بقلم : يوسف فكرى
منذ الخطوة الأولي علي طريق بدايته الفنية عرفته... كان صبيا أبرز صفاته اعتلال الصحة وتواضع الملابس والفقر الشديد والذكاء الأشد!
وبدعوة من الصديق الصحفى الفنان المرحوم يحيي نصار ذهبت لاستمع إليه علي مسرح دار الحكمة بشارع قصر العينى في سنة 1952 أو 53 لا أذكر علي وجه الدقة وكان ذلك في حفل كلية الصيدلة..
وقبل أن يظهر عبدالحليم حافظ علي المسرح فوجئت بمذيع الحفل يتقدم إلي الحاضرين برجاء حار بالاصغاء في سكون لأن مطرب الحفل الشاب يجفل من الاصوات المتصاعدة من الصالة ولا يستطيع الغناء إلا إذا كفت جميع الأصوات وسكنت الحركة!
وأدهشني هذا الكلام فمن يكون عبدالحليم حافظ هذا حتي يطلب الناس الكف عن الكلام والحركة للاستماع إليه في هدوء تام؟!
وقلت لنفسي لعلها مقدمة دعائية من مذيع الحفل...
ولكني ما لبثت أن تبينت الحقيقة فعندما بدأ صوت عبدالحليم ينبعث من خلال الميكرفون وهو يشدو بلحن «صافيني مرة» أدركت أن صمت الصالة كان ضروريا لمثل هذا الصوت الخفيض ولمثل هذه النبرات الرقيقة الدقيقة التي لولا الصمت لما تبين سمعي منها شيئاً.
ولاحظت أن المطرب نفسه كان في حالة سكون تام إلا من الأنفاس والصوت والمتصاعد من داخله فقد كان يغمض عينيه ويخفض رأسه ويمسك يدا بأخري خلف ظهره ولا شيء يتحرك فيه سوي رقبته وشفتيه كأنه كان يخشي علي صوته من أن تخدشه أي حركة تصدر منه هو فما بالك بما يصدر من الصالة من ضجيج؟
وأشهد أنه لم يشدني صوت عبدالحليم في ذلك اليوم بقدر ما شدتني طريقة أدائه الجديدة فقد كانت بحق طريقة أدائه غير مألوفة لنا نحن ابناء الجيل الذي تربي سمعه علي الأداء المألوف من زمن بعيد لفارس عصرنا الفنان المبدع محمد عبدالوهاب.
ومع ذلك فقد وجدت نفسي أغوص بآذنى وراء أداء ذلك الصبي الفذ!
ووضح لي منذ استماعي إلي الكوبليه الأول من الأغنية أن المطرب الشاب يهتم اهتماما خاصا بأداء القرارات وأن كنت لم استطع أن أفهم وقتها بدقة المنطقة أو الطبقة التي يغني منها وقلت لنفسي لابد أن أسعي إليه مرة أخري بل مرات...
وعرفت أنه يتردد علي معهد الموسيقي العربية وكان لي صديق حميم يعمل في المعهد هو العواد الاستاذ عبدالمنعم عرفه وتعللت بزيارته لاسأل عن عبدالحليم.... وهناك عرفني به الصديق الفنان ضابط الإىقاع المعروف وابن السويس - بلدتي - صالح الكراني.
كان عبدالحليم يومها في غاية الضيق يكاد يبكي من الغيظ لأنه قضي يومه بالإذاعة يناضل من أجل قبول إحدي أغانيه بالإذاعة...
وأخذت مع صالح الكراني نهديء من روعه وقلت له أنت مازلت في بداية الطريق فلماذا لا تستمع إلي كلام من سبقوك في التجربة... وتعدل اللحن وفق نصيحتهم..
ولمحت ثقة غريبة في عينيه وهو يرد: أنهم لا يفهمون فهم لا يرفضون اللحن إنما يعترضون علي طريقة الأداء يريدن اخضاعها لما هو سائر وأنا مصر علي ما أقدم...
وسألت عبدالحليم وقد تصورت أنه مجرد شاب مغرور متمرد يريد أن يفتعل معركة مع لجنة الاستماع قلت وماذا يضيرك لو أديت اللحن بالطريقة التي يرونها؟!
وإذا بعبدالحليم يقول لي بمنتهي البساطة وماذا يتبقي لي بعد أن اتخلي عن طريقتي في الأداء..
وفضلت أن أسكت لأنني لم أكن أدرك وقتها أن هذا الفتي الذكي اختار لنفسه - عن يقين - أسلوبا في الأداء وأنه أيقن أن هذا الأسلوب هو طريقه الوحيد إلي عالم الغناء والشهرة والمجد وسط الشوامخ الصوتية الراسخة في ذلك الحين..
ومدي علمي بعد ذلك أن عبدالحليم ظل باقيا علي إصراره... تمسك بهذا الأسلوب في الأداء برغم كل ما تعرض له من العثرات والاعتراضات والنقد المرير..
وهذا بلا جدال ذكاء حاد من عبدالحليم لأنه أدرك بحسه الفطري الخطير أن صوته وحده ليس كافيا لأن يحقق له المعجزة لأنه لم يكن أعظم الأصوات وقتئذ ولا أحلاها إنما كان صوتا يمكن أن يمر بأسماع الناس كباقي الأصوات ولا يحدث ضجيجا بل ولا يلتفت إليه أحد!
إذن.. فلابد من قناة أدائية جديدة لصوت عبدالحليم كي يمر.. ويظهر ويطفو ويتميز فوق كافة الأصوات المعاصرة له والتي تفوقه قوة وطلاوة وسيطرة!
وخلال هذا الصراع الفني المرير ظهر الأسلوب الأدائي الجديد لعبدالحليم..انبثق من النظرة الذكية الممعنة في واقع الغناء المصري وظل هذا الأسلوب يترنح لسنوات بين الرفض والقبول وعبدالحليم من خلفه يحميه ويدعمه إلي أن أصبح حقيقة واقعة في عالم الغناء المصري..
الكواكب 1341 - 12 أبريل 197