بقلم – العميد : خالد عكاشة
الإطاحة بنظام حكم البعث العراقي، ومنظومة الرئيس الأسبق صدام حسين، وغزو الدولة العربية وتحطيم هياكل حكمها وإصابتها بهذا القدر البالغ من التدمير، قد يحتاج إلى ما يزيد عن عقد من الزمن حتى تتكشف كواليسه وخباياه، خاصة أنه استتبعه نوعًا من الاحتلال العسكرى المقنع، وامتدت آثاره على المنطقة برمتها حتى وقتنا الراهن. عن تلك الكواليس والخبايا المذهلة يسرد السفير والدبلوماسى الأمريكى الأفغانى الأصل (زلماى خليل زادة) فى كتابه الجديد “المبعوث.. من كابل إلى البيت الأبيض رحلتى فى عالم مضطرب”، الصادر عن دار نشر سانت مارتنز برس، جانبا من سيرته الذاتية ومذكراته ويومياته، يتطرق فيه لكثير من تفاصيل ما كان يدور فى كواليس صناعة القرار الأمريكى خلال عمله فى مواقع عديدة، كمستشار لشئون الأمن القومى فى عهد إدارة الرئيس جورج بوش، ثم مبعوثا خاصا لدى المعارضة العراقية فى نهاية ٢٠٠٢، وسفيرا لواشنطن فى بلده الأصلى أفغانستان وفى العراق والأمم المتحدة.
وينشر كتاب “المبعوث” فى وقت تحتدم فيه النقاشات داخل الولايات المتحدة حول سياسة إدارة الرئيس السابق باراك أوباما تجاه طهران، بما فى ذلك ما يتعلق ببنود الاتفاق النووى الذى أبرمته واشنطن والدول الخمس الكبرى فى العالم مع إيران، حيث كشف الكتاب مساحة التنسيق والارتباط الهائل ما بين واشنطن وطهران أثناء عملية غزو العراق وما بعدها بتفاصيل صادمة.
يكشف الدبلوماسى الأمريكى الذى يوصف بأحد “صقور إدارة بوش” أنه تيقن من وجود خطة للتدخل فى العراق والإطاحة بالرئيس صدام حسين، بمجرد تعيينه مبعوثا لدى المعارضة العراقية فى الخارج، حيث كانت مهمته توحيدها وتشكيل حكومة بديلة بعد إسقاط صدام. فى وقت كان كبار المسئولين الأميركيين ينظمون قبيل الغزو محادثات سرية مع إيران تناولت مستقبل العراق، وقام “خليل زاده” بنفسه بإجراء بعض تلك المحادثات التى لم يكشف النقاب عنها من قبل، وعقدت فى جنيف مع “محمد جواد ظريف” مندوب إيران لدى الأمم المتحدة آنذاك وزير خارجيتها حاليا، والتى استمرت بانتظام حتى بعد استيلاء القوات الأمريكية على بغداد فى أبريل ٢٠٠٣م. وكان أول ثمارها النجاح فى انتزاع تعهد من الجيش الإيرانى بعدم إطلاق النار على الطائرات الحربية الأميركية التى قد تدخل أو تضطر إلى استخدام المجال الجوى الإيراني، فى مقابل الحرص على إيصال تطمينات لطهران بأنها لن تستهدف فى العملية العسكرية الأمريكية. ويشير السفير الأمريكى إلى أن اللقاءات بينهما تواصلت بعد الغزو وبحثت مستقبل الحكم فى العراق، وأن إيران دعمت بقوة تشكيل حكومة من معارضة المنفى واستئصال حزب البعث، وإعادة بناء قوات الأمن العراقية من جديد وهو ما تحقق، رغم تحفظ خليل زادة على ذلك كما أورد بكتابه، فقد كان هذا الرأى الذى بدا مصاغا لتضخيم النفوذ الإيرانى داخل العراق، اختلف اختلافا جذريا عن خطة خليل زادة لتشكيل حكومة عراقية انتقالية تضم عراقيين ظلوا مقيمين داخل البلد أثناء حكم صدام حسين، ولا تقتصر على قادة فى المنفى، كما أن فكرة تطهير البلاد من أعضاء حزب البعث لم تكن تروق للسفير الأميركى الأسبق. حيث أعرب أنه نفذ ذلك رغم أن رأى الخارجية الأميركية كان مخالفا للبيت الأبيض والبنتاجون بخصوص تبعات ما بعد الحرب، على العراق كالفوضى وتنامى النفوذ الإيراني، لاسيما والخارجية حذرت رسميا من ذلك، لكن المسئولين الأمريكيين العسكريين والسياسيين لم يهتموا لرأى الخارجية ولا للمتخصصين كخليل زادة نفسه.
أضاف الكتاب جانبا من المعلومات حول ما كان مطلوبا أمريكيا حينها ونقلها خليل زادة إلى جواد ظريف، الذى وافق على مهمة إيران بأن تحث الشيعة العراقيين على المشاركة بطريقة بناءة فى إقامة حكومة جديدة فى العراق، مشيرا إلى أن بعض زعماء الشيعة العراقيين البارزين ممن كانوا يناصبون صدام العداء، ظلوا يحظون بدعم إيران التى تعد القوة الشيعية الكبرى فى المنطقة. غير أن ثمة خلافات كبيرة برزت بين المسئولين الأميركيين والإيرانيين حول كيفية تشكيل حكومة جديدة فى العراق، والتصدى لدعم طهران للإرهاب، بحسب توصيف ما ورد فى كتاب خليل زادة، مفسرا ذلك بأن الإدارة الأمريكية كانت على علم بأن إيران كانت تؤوى عددا من قيادات “تنظيم القاعدة” الفارين من أفغانستان، وأشار إلى معلومات الاستخبارات الأمريكية التى أفادت حينها بوجود تعاون بين بعض قيادات الجيش والمخابرات فى إيران مع قيادات من التنظيم، وأنه كان هناك شك “إن لم يكن يقينا” لدى الدوائر الأمريكية فى أن طهران كانت تسهل بعض عمليات القاعدة داخل العراق وخارجها، مما استدعى أن توقف إدارة بوش الحوار مؤقتا فى مايو ٢٠٠٣م بعد توافر معلومات أمريكية اتهمت إيران باستضافة قادة “تنظيم القاعدة”، الذى شن هجمات إرهابية أدت لمقتل ثمانية أمريكيين فى العاصمة السعودية الرياض.
كشف كتاب خليل زادة النقاب عن أنه وقت طرح قضية الإرهاب على الطاولة فيما قبل مايو ٢٠٠٣م، طلب جواد ظريف من الولايات المتحدة تسليم قادة منظمة “مجاهدى خلق” الذين قبل صدام حسين لجوءهم للعراق، فجادله خليل زادة بأن إيران كانت تضم مسئولى القاعدة بما فى ذلك ابن أسامة بن لادن، وأدى ذلك لطلب مباشر لتعزيز احتمالية التبادل المباشر بين “قادة خلق” مقابل “زعماء القاعدة”، إلا أن إدارة بوش رفضت المسعى وأغلقت القناة الدبلوماسية ذلك الشهر بعد أن ربطت بهجمات الرياض الإرهابية بقادة القاعدة الموجودين فى إيران. وبعد أن عين سفيرا للعراق فى ٢٠٠٥م عاود خليل زادة سعيه بشكل خاص لفتح قناة مع إيران، رغم تحفظه على طريقة إدارة التعاون معها بحسب توصيفه المتكرر فى الكتاب، حيث ذكر تفاصيل ما قاله المسئولون العراقيون للمبعوث الأمريكى أن إيران كانت منفتحة حول فكرة المحادثات، وكان هناك مناسبة فى ٢٠٠٦م بدا بها أن السياسات الأمريكية والإيرانية ستتداخل، إذ كتب خليل زادة أن “كلا البلدين خلصا إلى أن إبراهيم الجعفرى يجب أن يستبدل”، كما أشار فى كتابه إلى أن (قاسم سليماني) قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيراني، سافر إلى بغداد سرا لتسليم الرسالة بأن الجعفرى يجب أن يذهب. وهو ما دعا خليل زادة أثناء لقاء “مجلس الأمن القومي” لإقناع بوش أنه يجب أن يحصل على صلاحيات فتح حوار مستمر مع الإيرانيين، حينها وبحسب كتاب خليل زادة سافر (عبد العزيز الحكيم) الزعيم الشيعى المقرب من طهران، إلى إيران لإقناع المرشد الأعلى للثورة الإيرانى (على خامنئي) باستئناف المحادثات ووافق حينها، فى حين شكل الإيرانيون فريقا من وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية للمحادثات التى استؤنفت فى بغداد، وبالرغم من الطبيعة العالية للوفد الإيرانى قال خليل زادة إنه خطط للتركيز فقط على العراق، وتجاهل الجهود الإيرانية لجره نحو محادثات حول أجندة أوسع تشمل السياسة الخارجية للإقليم وللعلاقات الثانئية فيما بينهما. وكتب خليل زادة تعليقا على هذه المحطة نصا: “لأسباب لا زالت غير واضحة بالنسبة لي، واشنطن قامت بتغيير كامل ومفاجئ، وألغت اللقاء باللحظة الأخيرة”، مضيفا أن “خامنئى وصل من هذه الحادثة إلى أن الأمريكيين غير جديرين بالثقة، بحسب ما أبلغنى الحكيم”، وفى النهاية أشار زادة إلى أن الإدارة منحته الصلاحيات بمحادثات حذرة مقيدة حول العراق قام بها لكن المحادثات لم تكن بناءة فى مجملها.
فسر كتاب السفير فى جزء متقدم أن مسئولى وزارة الخارجية عام ٢٠٠٥م وما بعدها كانوا أكثر اهتماما بالدعم الإيرانى للمليشيات الشيعية، بالعبوات الناسفة المتطورة والأسلحة الأخرى التى هاجموا بها القوات الأمريكية، وقال إنه فى ذلك الوقت ووفق ضغوط استخباراتية تعرضت لها الإدارة، لم يكن من المنطقى فتح محادثات مع إيران، حتى استعدت الولايات المتحدة لشن حملة قوية ضد الميليشيات الشيعية والشبكة الإيرانية التى كانت تدعمها، وهو ما لم يحدث حتى عام ٢٠٠٧م عندما سمحت إدارة بوش بزيادة القوات الأمريكية وأرسل الجنرال ديفيد بترايوس إلى بغداد.
ختم السفير الأمريكى زلماى خليل زادة كتابه بالاعتراف أن ما حدث كان مزيجا من الأخطاء الكارثية، حيث كان بالإمكان القيام بإجراءات مثل نشر آلاف الجنود الأمريكيين لإرساء النظام وضبط الأمن فى البلاد وتأمين حدودها، وكان يمكن الحصول على استجابة إيجابية من الجيش العراقى ليبدى تعاونا، لكن ذلك لم يحدث بل الأكثر من ذلك أن تم حل الجيش. وحول هذا الموضوع ذاته كتب أن ترك حدود العراق مفتوحة دون تأمين كان أمرا مثيرا للتساؤلات، فقد كان هذا سببا رئيسيا وما يشبه السماح لعشرات الآلاف من الإيرانيين كى يتدفقوا إلى العراق، لا سيما للأماكن والبلدات التى يعتبرونها أماكن وبقاعًا مقدسة، وأضاف أنه تقابل كثيرا مع القادة العراقيين الحريصين على بلدهم، كانوا يبدون كثيرا من المخاوف بشأن تلك التغيرات العميقة التى تجرى على أراضيهم خلال لقاءاتهم مع مسئولى الأمم المتحدة، وهو ما ثبت صحته وتحقق فى الكثير من صوره المزعجة فيما بعد.