الأحد 23 يونيو 2024

شرارة التغيير وقوقعة الماضي

30-3-2017 | 11:03

سعيدة تاقي - كاتبة من المغرب
لنقُل في البداية بكثير من البساطة الموجعة إن التبعية نتيجةٌ حتمية لغياب الاستقلالية الاقتـصادية والاجـتماعـية ومن ثم الاستقلالية السـيـاسية والـفـكريـة وغيرهما. فالتابع لا يملك حق الاختيار المستـقل والحر سواء على مستوى الأفـراد أو المجـتمعات أو الـدول أو الأمـم. وما يصدق على الاخـتـيار الـحر يصدق على كل أفعال التـفـكـير والتـخطـيط والتدبير والتسيير. إن من يُحصَر وجُودُه أو يَحصرُ وجودَه في وضعية الظل لغيره لن يستطيع بالطبع في غياب ذلك الغير أن يكُونَ حقيقة بالقوة والفعل. لأجل ذلك يتمايز رد الفعل الطبيعي بين أمرين إما الاستسلام للتبعية المطلقة بخنوع وتصالح تامين، أو المقاومة والانتفاض والتحرر. لكن هل يستطيع التابع/ـة فعلا أن يتكلم/تتكلم؟
  لقد طرحت غياتري سبيفاك المفكرة الهندية البنغالية والمدرّسة الجامعية بالولايات المتحدة الأمريكية ذلك السؤال سنة 1983 في أعقاب تفاعلها مع إقدام إحدى قريباتها على تنفيذ طقس "الساتي". وهو طقس تفرضه تقاليد المجتمع الهندوسي يقتضي أن تعبّر الأرملة عن وفائها لزوجها المتـوفى بالتضحية بنفسها وحياتها، والإقدام على الانتحار احتراقا مع رفاته. وكان تساؤل سبيفاك تحليلا نقديا يغوص في العبور الثقافي الذي يستدعيه "التمثيل" من احتكار واستبداد وترسيخ؛ بحيث يلتبس صوت "التابعة" في واقع الهيمنة الذي تحياه النساء السمراوات بأصوات من "تَـدينُ" لهم بالتبعية، بالنظر إلى أن الانتداب البريطاني حظر هذه العادة سنة 1829. مما دفع غياتري إلى القـول بمـرارة، وهي لا تخفي ما تكشفه اللغة من وعي مـضاد يـضاعف حجم الــمأسـاة ويعمّـق وضع الهيمنة: "الرجال البيض أنقذوا النساء السمراوات من الرجال السمر". ففي احتـفـاء "الـساتي" واقـعُ السيـطرة الذي تخضع له السـمـراء المغـلـوبة على أمرها مـتـعـدّد ومتشابك، تتضافر فيه ما تمارسه السلطة الاستعـمارية (الإنجـليزي/الأبـيض) واالسلطة المجـتـمعـية (التـقـاليد والأعـراف الهـنديـة) والسلـطة الـذكورية (الـهـندي/الأسـمر) من تملُّـك للـقـوة والسـطـوة والصـوت والقرار، قبل الاستعمار وأثناء الاستعمار وبعد جلائه.
بعد ست سنوات من زمن الانتفاضة في المجتمعات العربية "التابعة" والمغلوبة على أمرها بوضع اليد الذي جذَّرَه حُكَّامها ورؤساؤها وملوكها وساستها، ما الذي تغيّر على مستوى محرّكات الانتفاضة اجتماعيا واقتصاديا؟ وهل امتلَكَتْ/تملـكُ "التابعةُ" المغلوبة على أمر أنوثتها داخل مجتمع يغرق في ذكورته ويسـتبد باستحقاق "ذكورته" ذلك، ويستدعي كل ما من شأنه أن يسند تلـك "الذكـورة" من خطـابـات دينـية أو ســياســية أو اجـتـماعـية، وممـارسات طقـوسـية أو عرفية أو شعـبية، وتمـثيلات رمـزية وثـقـافية وحضارية أنْ تتكلَّمَ وتنتفضَ فـتُـغـيّرَ؟
لا شك أن الـنـظـر الشـمـولي قد يقـصي الاستـثـناءات القلـيـلة المضيـئة هنا أو هناك. ولا شك أن الاستقراء الجزئي لن يُلْغي مساحات الأمل المعدي أو امتدادات اليأس القاتل وفق العينات المُعتد بها في الانتقاء والنظر والتحليل.
لكن صوت السمراء أعلاه يدعونا إلى متابعة طقس "الساتي" الرمزي الذي تحياه المرأة/الإنسان في كل تلك البقاع الجغرافية الممتدة هوياتيا وحضاريا وثقافيا تحت مسمى انتفاضات الربيع العربي دون إغراق في القياس لأنه بالضرورة لن يَعدَم فوارقه هنا أو هناك.
هل تغيَّر وضع الإنسان/المرأة بعد الحراك عما كان قبله؟ وهل تمكَّـنت الروح الإنسانية المؤمنة بالكرامة والحرية والمساواة أوَّلا أثناء الحراك من إحداث القطيعة التاريخية بين ماكان عليه الحال في "الماقبل" وما آل إليه الحال في "المابعد". قد تكون الأسئلة نافذةَ الرؤية ببصيرة تحتضن الإجابات دون حاجة للجري خلف التفاصيل. فالأسئلة أحيانا تُـبصر أكثر مما تستطيعه الأجوبة من اقتراحات مرحلية وآنية محكومة بالاشتراطات الظرفية وبالإكراهات البشرية وبالخلفيات التحيُّزية. لكن الواقع المعيش لا يفتقر إلى روائز للتحقق أو معايير للتأمل أو مختبرات للفرز. 
عاد الدين إلى الواجهة ليس بوصفه دينا أو ممارسة عقدية، بل بوصفه ممارسة سياسية واجتماعية لها الوجاهة والواجهة في شكل "عرض متباهي" بمفهوم أوليفييه روا. فسيطر المد الإخواني السلفي الأصولي على صناديق الاقتراع في أول انـتخابات بعد الانتفاضات. وحظيت الصناديق بدعم شعبي كبير لجماهير ترى "الدّيني" معادلا لـ "الحل" أو للاختيار الأفضل على جميع المستويات والأصعدة. فيكـفي في مواقع الاستقبال والتلقي لدى هذا الجيش الانتخابي ـ المختَزَن ضمن أنظمة تعليم استبد بها الحُكّام لصنع "المواطن الأصلـح" لديمومة بقائهم في سدة الحـكم ـ يكفي الترويج سياسيا واجتماعيا لرداء "التديُّن" وبعض الخشوع لجعل الصوت الذي يصرخ بخطبه "الضَّاجة" بالانفعال والغضب فَرَسَ انتخاب فائزا.
 و تراجعت مشاركة الأصوات المؤنثة في بعض أقطار امتداد الربيع عما كانت عليه في الحراك، وفيما استتبعه ذلك الحراك من تدبـيـر وتسيـيـر سياسيين واجتماعيين، بل أحيانا تراجعت الحقوق والأوضاع وغدت المعارك المفتعَلة تستغل الجسد المؤنث في التلويح بإنزال الحراك الإنساني وتفعيل ذلك الإنزال إلى معترك أخلاقي قيمي ينتهك حرمة الشرف والجسد والحرية، في تصغير مقرف وهدم لكل ما تقتضيه العدالة الاجتماعية والمساواة في هوية "الإنسان" وجوديا قبل أية هوية أخرى.
وعُدَّت القضايا الاجتماعية التي رفعت من أجلها الشعارات والتي كان فيها الإنسان المرأة والإنسان الرجل صوتين يصدحان جنبا إلى جنب من أجل نفس المطالب، عُدَّت مطالب نخبوية/فئوية لا تشغل عموم المجتمع (الذكوري/الأبوي) وفي معظمها وافدة من أمم أخرى "نصرانية" أو "كافرة" أو "لها قيمها ومنظوماتها الخاصة بها" في أحسن الأحوال.
وغرقت بعض البقاع في بحار الدماء والأحقاد، مثل البقاع الأخرى التي سبقتها منذ سنوات عديدة، بين تجار السلاح ومجرمي الحروب وقلاع الفتن ومجانين العظمة، وغدا الإنسان/ المرأة للمرة "الـــ...." في الألفية الثالثة غنيمة معركة وسلعة بيضاء تباع في سوق النخاسة أو سبية ينتهك جسدها وإنسانيتها تحت مسميات لا فائدة من تتبعها.
واكتسحت الشاشات والقنوات وجوهٌ وأقنعة و"بطلات" و"أبطال" تعتمد بالـواضح "الفـاضح" و"البلـيـد" العـودة إلى التشكيك في الحاجة إلى العـدالـة الاجـتماعية بين الجـنسـين، وفي مطالب الكرامة والحرية والعدل من منطـلقات مـعـادية لأي استحـقاق تحريري للعـقـل أو للثقافة، أو تحرُّري للـفكر وللإعلام. فالـنـظام الذكـوري الأبـوي المستبد يبـحث عن دعائـمه وشـركائـه المفترضين الذين لا يستنكـفون، بعد التواطؤ على احتكار فوائـد الانـتـفـاضة لـصالح حسابـاتهـم الـخاصة بتصفـية أصوات "الـثـائـرات" و"الـثوار" مـاديـا ومعنويا ورمزيا، وتشتيت قوتهم وتقوية ضعفهم، على ضمان استمرارية استبداد ذلك النظام ودعائمه وشركائه بتلك الفوائد واحتكارها.
وتفشَّت في عوالم شبكات التواصل الاجتماعي التي كانت من منابر التخطيط والتنظيم والتعبئة والتسيير والمتابعة والتصعيد قبل الحراك وأثناءه وبعده، وتيرة اشتغال آخر تطعّمه الأدوات الاستخباراتية والعمل القبلي الاستباقي. فغدت الشبكات وسيلة استخباراتية استـباقـية، تصنع "النجوم" وتعبئ الأفكار وتحشد الرأي العام وتوجه الاهتمام والانشغال وتتحكم في الجماهـير، بل إنها تصنع القضايا والأولويات وتخلق لكل فئة "مجتمعية" "شيخها"/"قائدها" "Idol" الذي ستدين له بالإعجاب والمـتابعة أولا، ثم بالـولاء والتـبعية لاحقا، ثم بالإيمان والخضوع في المنتهى. وكان ضروريا أن تتحقق "المساواة" و"العدالة" في مستوى الاصطفاء والتصنيع بين الجنسين، بل منحت "الأفضلية" في كثير من الأحيان على اختلاف التحـيُّزات والأعمار والرؤى لـ"الأنثى" فذاك أدعى للتصديق (لأن شبهة "العَمالة" ليست قـوية الافـتراض أو الـورود) واحتمالات تحقيق الإغراء والإغواء والتجييش والتـأديـب والعقـاب والتـوريط حينها لا تقـف عند المتلقي المستَقطَب الغُـفل، وإنما تترصَّد صفوف الأصوات والوجوه التي صنعت الحدث من داخل الحراك أو شاركت فيه أو دافعت عنه.
تغيَّر الشيء الكثير في واقع ما بعد الانتفاضة، أو لم يتغيَّر شيء على الإطلاق، أو ساء الوضع أكثر فأكثر. الاحتمالات كلها صحيحة وفق العينة المتخذة للتحليل والتأمل، لكن هل تغيّر الإنسان؟
في حراك عالمي سابق كانت العبارة الشهيرة "شرارة واحدة كافية لإشعال السهل" شرارة أخرى تشحذ الهمم وتقوي العزائم في ساحات المعارك تحت النيران. يبدو أن شرارة "الربيع العربي" المفترض قد تمَّ خنقها وأحكمت عليها قوقعة التديُّن السياسي من جهة والوصاية الأبوية الذكورية من جهة ثانية. ويبدو أن التغيير لاحق للحظة الردَّة التي يشهدها الواقع على الصعيد الفكري والثقافي والسياسي قبل الاجتماعي والاقتصادي، فالـخطوة نحو الخلـف السلفي وعودة الدين إلى الواجهة المظهرية واستغلال حاجة الإنسان الطبيعية إلى الدين سياسيا، كل ذلك يشي بأن التاريخ الحاضر بعد لم يصفّ حساباته مع أرصدة الماضي، وما زالت تكمن في العمق حاجات ملحة إلى إعادة بناء "إنسان الحاضر" الذي يعتدُّ بجذوره وهو ينتمي إلى الإنسانية جمعاء دون أن يحبس أنفاسه ضمن قبور الأسلاف، ويؤمن بالانفتاح على اللحظة الراهنة معرفيا وعلميا وفكريا دون أن يعدَّ "جهله" المقدَّس (بمفهوم أوليفييه روا) الوحيد باسم سلَفٍ صالح وخلَفٍ تائه.