محمود قرني - شاعر مصري
منذ زمن ليس بعيدا احتفت الرواية بتلك القارة الدفينة التي اكتشفها "أرنست هيمنجواي". لم تكن القارة المعنية جغرافية الأبعاد، كما لم تطبع الكولونيالية حدودها علي رؤوس قاذفات القنابل. هي قارة إنسانية بامتياز تحتفي بالهشاشة والضعف. أعظم اكتشافاتها تلك الروح التهكمية والساخرة من قضية الوجود والماهية. كان ذلك يعني بالضرورة ألا تبقى لغة الرواية لدنية، وألا يبقى بطلها هو ذلك الأوغسطيني الذي يقدم نموذجا سرمديا لمفهوم الزمن.
إذن هي رواية تنتمي إلى هؤلاء البشر الذين احتقروا الساسة وتجار السلاح والكهنة ورجال الدين بنفس الدرجة التي احتقروا بها النفسانيين الذين أسرفوا في الحديث عن "أوقيانوس اللاشعور". باختصار هي رواية لا ترغب في الاستغراق بصدمات الاكتشافات العلمية ونظريات الانتخاب الطبيعي وتجلياتها الاستئصالية. هذا كان يعني بالضرورة نهاية ما يسمى بـ "رواية الأمة أو القومية" وعودة رواية الإنسان.
تلك هي جوهر انحيازات الروائي والشاعر علي عطا في روايته الأولى "حافة الكوثر" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، وهي انحيازات تعززها تلك البطولات الصغيرة المنذورة لأقدار صعبة ضمن حركة الزمن التي يضفي عليها الكاتب مزيدا من العشوائية تعزيزا للاضطراب الذي تضج به حياة الراوي، ومع ذلك لم يتخل عن تلك اللغة المقطرة والمبتسرة التي تومئ ولا تفصح.
تستغرق الرواية في إجابة سؤالين محوريين أولهما: هل يصلح الكوثر أن يكون وطنا بديلا لناسه؟ وهل تعتبر الكتابة خلاصا من قسوة هذا العالم؟ والكوثر، حسبما تكشف الرواية مستشفى الأمراض النفسية الذي يعالج به الراوي كلما عاودته نوبة اكتئابية، وهو، على ما يبدو، يتحول من مكان للاستغراق في خرائب الروح إلى جغرافيا كاشفة لواقع مجتمعي يكتظ بالتناقضات، تتبدى فيه مهاوي الأزمات الاجتماعية. سنجد ذلك في نماذج تمثل الأحلام المقموعة بداية من ذلك الشاعر المثير للسخرية الذي يسأل نفسه بأعلى الصوت لمجرد تعرف الراوي عليه: هو أنا مشهور أوي كده؟ ثم السؤال المتكرر للمريض أحمد جمال الدين أمين المخازن بإحدى الشركات: هل التدخين ينقض الوضوء؟ ثم ضابط الشرطة السابق الذي يطلق إذاعة خاصة به يطلق من خلالها الأوامر، ويشرح فيها كيف كان يجند الطلبة الفقراء في الجامعة في جهاز أمن الدولة، كذلك طارق مراد الذي يقول إنه عميد كلية الهندسة في المطرية والذي يقول أيضا إنه دخل الكوثر بأمر رئيس الدولة بعد أن علم برغبته في خوض انتخابات رئاسة الجمهورية، ثم بيشوي الذي يمثل حالة جنسية مقموعة تتجلى في القبلات الهوائية التي يطلقها تجاه الممرضات فتسخر منه إحداهن وهي تقول: بيبوس حلو أوي.
تلك نماذج تجمعها روابط ربما بدت واهية ضمن علاقات قمعية فرضتها ديكتاتورية المكان، ضمن ما يسميه الراوي "العلاج الإلزامي" وهي أقدار كشفت عن تناقضات اجتماعية وإنسانية واختلافات شتى في القيم الفردية، غير أن الراوي ينجح في خلق مستعمرة أخرى للعقاب الذي يولد في النهاية ما يمكن تسميته بـ "أخوة المأساة"، من ثم يجتذب الوجود المنقوص، لأبطال الرواية، شرعية أخلاقية وإنسانية تجعل سؤال الراوي عن تحول الكوثر إلى وطن لأهله سؤلا ممكنا رغم مجافاته لكل منطق.
ربما هذا ما يجعل من السؤال الثاني: هل تكون الكتابة خلاصا في هذا العالم؟ جوهرا لا ينفصل عن السؤال في مدى إمكانية تحويل مصح للأمراض النفسية إلى وطن بديل لأهله. ولن يقلل من قسوة العالم هنا ذلك الرصد الرهيف والشفاف الذي قدمه الروائي علي عطا عبر لغة شديدة البساطة والمناعة في الآن نفسه.
فعل الكتابة هنا يقاوم مظاهر شتى للمأساة الإنسانية. فالراوي يتزوج بامرأتين أولاهما نتاج حب مراهق لواحدة من بنات الأهل، والثاني نتاج حب يرتق فجوات روحية لم يرممها الواقع أو التجربة، ثم يتحول الحب نفسه إلى فجوة مريعة تنتهي بشكل عاصف، في مناخات من الإدانة الاجتماعية القاسية من الزوجة الأولى ووسط مناخات من الغيرة المُمِضَّة تصل بالأم إلى الغيرة من ابنتها، ثم مرض الحفيدة وابن الأخ بالسرطان في توقيت متزامن، يعقب ذلك موت مفاجئ للأم على ما تجلبه سيرتها من شجن يفتح خزانة غير متناهية من الأسرار في حياة الراوي الذي كان مضطرا للعمل أجيرا لقاء قروش زهيدة منذ أن وطأت قدماه هذا العالم لكي يعين الأم على معاش تخلى عنه أب يزداد اضطرابا قدر ما تتبدى صورته شبه الزوربوية في ظهوره واختفائه وحبه للغناء في وقت كان يتمنى فيه أن يكون مطربا شعبيا. ولا يمكن لقارئ الرواية إلا أن يتوقف أمام سؤال يبدو عابرا عن صورة الخال المستعادة أمام نصب الشهيد في مدينة المنصورة حيث كان ابتعاثه هنا ميلادا لمفارقة تفصح عن نفسها في دعوة ذلك البرلماني للسفير الإسرائيلي إلى زيارة ذات طابع عائلي في ذات المدينة التي لم تمحُ السنون أسماء شهدائها. تلك الإشارة كانت بابا ليكشف الراوي عن موقفه السياسي من تجليات عدة لثورة يناير وإدانة الكثير من الأداءات سواء كان يمثلها الجيش أو يمثلها الإخوان المسلمون أو القوى السياسية.
فعل الكتابة هنا كنوع من الخلاص يبدو متضائلا أمام كثافة المشهد الإنساني وإعتامه وفرط قسوته، ربما هذا ما دفع الراوي إلى القول بأن كتابا كثيرين انتحروا رغم أنهم لم يتوقفوا عن الكتابة. وقد حاول الطاهر يعقوب أقرب أصدقاء الراوي الإجابة عن تلك التساؤلات في إحدى رسائله حيث يقول: "البوح هو الكلمة المفتاحية هنا. ولكننا في اللحظة نفسها نكتشف صعوبة هذا البوح وامتناعه، إذ إن المردود المتوقع قد يبدو مهددا لوجودنا المعنوي وربما المادي كذلك، ويقوي هذا الاحتمال في ظني لحظة ندرك أننا نستند عادة على نسيج واه من الصداقات في عالم تحكمه المادة أو المصلحة أو البنى الأخلاقية، وقد تشكل الكتابة هنا حلا لكن الكتابة في حد ذاتها عملية شاقة وعسيرة".
لكن الطاهر يعقوب سيكون مضطرا أن ينبه الراوي في رسالة أخرى إلى أن من عاشوا بالكتابة أكثر بكثير ممن انتحروا رغما عنها. الكتابة بهذا المعنى تطرح عدة أسئلة لا تتخلى عن أخلاقيتها فهي بطبيعتها تعزز القيمة الفردية بشكل يجعل من الكاتب استثناء، فهي سؤال كما، يقول فوكو، عن أهمية من يتكلم، وبالتالي عن أهمية ما يكتب، من هنا لم يكن غريبا أن ينتهي السؤال عن الكتابة إلى الاعتقاد، لزمن طويل، أنها حصانة ضد الموت، وهي اعتقادات بالية بكل تأكيد، وتصدم الكاتب يوميا بموت جديد. فكيف للكاتب أن يتحول، أمام هذه المكانة التي تخلت عن القداسة، إلى كونه استثناء؟ وأظن أن رواية "حافة الكوثر" أجابت عن الكثير من تلك الأسئلة واختارت انتماءها لتاريخ يقع خارج الأزمنة المستعارة.
لذلك يمكننا القول إن علي عطا الذي ولد بجوار "دار ابن لقمان" مسقط رأسه بمدينة المنصورة، لم تلفحه ريح الحكمة، ومن المؤكد أنه لو تلبس ثوب الحكمة لم يكن ليكتب تلك الرواية. فأدب الاعتراف لا يحتاج لحكماء قدر حاجته لمغامرين يؤمنون بدور الكتابة كفعل تطهري. وعلي عطا "الشاعر"، منذ ديوانه الأول، تبدو قناعته باللغة التحليلية عميقة بدرجة تجعل منه ساردا من طراز خاص. من هنا نستطيع القول إن رواية "حافة الكوثر" ظلت، على مدار قراءتها، تمثيلا لعزيف من نوع خاص.. عزيف يمكن وصفه بعزيف ما وراء المادة، أعني أن الروح التي تشبعت بها آلام السارد باتت خارج مفهوم الشعور كواحد من نواتج أو عوادم الوجود البشري، لذلك سيشعر قارئ الرواية أنه يذهب طائعا إلى كل منابع البكاء المكتوم، الذي صار عنوانا لتلك الكتل البوهيمية التي تولدها فوائض الألم.
إن الاجتراحات الإنسانية التي تقدمها الرواية في ارتباطها بأنماط حياتية تنطوي على كل هذه القسوة لم يكن لها أن تنتج ساردا. لذلك أتصور أن نجاح علي عطا في امتلاك مهارة الضغط على أعصاب اللغة ومهارة اصطياد وتراتبية المشهد السردي؛ مكنه في النهاية من صناعة تلك المسافة المحايدة والدقيقة التي تفصل عادة بين الرواية كبنية موضوعية تعيد صياغة مفهومنا عن الذات وبين التصورات التي تغري أصحابها بتقديس حكايات فاسدة.
هذا هو الفارق الذي سيتبدى لقارئ الرواية بين الكتابة كفعل احترافي وبين الكتابة باعتبارها محنة شخصية.