سعد القرش
من مهد الثورات «تونس»، إلى مصر واليمن وسوريا، يسهل تسليط الضوء على الجسد عنوانا للثورة، وجذبا للقوى الرجعية في إصرارها على الانتقام من جسد المرأة. في أيام صعود الثورة لم يشهد ميدان التحرير والطرق المؤدية إليه واقعة تحرش، أو مساسا بجسد أنثى. كنست ريح «جمعة الغضب» هذا الغبار غير الآدمي من نفوس المشوهين، فتسامى البعض منهم إلى حين، وربما انتظر ثغرة تعبر منها قوى الثورة المضادة سواء في «موقعة الجمل» وعقب إعلان خلع حسني مبارك، فصار الثأر أعمى، قتلا وتحرشا يبلغ درجة القتل العمد.
بين «جمعة الغضب» وعزل مبارك أسبوعان من الزهو الإنساني والثوري. لم تخل أيام الكبرياء تلك من مشاهد ينبغي استعادتها. صباح 8 فبراير 2011، في أول شارع شامبليون، جلست على الرصيف امرأة في الأربعين، تبدو عليها أمارات جمال مغدور، ينقصها ربيع كهذا يزيح سحابات الهموم وآثار الغاز المسيل للدموع والأسى، ويعيد إلى روحها البريق. حولها طفلان ينظر أكبرهما إلى السيارات في شارع عبد الخالق ثروت، ويتناول الصغير بعض الكشري. قدرت أنها زوجة شهيد، أو أم شهيد من أولئك الذين لم يتجاوزوا العشرين. أسند الطفل الكبير قطعة من الورق الكارتوني المقوى إلى سيارة ربما تركها صاحبها في الشارع منذ اندلاع الثورة، وتناول من أخيه طبق الكشري، واللافتة مالت وانكبت على وجهها، فعدلها ولم يسندها، وظلت تنظر إلى السماء، «هتنخلع هتنخلع ولو من غير بنج»، وهما لاهيان عنها بلقمة ربما لا يجدان مثلها في الميدان. كانت الكلمات مكتوبة بخط متواضع، ولم أسأل الطفل الكبير هل كتبها بيده؟ أم أملاها على عابر سبيل؟ أم تطوع جار لهم بكتابتها؟ ست سنوات تكفي لإنضاج وعي ابنيْ تلك الأرملة التي تدخرهما لموجة لعلها تكون هادرة وأخيرة.
في «موقعة الجمل»، الأربعاء 2 فبراير 2011، كادت الثورة المضادة تنتصر، مهد لذلك مبارك بخطاب عاطفي قبل ساعات، وتصريح إلى كريستيان أمانبور مذيعة شبكة (ايه بي سي نيوز) الأمريكية، قال فيه: «مازلت أشعر بأنني قوي». جمال مبارك حضر المقابلة التي لم تكن تخص الشأن العائلي، أو خلافا بين نساء الأسرة الحاكمة، وإنما تتعلق بمصير البلد في لحظة فارقة، فبأي صفة حضر الوريث مثل هذا اللقاء؟
في 11 يوليو 2012 قرأ ممثل النيابة في المحكمة عريضة اتهام وأسماء الضحايا. لم تكن بينهم «مي أحمد». كتبت رسالة إلى منظمة حقوقية تفاصيل عملية قتل الفتاة، واسميْ شاهدتيْ الواقعة، ولم يرد المسؤول؛ فلن يؤدي أخذ حق شهيدة فقيرة مجهولة إلى مجد مهني أو إعلامي أو تمويلي. وقد سجلت في كتابي «الثورة الآن» شهادة «ناني علي»، وهي مصممة جرافيك نشطة مع زميلات وزملاء تشكيليين في الميدان بعيدا عن الانتماء إلى تيار. كانوا يذهبون إلى أعمالهم، ثم يأتون مساء إلى الميدان، ولكنهم يوم «موقعة الجمل» قرروا الاعتصام. في الثانية ظهرا تلقت مي أحمد (19 عاما) قذيفة من الحجارة أصابت رأسها. لم يكن بالقرب منها أحد من حي روض الفرج الذي جاءت منه، فحملتها ناني علي ومها عزمي وهي تنزف، وبسرعة توجهتا بها إلى مستشفى الإسعاف، كانت تنزف وفي المستشفى توقف النزيف والحركة. ولا يزال لدى الفتاتان القميص الذي يحمل دماء الشهيدة، ولولاهما لصارت مجهولة الاسم، مثل الكثيرين، وأبرزهم «الشهيد المبتسم» في جمعة الغضب.
لم ينل «مي أحمد» بعضٌ من حظ شهيدات وثق التاريخ أسماءهن.. شفيقة محمد أول شهيدة مصرية في ثورة 1919، ومن لحقن بها من الشهيدات: سيدة حسن وعائشة محمد (من حي عابدين)، وحميدة خليل (من حي الجمالية)، وعائشة عمر (من حي بولاق)، وفهيمة رياض (من حي باب الشعرية)، ونعيمة عبد الحميد (من الجيزة)ـ وفهيمة دهمان (من الإسكندرية)، ووحيدة سليمان (من الفيوم)، والشقيقتان فائقة وبخيتة عبد الله الشامي (من أسيوط). من حسن حظ شهيدات ثورة 1919 أن التاريخ وثق أسماءهن، واحتفظ باللعنات لجنود الاحتلال البريطاني وللسير «ميلن تشيتام» القائم بأعمال المندوب السامي البريطاني، في حين برأت المحكمة، في 10 أكتوبر 2012، جميع المتهمين في موقعة الجمل.
كان آخر تجليات الخائفين من الحرية، من أنصار النظام القديم المنكر لحقيقة خلع رمزه الحاكم، إفساد الفرح بجريمة قتل كادت تكتمل. إذ انطفأت إضاءة كاميرا «لارا لوجان» مراسلة محطة تلفزيون (سي. بي. إس) الأمريكية، وهي تسجل لحظة النشوة بذهاب مبارك مساء الجمعة 11 فبراير، فانقض عليها الغوغاء في طرف من ميدان التحرير، وعزلوها عن فريق برنامج (60 دقيقة)، ونزعوا ثيابها، متجاوزين التحرش إلى عدوان جسدي اقترب من القتل، لولا أن تمكن جنود ونساء من إنقاذها.
النجاح الجزئي للثورة أغرى اليمين الديني بثورة مضادة على ما تحلم به المرأة، والتهام ما حققته النساء من مكاسب منذ ثورة 1919. ومن جديد ثارت المرأة على ما أعد لها، وكان صوتها الواثق أعلى من أصوات منكرة تتحدث باسم الله، وتدعي النطق باسمه، وتجتر كلاما يسمونه «فقه النساء»، ينتمي إلى عصور تخص مجتمعاتها ولا تمثل جوهر الدين، وكلها هوس بالجسد، تدور حوله حياة وموتا، بما في ذلك مضاجعة جثة الزوجة الميتة، وإرضاع الكبير، وتزويج الطفلة مادامت تتحمل الوطء، وغزو بلاد «المشركين»، وسبي نسائهم وبيعهن، واحتقار جثة المسيحي؛ بالنهي عن المشي في جنازته وعدم تقديم العزاء لأهله، ويستأسد نائب رئيس الدعوة السلفية الطبيب ياسر برهامي عضو لجنة كتابة الدستور الإخواني الطائفي (2012)، ويقدم لإخوانه فتوى عنصرية، يحقق لهم بها معادلة الاستمتاع بجسد المرأة المسيحية مع عدم الشعور بالذنب، إذ يأمر المسلم بأن يظل على كراهيته لزوجته المسيحية، «(هل) كل من يغتصب امرأة بيحبها؟! أم يعاشرها فقط؟! يعاشرها من أجل جسدها فقط ولا يحبها في الحقيقة... (المسلم) مأمور هو كما ذكرنا بأن يبغضها... يقول لها أنه يبغض دينها بلا شك... يبغضها من أجل أنها كافرة... لو دخل البيت لا يبدأها بالسلام، لو له أولاد مسلمين يقول: السلام عليكم، وهو يقصد المسلمين. لا يبدأها بالسلام».
التطرف في فرض وصاية الرجال على المرأة، وتحصين جسدها بإلغائه ومحوه، أو إخفائه امتهانا بدعوى أنه جوهرة يسهل خدشها، أو طعام جاذب لمن في قلوبهم مرض، لا يختلف عن تطرف مضاد يعنى بتسليع الجسد، وتشييئه استعراضا، وإن كان الأخير لا يدعي الفضيلة، ولا يزعم امتلاك الحقيقة، ولكنه مجرد سلوك ينقصه الاستعلاء السماوي.
لا يشك رموز اليمين الديني في طبائع خطاب التطرف غير الديني غير الآدمي، وقد أدى إلى نزع الكثيرات للحجاب، وزيادة نسبة الإلحاد. ومن المضحكات أن يصر أحدهم في مناظرة شاب ملحد على أنه مشرك بالله، ويرفع صوته مهددا إياه بسوء المصير، فأيهما يسيء إلى الإسلام؟
حتى الثورات المغدورة، وآثارها الكارثية، ستكون في نهاية المطاف في صالح المرأة، وتدفع الكارهين والجاهلين للإيمان بالإنسان، وتجاهل مقولات تاريخية عن عدم فلاح من تتولى أمرهم امرأة، بعد ثبوت مخالفتها للمنطق والحداثة ونجاح «التجربة»، واستيعابها للهاربين من جحيم ديار الإسلام.