بشير عبد الفتاح - باحث مصري
منذ عرف المصريون إرهاصات الممارسة السياسية الديمقراطية، بمعناها الحديث، قبل قرابة قرن ونصف القرن، بدأت تتبلور بالتزامن تطلعات المرأة المصرية لأن تكون ركنا ركينا ودائما في تلك الممارسة عبر مباشرة حقها السياسي، تصويتا في كافة الاستحقاقات والاستفتاءات، وترشحا لتقلد مختلف المناصب التمثيلية والتنفيذية.
وبينما دأب المجتمع الدولى على اعتبار تحسن أوضاع المرأة، على مختلف الصعد، وزيادة فرص تمكينها بشتى الصور، أحد أبرز المؤشرات المحورية على تطور المجتمعات وازدهار ديمقراطية الدول، كان عالم السياسة الغربي الشهير "روبرت دال" يضع الانتخابات الحرة، النزيهة والدورية والمتواصلة ضمن الشروط السبعة التي من المفترض توفرها في أي نظام حكم ديمقراطي، باعتبارها آلية من آليات تطبيق المبادئ الرئيسية للديمقراطية، شريطة أن تضمن الانتخابات وكذا المجالس التشريعية النيابية المنتخبة التي تنبثق عنها، تعددية سياسية حقيقية تكفل تمثيلا حقيقيا ومتكافئا لكافة التيارات السياسية الرئيسية في المجتمع، مع مراعاة التمثيل الأفضل للنساء والأقليات في الدول ذات التعددية العرقية أو اللغوية أو الدينية، وذلك وفقا لقواعد النظامين السياسي والانتخابي المعمول بهما في تلك الدول.
وبمرور الوقت، بدأ وعى المصريين، حكومة وشعبا، يتفتق على أهمية وضرورة تمكين المرأة وإفساح المجال لتعزيز دورها السياسي باعتبار ذلك من مؤشرات الصحة المجتمعية والرقي السياسي والازدهار الحضاري. ورويدا رويدا، بدأت تتصاعد المطالب النسوية والمجتمعية من أجل تمكين المرأة من جهة، فيما باتت تتوالى إشارات التجاوب من قبل الدولة، على شكل قوانين ونصوص دستورية وإجراءات سياسية وإدارية، تنظم حقوق المرأة وتحميها من الجهة المقابلة.
غير أنه بدأ يتراءى للجميع، بمضي الزمن، أن الدساتير والقوانين التي تصدرها السلطات بهذا الصدد، علاوة على الإجراءات السياسية والتنظيمية التي اتخذت بالفعل لتعظيم فرص مشاركة المرأة سياسيا، ليست كفيلة وحدها بترسيخ دعائم حقوق المرأة في مجتمع ظل لعقود طويلة يستثقل وجود المرأة في العمل العام، خصوصا على الصعيد السياسي منه، حيث اتضح، بما لا يدع مجالا للشك، أن تمكين المرأة في هذا المجتمع، إنما يتطلب متسعا من الوقت يتخلله عمل شاق ودءوب ومواز، على المستويين الثقافي والفكري، بغية تأهيل المجتمع لتقبل ودعم ومساندة الحقوق السياسية للمرأة، بعد اقتلاع جذور الصورة الذهنية النمطية السلبية التي تجذرت في الوعى الجمعي لدى غالبية المصريين عن المرأة ودورها في المجتمع، والتي أسهمت في تشكيلها مدخلات وظروف اجتماعية وثقافية معقدة، تفاعلت فيما بينها وسط محيط غاية في القلق والاضطراب والتشابك طيلة عقود، أو ربما قرون خلت من الزمن.
وبرغم الجهود المضنية التي بذلتها، ومازالت تبذلها، الدولة المصرية بغية بلوغ ما اصطلح على تسميته "مأسسة النوع الاجتماعي"، أو "تمكين المرأة" كأساس للحياة السياسية على صعيدي الترشح و التصويت، بما يقود في نهاية المطاف إلى تحسين أحوال المرأة والنهوض بها وتعزيز حضورها في المشهد السياسي عموما، وفي بعده البرلماني تحديدا، يبدو جليا أنه لا يزال أمامنا في مصر الكثير لنفعله على صعد شتى من أجل الارتقاء بمستوى تمثيل المرأة في الحياة السياسية.
فلقد تراءى للجميع تواضع معدل تمثيل المرأة المصرية في كافة البرلمانات منذ سمح لها بخوض الانتخابات عام 1957، بعدما نصت المادة 61 من دستور 1956 على منح المرأة المصرية حق التصويت والترشح في الانتخابات العامة لأول مرة في تاريخ البلاد، فبموجب هذا الدستور استطاعت المرأة المصرية الحصول علي حقي التصويت والترشيح، وبدأت الحياة البرلمانية للمرأة المصرية عام 1957 حيث رشحت ست نساء أنفسهن للبرلمان فازت منهن اثنتان. وبدوره، وحرصا منه على تلافي أكبر قدر ممكن من المثالب التي اعترت الدساتير التي سبقته، خطا دستور 2014 خطوات إيجابية نحو إقرار المواطنة وحقوق المرأة، حيث تضمّن مواد تقرّ المواطنة والمساواة بين المواطنين المصريين وتجرم التمييز، وهو الأمر الذي تستفيد منه بطريقة مباشرة المرأة المصرية. وفي مسعى منه لتأكيد المساواة وعدم التمييز بين الرجل والمرأة، نص دستور 2014 في مادته الثالثة والخمسين على أن المواطنين "لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأى سبب آخر".
وإذا ما اتفقنا على أن برلمان 2015، قد شكل نقلة نوعية أو نقطة تحول فارقة فيما يتعلق بتمثيل المرأة، إذ نجحت في انتزاع 73 مقعدا، منها 55 مقعدا بالقائمة و18 مقعدا بالفردى، أضيف إليها 14 آخرون بعد استخدام رئيس الجمهورية حقه الدستورى لتعيين نسبة 5% من إجمالى تعداد أعضاء مجلس النواب، أى بواقع 28 نائبا كان نصفهم على الأقل من النساء وفقا للدستور وللمادة 27 من قانون مجلس النواب، ليصل بذلك مجمل أعداد السيدات في برلمان 2015 إلى 87 نائبة، من أصل 596 نائبا هم إجمالي عدد أعضاء مجلس النواب، ما يشكل نسبة15,1%، وهى النسبة الأعلى على الإطلاق لتمثيل المرأة في أي برلمان شهدته مصر منذ تمثيل المرأة للمرة الأولى كنائبة في برلمان عام 1957.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن المرأة المصرية قد ودعت إلى غير رجعة حقبة التمثيل المتواضع أو المتدني في البرلمان . ذلك أن معدل تمثيل المرأة المصرية في البرلمانات التي تعاقبت منذ عام 1957 حتى عام 2012، ما برح يدور في نفس إطار المعدلات التقليدية المتدنية المتعارف عليها، والذي يتراوح بين 2 إلى 3% فقط، ما يضع مصر في ذيل الترتيب العالمي لدول العالم لجهة معدلات تمثيل المرأة في البرلمان.
ولقد أثبتت خبرات الماضي أن الارتكان فقط على عوامل قانونية مساعدة كمبدأ "الكوتا النسائية" (تخصيص نسبة من المقاعد في البرلمان للنساء) لن يكون كفيلا وحده بإيجاد حلول نهائية وناجزة وطويلة الأمد لتلك المعضلة . فها هى الأرقام والبيانات الدقيقة قد أظهرت، بما لا يدع مجالا للشك، أن ما حصلت عليه المرأة من مقاعد في برلماني 1979 و1984، والتي تم تطبيق نظام التمييز الإيجابى أو "الكوتا النسائية" على الانتخابات التي تمخضت عنهما، إنما يفوق ما حصلت عليه في جميع البرلمانات السابقة التي شاركت فيها مجتمعة، والتي لم يكن يطبق فيها ذلك النظام. كما ظهر بجلاء أن الطفرة النسائية التمثيلية في مجلس النواب الحالي، إنما يعود الفضل الأول فيه للنظام الانتخابي، الذي أعطى مزايا تنافسية تفضيلية عديدة للمرأة، كان في القلب منها نظام "التمييز الإيجابي".
ولعل الأمر يتطلب جهدا تكامليا وشاملا ويتخطى حدود التشريعات والقوانين، بحيث تتضافر تحركات الدولة والمجتمع المدني وتمضى بالتوازي نحو الغوص في المساحات الثقافية والأدغال القيمية والغياهب الاقتصادية والاجتماعية التي تتحكم في مسار الحياة اليومية كما السلوك التصويتي للمصريين عموما، والمرأة من بينهم على وجه التحديد.
ومما يبعث على الأمل، أن هذا الدرب، برغم وعورته، لا يخلو من ضوء خافت في نهايته، يشي بأن تزايد وعى المصريين، مجتمعا ودولة، بمدى أهمية قضية تمكين المرأة وتعزيز حضورها في الحياة البرلمانية، إنما يعد بداية مشجعة على إمكانية استكمال المسيرة والوصول بالدور السياسي للمرأة إلى المستوى الذي تستحقه، ويليق ببلادنا، التي تتوق إليه في حاضرها ومستقبلها، أكثر من أى وقت مضى، شريطة أن نتحرر جميعا، خصوصا المرأة، من إسار النظرة الاختزالية الضيقة للمشاركة السياسية للمرأة، والتي تحصر تلك المشاركة في عدد المقاعد التي تتحصل عليها في كل برلمان، في حين لا يمكن لدور المرأة في الحياة السياسية أن يقاس فقط بحصتها البرلمانية، بقدر ما يتسع ليشمل تأثيرها الفاعل في مجريات العملية السياسية وإسهامها الملموس والمتواصل في مسيرة التطور الديمقراطي.