الجمعة 21 يونيو 2024

حديقة النهر الأخضر.. صفحة مصرية جديدة ومضيئة في ثقافة الجمال

فن16-1-2019 | 06:50

مع تدشين "حديقة النهر الأخضر" في العاصمة الإدارية الجديدة بمساحة تزيد على ألف فدان تكون مصر قد كتبت صفحة جديدة ومضيئة في "ثقافة الجمال" التي تعد الحدائق من تجلياتها بينما تدعو هذه الحديقة المصرية بمواصفاتها العالمية المبدعين لإبداعات جديدة على مستوى هذا الإنجاز الرائد في ثقافة المكان ككل. 


وكان رئيس مجلس الوزراء وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الدكتور مصطفى مدبولي قد شهد أمس الأول "الاثنين" بدء العمل بالحديقة المركزية "النهر الأخضر" بالعاصمة الإدارية الجديدة منوها بأن هذه الحديقة "ستجسد حضارة وتقدم مصر" وستكون إحدى الحدائق المميزة على مستوى الشرق الأوسط والعالم.


وأوضح الدكتور مصطفى مدبولي أن طول حديقة النهر الأخضر يصل إلى أكثر من 10 كيلومترات وتزيد مساحتها على ألف فدان مما يجعلها من أكبر الحدائق في العالم "وهي حديقة تحترم الطبيعة الطبوغرافية للمكان وتتناغم مع النظام البيئي العام وستوفر مناطق ترفيهية بمعايير عالمية وسيتمتع بها جموع المصريين من مختلف شرائح المجتمع".


وحديقة النهر الأخضر التي تتميز بالتنوع الكبير في الغطاء النباتي بما يعكس ثراء البيئة النباتية الطبيعية المصرية تشكل بحق إسهاما جوهريا مصريا في ثقافة الجمال وعالم الحدائق الذي حظى ويحظى بحضور ثقافي يتجلى في إبداعات الأدب والفن حتى يحق الحديث مثلا عن " حدائق الأدب وأدب الحدائق".


ولاريب أن حديقة النهر الأخضر في العاصمة الإدارية الجديدة تشكل "حاضنة جديدة للجمال في ثقافة المكان المصري" فيما تقترن الحدائق في الذائقة المصرية بالحميمية والبهجة ومن ثم تتدفق جموعهم في الأعياد على حدائق شهيرة مثل الأورمان والأسماك والحيوان والزهرية والمتحف الزراعي بالدقي فضلا عن حدائق انطونياديس بالأسكندرية والنباتات بأسوان وغيرها من الحدائق العامة على امتداد الخارطة المصرية.


وأصدرت مكتبة الإسكندرية كتابا بعنوان "حديقة الأورمان النباتية" ليكون باكورة سلسلة ثقافية لتوثيق الحدائق المصرية التي تحظى بأهمية تاريخية وجمالية مميزة فيما يشير هذا الكتاب إلى أن حديقة الأورمان التي أقيمت عام 1875 استوحت نموذج "غابات بولونيا الباريسية".

 
ويأتي تدشين حديقة النهر الأخضر في وقت تشهد فيه مصر اهتماما واسع النطاق بالحدائق كعلامة أصيلة في ثقافة الجمال حيث تعكف "اللجنة القومية لحماية وتطوير القاهرة التراثية" على إنجاز عملية "إحياء حديقة الأزبكية وإحياء وتوثيق النباتات في هذه الحديقة القاهرية الشهيرة والتي يتردد اسمها في كثير من الكتابات الثقافية التاريخية".


وفي عقود مضت بالقرن العشرين شهدت حديقة الأزبكية حفلات لكوكب الشرق أم كلثوم فضلا عن بعض مشاهير الطرب والغناء العربي مثل عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش بينما بدأت المرحلة الأولى لمخطط تطوير هذه الحديقة التاريخية في العام الماضي.


ويتضمن هذا المخطط إعادة استزراع الأشجار والنباتات النادرة وربط الحديقة بالمسارح المجاورة وإعادة إحياء "كشك الموسيقى" وتنظيم الحفلات الفنية والثقافية بحيث تعود "حديقة الأزبكية مركزا ثقافيا وفنيا" حسب تصريحات صحفية لرئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري المهندس محمد أبو سعدة.


وكذلك يجري العمل على قدم وساق لتطوير حدائق تاريخية مثل "حديقة الأندلس" التي تعد من أعرق وأقدم الحدائق في القاهرة الكبرى ، وحسب تصريحات منشورة لرئيس مجلس إدارة الحدائق المتخصصة محمد سلطان فإن عملية تطوير شاملة تجري لحديقة الأندلس "التي تعد من الحدائق التراثية في مصر" ، موضحا أنه تم وضع خطة لإعادة الحديقة إلى الشكل الذي كانت عليه عند بداية إنشائها عام 1929.


وإذا كان بعض المثقفين قد طالبوا من قبل بحماية المتحف الزراعي المصري والمساحة الخضراء المحيطة به لافتين إلى أنه "يعتبر أول متحف زراعي في العالم" فها هي الاستعدادات النهائية تجري على قدم وساق لافتتاح هذا المتحف الذي يضم عشرة مبان ، من بينها "المقتنيات التراثية والقطن والزراعة في العصر اليوناني والمجموعات العلمية والمجموعات النباتية والزراعة المصرية القديمة والمكتبة الثقافية التي تحوي كتاب وصف مصر".

 
وكان الدكتور عز الدين أبو ستيت وزير الزراعة واستصلاح الأراضي ووزير الآثار الدكتور خالد العناني قد قاما مؤخرا بجولة تفقدية بالمتحف الزراعي حيث سيتم اختيار بعض القطع الآثرية بهذا المتحف لعرضها "ضمن سيناريو العرض المتحفي للمتحف القومي للحضارة المصرية" الذي من المقرر افتتاح ثلاث قاعات منه منتصف العام الحالي بعد تطويره.


وتشكل حدائق في مدن مصرية مثل "حديقة الملاحة" في الاسماعيلية دلالات تاريخية ووطنية باعتبارها شهدت أحداثا مهمة في التاريخ الحديث للمصريين مثل حفر قناة السويس وحرب الاستنزاف كما تضم مدينة أسوان "جزيرة النباتات" التي تعد من أندر الحدائق النباتية في العالم ، فيما أفادت تقارير بأن "خطة ستوضع لتطوير حديقة انطونياديس" التاريخية في الأسكندرية.


وإذ يقترن التاريخ المصري المديد بنباتات مصرية ومنها زهرة اللوتس المصرية الأصيلة" فإن "واحدة من حدائق اللوتس النادرة أقيمت داخل نادي المعادي ، كما أن إحدى الجمعيات الخاصة أقامت بجوار هذا النادي حديقة أخرى جميلة لتربية زهرة اللوتس المصرية".


وإذا كان الأدب نافذة تطل على الحياة بكل ما فيها ، وإذا كانت الثقافة في أحد معانيها تعني رؤية ما للحياة والوجود فإن المفكر المصري العملاق عباس محمود العقاد قد ذهب إلى شييء من هذا عندما قرر عقد ندوته الأسبوعية في باديء الأمر بجزيرة الشاي في حديقة الحيوان بالجيزة ، وكان يطيب له أن يداعب رواد ندوته بتشبيه كل منهم بحيوان بعينه اعتمادا على فراسته في المطابقة بين حيوان معين وواحد من رواد الندوة وقد بدأ العقاد بنفسه واختار أن يكون زرافة وأحسن الاختيار كما يرى الكاتب وديع فلسطين!.


وعندما أصدر الكاتب الراحل طاهر الطناحي كتابه "حديقة الأدباء" آثر أن يصور الكاتب الكبير توفيق الحكيم في صورة عصفور ربما استيحاء من روايته "عصفور من الشرق" وحرص الطناحي أيضا على أن يختار لكل أديب حيوان أو طائر يناسبه.


وهكذا فإن طه حسين "كروان" وعباس محمود العقاد "عقاب" والعالم الأديب احمد زكي "ديك" وعزيز أباظة "بلبل" والشاعر ابراهيم ناجي "سنجاب" واحمد لطفي السيد "نسر" والشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة "طاووس" وفكري أباظة "بولدوج" ومحمود تيمور "هدهد" وأمير بقطر "ابو قردان" أما احمد رامي ففراشة وأمينة السعيد "زرقاء اليمامة".


ولئن كان الأديب والكاتب اللبناني الأصل وصاحب الحضور الثقافي المتوهج في فرنسا أمين معلوف يحث في رواية "حدائق النور" الإنسان المعاصر على البحث عن "المادة المنيرة" في كل فكر فإن كتاب:"أرض خضراء وطيبة" لأروسولا بوكان ويتناول دور الفلاحين الانجليز أثناء الحرب العالمية الثانية مع تركيز واضح على فكرة تحول المواطن العادي إلى مزارع لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء قي زمن الحرب. 


وهكذا ظهرت فرق "فتيات الأرض" لتحل محل المزارعين الرجال الذين جندوا في الجيش ، فيما تسرد مؤلفة الكتاب وهي متخصصة في البستنة الكثير من القصص حول تحويل الحدائق والبساتين وحتى مشاتل الزهور إلى حقول لزراعة المواد الغذائية الأساسية "لأمة في حرب".


ورغم شعور اورسولا بوكان بالأسى حيال ما حدث أيامئذ في بلادها من تحويل حدائق الورد لحقول بطاطس فإن ذلك يشكل جزءا من ثمن النصر دفعه الإنجليز عن طيب خاطر ومن أجل مستقبل حافل بالورود!.

وقد تقترن بعض الحدائق الشهيرة بعالم السياسة كما هو الحال بالنسبة "لحديقة الورد" التي يطل عليها المكتب البيضاوي بالجناح الغربي للبيت الأبيض في واشنطن والتي يظهر بها الرئيس الأمريكي وضيوفه في المناسبات الخاصة.


وإذا كانت "حديقة الورد" أقيمت في البيت الأبيض عام 1902 على طراز الحدائق الأمريكية في القرن الثامن عشر فإن الكاتب محمد سلماوي يقترح إقامة حديقة للوتس في مصر "تستدعي أمام ضيوفنا تاريخنا المجيد من خلال ذلك الرمز الجميل الذي جسد رقي الحضارة المصرية القديمة".


وإذ أوضح أن المتحف الزراعي المصري في منطقة الدقي"مجمع متحفي متكامل يتكون من سبعة متاحف كل منها له مبناه الخاص داخل حدائق المتحف" دعا سلماوي وزارة الزراعة لإقامة بحيرة جميلة في حدائق المتحف الزراعي لتنمو فيها زهرة اللوتس الرقيقة .


ومن بين المباني السبعة في المتحف الزراعي المصري هناك مبنى يحوي أعمالا فنية خالدة تصور المشهد الزراعي المصري ولوحات لفنانين عالميين إلى جانب رواد الفن التشكيلي المصري مثل محمود سعيد وراغب عياد.


والآن فإن بعض الحدائق البديعة في بريطانيا تستضيف معارض فنية مثل حدائق ضيعة "واديسدون" بقصرها الارستقراطى في مقاطعة باكينج هامشاير فيما يتطلع مثقفون مصريون لمثل هذا النموذج في الحدائق العامة بوطنهم.


وكثيرا ما تحدث مثقفون عرب عن باريس بصورة أقرب للغزل فيما تحظى " حدائق التويليري" الباريسية بجانب كبير من هذا الشغف لبعض المثقفين العرب ، كما يبدي البعض إعجابا بحدائق نهر الراين في ألمانيا والروابي الخضر المطلة على النهر.


غير أن العشق كله يبقى من نصيب الحدائق الخضراء لنهر النيل الخالد حيث ملاعب الصبا والذكريات المتدفقة والخطى العاشقة على العشب الأخضر أو التأملات الحميمة على مقاعد خشبية وأسمنتية تتناثر بتلك الحدائق الباسمة..وها هي حديقة النهر الأخضر في العاصمة الإدارية الجديدة تلون أحلامنا المصرية باللون الأخضر وتكتب صفحة جديدة ومضيئة في ثقافة شعب يعشق الجمال والخير رفيق خطواته وبالعمل الحق يعانق المستقبل.