أيام !

وكما أُسقط « بركة خان بن بيبرس » ، أُسقط أخوه « سلامش بن بيبرس » ،أسقطه الوصى عليه لحداثة سنه : « سيف الدين قلاوون » ، فخلعه وتولى السلطنة بدلاً منه ، وكان يعرف بقلاوون الألفى ، وقد امتد به الحكم وفى ذريته أكثر من مائة سنة ، ومع أن السلطنة كانت فى بيت قلاوون ، فإنها لم تخل من التآمر والقتل .

فقد قتل السلطان الأشرف « خليل بن قلاوون » بعد مدة حُكْم استمرت نيفًا وثلاث سنوات ( ٦٨٩ هـ / ١٢٩٠ م ـ ٦٩٣ هـ / ١٢٩٤ م ) .. دبر لمقتله عددٌ من أمراء المماليك البحرية ، ولم يشفع له عندهم جهاده المشهود فى محاربة الصليبيين ، فدبروا له مؤامرة وهو فى رحلة صيد خارج القاهرة ، ويتحدث الرواة بأنه لدى خروجه من قلعة الجبل فى الثانى من المحرم ٦٩٣ / ١٢٩٤ م ، بصحبة وزيره السلعوس وعدد من الأمراء ، انتهز المتآمرون فرصة انفصاله عن صَحْبِهِ للصيد ، ووثبوا عليه وقتلوه ، وكان أول من ضربه بالسيف نائبه « بيدرا » ، فى صورة مشابهة لما عاناه يوليوس قيصر من صديقه « بروتوس » ، وقد تلقى « بيدرا » ثمن غدره فبايعه المماليك المتآمرون بالسلطنة ـ إلاّ أنها لم تدم له سوى يوم واحد ، إذ قُتِلَ بدوره ، قتله « كتبغا » الذى وثب إلى السلطنة ، وَحَزَّ رأسه ، وطاف به فى شوارع القاهرة .

وما كاد العادل « كتبغا » يهنأ بالسلطنة ، حتى انقلب عليه نائبه حسام الدين
« لاجين » ، واتفق مع بعض الأمراء على الفتك به ، بيد أنه لم يقدر عليه لقوة شوكته ، فدبر تدبيرًا آخر ، حيث بدأ بالقبض على الأميرين : بتخاص ويكتوت الأزرق العادليين ، وقتلهما فى الحال ، ثم قصد مخيم السلطان العادل « كتبغا » ، إلاَّ أن بعض مماليك السلطان منعوه وأعاقوه ، فلما بلغ الخبر « كتبغا » ، وكان لا قبل له على قتال « لاجين » ومن رافقه من الأمراء ـ خاف على نفسه ، وقفل عائدًا إلى الشام وهو يلوم نفسه على إعانته
« لاجين » فى قتل الأشرف خليل قلاوون وتوليته نيابة السلطنة ، ثم ها هو يغدر به ويريد قتله ، وبينما يسعى « كتبغا » لدى قاضى قضاة دمشق : بدر الدين بن جماعة ، لتجديد المواثيق ، كان « لاجين » قد استولى على دهليز السلطان والخزائن والحراس والعساكر ، ولم يجد « كتبغا » بدًّا ـ فى قصة طويلة ـ من الرضوخ للواقع بزوال دولته ، فأذعن وترك الحكم للمنصور « لاجين» الذى تولى السلطنة منذ سنة ٦٩٦ هـ / ١٢٩٦م ، ولكنه لم يلبث طويلاً فى الحكم حتى نفرت منه قلوب الأمراء ، ودبروا لقتله ، فاحتاط لنفسه ولزم القلعة حذرًا ، إلاَّ أنه أثناء انكبابه على لعب الشطرنج بالقصر فى العاشر من ربيع الآخر ٦٩٨ هـ / ١٢٩٨ م ، بادأه من يدعى « كرجى » بضربه بالسيف على كتفه ، ونهشته ستة أو سبعة أسياف حتى أجهزوا عليه ، ليتولى « الناصر محمد قلاوون » سلطنته الثانية منذ سنة ٦٩٨ هـ / ١٢٩٨ م .

صراع الإخوة !!!

ولم يتوقف القتل ، إلاَّ ليحل محله الخلع أو الإسقاط ، فَخُلِعَ السلطان « سيف الدين
أبو بكر » ابن الناصر محمد فى سنة ٧٤٢ هـ / ١٣٤١ م بعد قرابة سنة من توليه سنة ٧٤١هـ / ١٣٤٠ م ، وخُلِعَ السلطان الأشرف « كجك بن الناصر محمد » سنة ٧٤٢ هـ / ١٣٤٢ م ، بعد أن كان الأمير « قوصون » قد خَلَع أخاه « أبا بكر » وقبض عليه وإخوته الستة وسجنهم فى قوص ، ونشب خلاف حاد تطور إلى أزمة كبرى واضطرابات وصراعات بين « قوصون » ومماليك السلطان المتوفى « الناصر محمد بن قلاوون » ، وصلت إلى حد التدبير لقتل « قوصون » الذى التحم مع العامة ، ووقف المماليك والأمراء الناصرية فوق سطح القلعة يرمونه وأمراءه بالنبال ، وتفاقمت الاضطرابات والصراعات حتى انتهت إلى سقوط « قوصون » وخلع السلطان « كجك بن الناصر محمد » فى سنة ٧٤٢ هـ /١٣٤٢ م على ما تقدم ، بعد ولاية قصيرة لم تمتد إلاَّ خمسة شهور ، وأفرج عن أبناء الناصر محمد الذين سجنهم « قوصون » فى قوص !

ولم يطل المقام بالسلطان التالى « شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد » ، فلم يمكث فى الحكم منذ توليه فى العاشر من شوال سنة ٧٤٢هـ /١٣٤٢م ـ لم يمكث بالحكم سوى شهرين واثنى عشر يومًا بعد أن كان الخليفة العباسى « الحاكم بأمر الله » قد قام بدوره المرسوم بهذه الخلافة الهزيلة ، وبايعه بالسلطنة فى حضور القضاة الأربعة ، بيد أنه لم يلبث أن أزاحه الأمراء وولوا مكانه أخاه « إسماعيل بن الناصر محمد » ، ولقبوه بالسلطان الصالح .

قَتْلُ الأخِّ أخاه !!!

بيد أن قصة السلطان المخلوع « أحمد بن الناصر محمد » لم تنته عند هذا الحد ، وإنما طفق الأمراء يلاحقونه فى الكرك حيث اختار الإقامة فيها ، ويطالبونه برد الأموال والممتلكات التى نقلها إلى هناك ، وأرسل أخوه السلطان الصالح« إسماعيل بن الناصر محمد » ـ أرسل فى أثره تجريدة إثر تجريدة ، حيث حاصروه بقلعة الكرك ، ويروى ابن إياس فى بدائع الزهور أن المخلوع « أحمد بن الناصر محمد » ـ أرسل فى ٢٢ من ذى الحجة سنة ٧٤٥هـ /١٣٤٤م يطلب الأمان لنفسه من أمراء التجريدة ، فأرسلوا له بالأمان ، فلما نزل إليهم من القلعة قيدوه ، وأرسلوا بالخبر إلى أخيه السلطان الصالح « إسماعيل بن الناصر محمد » ، قال ابن إياس : « فدقت البشائر بالقلعة ، وزينت القاهرة ، ثم إن السلطان عين الأمير منجك اليوسفى ، وزير الديار المصرية ، بأن يتوجه إلى الكرك ، ويقطع رأس أخيه الناصر أحمد ؛ فتوجه من يومه إلى الكرك ، وقطع رأس الناصر أحمد ، ووضعها فى علبة ، وأحضرها بين يدى أخيه الملك الصالح » ، وأضاف ابن إياس « أن الملك الصالح إسماعيل سجد لله شكرًا لما وضعت بين يديه رأس أخيه وصار يتأملها طويلاً ، ثم أمر بدفنها فدفنت » .

أما السلطان الصالح عماد الدين « إسماعيل بن الناصر محمد » ، فقد نقل ابن إياس عن الصلاح الصفدى أنه منذ جعل ينظر إلى رأس أخيه المقطوعة ، استمر مرجوفًا إلى أن مات بعد ذلك بمدة يسيرة ، وكانت وفاته يوم الخميس ٢١ ربيع الأول سنة ٧٤٦هـ/١٣٤٥م بعد أن استمر بالحكم ثلاث سنين وشهرًا ونصف .

من بعد وفاة السلطان الصالح « إسماعيل » ، تولى العرش فى ذات اليوم (٢١ ربيع الأول ٧٤٦هـ /١٣٤٥م) أخوه السلطان الكامل « شعبان بن الناصر محمد » ، وقد بدأ عهده فور مبايعته بالقبض على الأمير الحاج آل ملك ، نائب السلطنة ، وسجنه ببرج القلعة ، ثم أفرج عنه بعد أيام ، وولاه نيابة صفد ، إلاَّ أنه ما لبث أن أمر بالقبض عليه ، وأرسله إلى السجن بثغر الإسكندرية .

ويبدو أن هذا السلطان كان نهبًا للظنون ، فأوجس خيفة من أخويه : « حاجى »

و« حسن » ابنى الناصر محمد ، فأرسل فى استدعائهما ، فأبطآ عليه ، وتعللا بأنهما شربا دواءً ، وأن بهما ضعفًا ، فاستشاط غضبًا ، وأرسل إليهما زوج أمه : الأمير أرغون العلاى ، فدخل عليهما دور الحرم ، وأحضرهما فى صورة مهينة ، مسحوبين على وجوهيهما ، وهما كما قال ابن إياس « فى غاية البهدلة ، يتباكيان » ! ولم يقبل السلطان الكامل شفاعة ولا أعذار أمهاتهما ، وحبسهما بالدهيشة ، وفى نيته أن يدخلهما فى مكان تحت الدهيشة ويبنى عليهما حائطًا !

ويتحدث الرواة بأنه بعد أيام، عَنَّ للسلطان الكامل « شعبان » أن يقتل أخويه « حاجى » و« حسن » ، إلاَّ أن الخدم لم يمكنوه من قتلهما ، وأغلقوا فى وجهه باب الدهيشة ، ثم إن الأمراء لاحقوه بعد أن عرفوا أنه هرب ، ثم وجدوه مختفيًا داخل زير ، فقبضوا عليه ومضوا به إلى الدهيشة حيث سجنوه بذات الموضع الذى سجن فيه أخواه !

وبعد ثلاثة أيام من سجنه ، تسلطن أخوه المظفر « حاجى بن الناصر محمد » ، فأمر بخنق أخيه الكامل شعبان ، وخُنِق ليلاً فى ليلة الخميس ٣ جمادى الآخرة سنة ٧٤٧هـ /١٣٤٦م .

ولم تلبث بيعة السلطان المظفر « حاجى » ، أن بدأت عهدها بمطاردة الأمراء الذين كانوا سببًا لسلطنته ، وقبض على الأمير آقسنقر والأمير مكتمر الحجازى وحبسهما فى برج القلعة ، فلما دخل الليل أمر بخنقهما ، فخنقا ودفنا تحت جنح الليل ! ثم لحق ذات المصير بالأمير شجاع الدين غرلوا !!!

ولم يلبث المظفر « حاجى » أن ركبه الظن ، ودخل فى صراع مع الأمراء فى قصة طويلة رواها ابن إياس ، انتهت بنجاح الأمراء فى إصابته وأسره ، وسُحب ماشيًا مكشوف الرأس إلى الأمير « أرقطاى » نائب السلطنة ، وكان حليمًا قليل الأذى ، فأبى أن يقتله عائذًا بالله أن يقتل ابن أستاذه ، إلاَّ أن الأمير « بيبغا أروس » نجح فى القبض على السلطان « حاجى » ، وتوجه به إلى مقبرة عند الباب المحروق ، فخنقه هناك ، ودفنه بها ، وكان قتله يوم الأحد ١٢ رمضان سنة ٧٤٨ هـ / ١٣٤٧م .

وتسلطن من بعده أخوه « حسن بن الناصر محمد » ، بلقب السلطان الناصر أبى المحاسن ، ولبث بالحكم منذ توليه فى سنة ٧٤٨ هـ / ١٣٤٧م بمبايعة الخليفة العباسى كالعادة ـ إلى أن خُلع من السلطنة فى ١٧ جمادى الآخرة سنة ٧٥٢هـ / ١١ أغسطس ١٣٥١م ، ليلى من بعده « صالح بن الناصر محمد » بلقب السلطان الصالح ، من سنة ٧٥٢هـ /١٣٥١م حتى تكاثر عليه الأمراء وقبضوا عليه وسجنوه وخلعوه بعد نيف وثلاث سنين من توليه ، ليعود أخوه « حسن بن الناصر محمد » ليتولى ولايته أو سلطنته الثانية ، بمبايعة الخليفة العباسى كالعادة ، فى ١٢ شوال سنة ٧٥٥هـ /١٣٥٤م ، وقيل إنه حَسُنَ حكمه الذى استمر حتى سنة ٧٦٢هـ / ١٣٦١م ، إلاَّ أن ولايته قد انتهت وحياته معها ـ نهاية مأساوية ، فبعد خطوب ومعارك ، قبض عليه مجموعة من العربان بالشرقية ، وأودع مقيدًا بسجن الإسكندرية هو والأمير أيدمر ، وكان آخر العهد به ، كما روى ابن إياس ، أن قيل إنه خُنق ورُمِيت جثته فى البحر ، وقيل إن الأمير يلبغا ـ مع أنه مملوكه ـ عاقبه أشد العقوبة حتى مات ، فدفنه فى مصطبته ، وقيل بل دفنه فى بعض الكيمان بمصر العتيقة ، وأخفى قبره عن الناس ، ولم يدفن فى مدرسته التى بناها بسوق الخيل .

انتقلت سلطنة دولة المماليك البحرية بعد ذلك إلى أحفاد « الناصر قلاوون » ، فتعاقب عليها « صلاح الدين محمد بن حاجى » (٧٦٢ هـ/ ١٣٦١م) ، ثم « شعبان بن حسن بن الناصر محمد » (٧٦٤ هـ/١٣٦٣م) ، ثم « على بن شعبان بن حسن بن الناصر محمد » (٧٧٨ هـ/ ١٣٧٦م)، ثم « حاجى بن شعبان بن حسين بن الناصر محمد » (٧٨٣ هـ/ ١٣٨١م) ، لتنتهى بذلك دولة المماليك البحرية ، وتبدأ سنة ٧٨٤ هـ/١٣٨٢م دولة المماليك البرجية بالسلطان سيف الدين « برقوق » .

لم يختلف الحال !

ولم يختلف حال سلطنة هؤلاء الأحفاد الأربعة عما كان حاصلاً فى سلطنة من سبقوهم ، من مؤامرات وخيانات وإراقة للدماء ، وحسبنا أن نعرف أن السلطان « صلاح الدين محمد بن حاجى » قد خُلِعَ من السلطنة ، وأن التالى له « الأشرف شعبان بن حسن » قد قُتِل سنة ٧٧٨ هـ/ ١٣٧٦م ، رغم أنه كان من الحكام الصالحين ، ووصفه ابن إياس بأنه كان من خيار بنى قلاوون ، وكفئًا للسلطنة ، ومع ذلك فقد تعرض لمؤامرة من بعض أمراء المماليك ، وأرادوا سلطنة ابنه الأمير « على » بمقولة إنهم سمعوا أن السلطان الأشرف شعبان قتل عند العقبة فى رحلة الحج ، ولم يلتفت هؤلاء إلى عدم صحة الخبر ، وسلطنوا الأمير على وأجلسوه على تخت الملك ، ودقت له البشائر بالقلعة ، وأمام هذه المؤامرات اضطر السلطان الأشرف شعبان إلى الهروب تحت جنح الليل ، فدخل أمراء المماليك على الخليفة العباسى « المتوكل على الله » ، وأرادوه للسلطنة ، وألحوا عليه فى أنه الأحق بها من سواه فامتنع عليهم ، ويورد ابن إياس فى بدائع الزهور ، أنه من عجائب المفارقات أنه فى ذات اليوم الذى سرت فيه الأخبار بأن السلطان الأشرف شعبان قد قُتِل ، وَثَبَ المماليك بمصر ، وسلطنوا الأمير على بن شعبان ، وخلعوا أباه الأشرف شعبان ، بينما لاذ هو بالفرار ، وانتهى الأمر بقتله فى قصة طويلة .

وجاء أمراء المماليك بالأمير « على بن شعبان» حفيد الناصر محمد ، وولوه السلطنة وهو ابن سبع سنين (؟!!) ، ولقبوه بالمنصور علاء الدين على بن شعبان ، واستمرت سلطنته من عام ٧٧٨ هـ / ١٣٧٦م ، حتى توفى سنة ٧٨٣ هـ/١٣٨١م وله من العمر اثنتا عشرة سنة ، وعلى مدى هذه السنوات الخمس لم يكن للطفل ثم الصبى من السلطنة إلاَّ مجرد الاسم !

أما خَلَفُه الصالح « حاجى بن شعبان » ، الذى نصبه أمراء المماليك خلفًا لأخيه وهو بدوره صبى فى نحو الحادية عشرة من عمره ، فقد بايعه كالعادة الخليفة العباسى محمد المتوكل ، الذى لم يكن له سوى هذه المراسم الشكلية ، وشاركه فى البيعة القضاة الأربعة ، والأنابكى برقوق ، إلاَّ أنه سرعان ما خُلِع بعد سنة ، خَلَعَه ذات الأتابكى « برقوق » الذى اشترك فى بيعته ، ليبدأ عصر دولة المماليك البرجية الذى استمر (١٣٥) سنة ، لم يتغير الحال فيها عما سلف ، وقد حدثتك عمن اشتهروا من سلاطين هذه الدولة : برقوق ، وقانصوه الغورى، وأخيرًا طومان باى الذى شنق على باب زويلة ، ليبدأ عهد الدولة العثمانية التى حفلت بأعاجيب قتل الإخوة والأبناء ، وبها سوف نختم هذا الحديث !

(للحديث بقية)