منذ اكثر من
خمسة وثلاثين عاما وأنا أكتب دون انقطاع , لا أظن أننى توقفت لحظة عن الكتابة ,
أكتب بالقلم وعلى لوحة مفاتيح الكومبيوتر وعلى جهاز المحمول , وأكتب أيضا دون كل
هذه الوسائط , نعم أنا أكتب شفهيا أو أكتب خياليا , وكثير من الموضوعات الصحفية
كتبتها كاملة تقريبا فى رأسى قبل أن يخطها قلمى , أكتب ماشيا أو واقفا أو راكبا أو
راقدا , أكتب فى يقظتى وأحلامى , فى صحوى ومنامى , بل أنى أكاد أجزم أننى كنت أكتب
أيضا فى المرات الثلاث التى خضعت فيها للتخدير تحت يد حكيم العيون المعروف د .
حازم ياسين .
أصبحت
الكتابة أسلوب حياة , أكاد أتنفسها شهيقا وزفيرا , أو استنشقها هواء وغبارا .. قال
لى البعض أننى أتحدث مثلما أكتب , وهم لا يعرفون أننى أكتب وأنا أتحدث , لا أكفر –
معاذ الله - بنعمة الكتابة , ولا أنكر فضلها أو متعتها بالنسبة لى , أو شعورى فى
أحيان كثيرة بالنشوة وأنا أمارسها , لكننى فى أحيان أخرى أجدنى مللت شكل الأحرف
والكلمات , غير قادر على تحملها أو راغب فيها , أو قل أنه الوصول إلى حد التشبع
والامتلاء , ومع ذلك أستمر مرغما أو مكرها أو مدفوعا بما هو أقوى من رفاهية الرفض
والاعتراض .
قد تكون
مسئوليات المهنة أو دواعى لقمة العيش أو التزاما تجاه شخص ما , أو حتى الرد على
الحبيب برسالة , فقط المهم أننى أكتب , مرتاحا أو مضغوطا , مهموما أو مبسوطا , فى
الوعى أو فى اللا وعى , فى أى مكان وتحت أى ظرف , المهم أننى أكتب صادقا مخلصا لم
أتنازل أبدا عن إيمانى بما أكتب مهما كان الهدف من وراء ذلك , المهم أننى أكتب لأننى إذا لم أفعل تسلط على – ربما – من لا يرحم
, أو على الأقل أصبحت متهما بالتقصير .
أقول الآن
قولى هذا لأننى فى المرة الوحيدة التى احتجت فيها الكتابة طواعية لم يسعفنى قلمى
أو تطاوعنى حروفى وكلماتى , هلك عنى سلطاني , ضاع منى بأس مهنتى وقوة حيلتى , وخذلتنى
كل سنون الخبرة والحرفة والصنعة , ويا للدهشة .. عند هذه الرغبة بالذات دون غيرها
يتجلى عجزى , ويتحلى عوزى , وأصبح كالطفل الصغير الذى لم يتعلم النطق بعد , أو قل
كالكهل الكبير الذى غاب عنه كل ما تعلمه فى هذه الحياة .
تخيلوا .. غابت
عنى أمى فى مثل هذا الشهر منذ ثمانى سنوات كاملة وأنا غير مستطيع أو قادر على
تسجيل إحساس لحظة الفراق , وكلما حاولت فى مناسبات عدة صغر أمامى كل ما أكتبه ,
وشخصت عيناى بعيدا عن حروف وكلمات وعبارات لا تليق بجلال اللحظة , ولا تصمد حيال
إحساس الفقد , ولا تعبر عن ذلك الحنين إليها الذى لم يفارقنى طوال كل هذه السنوات
, ولا تكفى لكفكفة تلك الدمعة التى تغلبنى فى كل مرة أحاول فيها .
هل ترونها
الآن فى عينى ؟
إننى لا
أستطيع الآن أيضا أن أكتب , وأظننى لن أستطيع أبدا .