بقلم – د. حسين عيسى
تشهد مصر موجة غير مسبوقة من انفلات الأسعار شملت معظم أنواع السلع و الخدمات بحيث أصبحت الشكاوى والأوجاع تصيب الجميع، وعلى الأخص محدودى الدخل و أفراد الطبقة المتوسطة، وإذا كانت هناك أسباب تقليدية معروفة لارتفاع الأسعار، إلا أن السبب الرئيسى الذى يقال منذ ٣ نوفمبر ٢٠١٦ وهو موعد اتخاذ القرار بتعويم الجنيه المصرى واستخدام أسلوب التحرير المرن لأسعار الصرف، مما ترتب عليه زيادة قيمة الدولار بنسبة ١٢٠ ٪ تقريبا، مما أدى إلى ارتفاع فاتورة الورادات من المواد الخام والسلع نصف المصنعة والسلع تامة الصنع. وبالتالى ساهم ذلك فى زيادة معدلات التضخم خلال شهور نوفمبر و ديسمبر ٢٠١٦ و الأشهر الأولى من ٢٠١٧ ، و قد قامت الحكومة بشرح أسباب ذلك التضخم ووعدت أنه مع استكمال اتخاذ الإجراءات و القرارات الاقتصادية المكملة لقرارات ٣ نوفمبر فسوف يحدث الانخفاض التدريجى فى مستويات الأسعار.
ما نتحدث عنه الآن هو شىء مختلف فارتفاع الأسعار يصيب كل شىء، بل ويصيب سلعا و خدمات لا علاقة لها بتغييرات أسعار الصرف، وأصبحت موجات الارتفاع المتتالية فى الأسعار تحدث يوميا و أسبوعيا و أحيانا ترتفع الأسعار أكثر من مرة خلال اليوم الواحد، وانتقلت الموجة من السكر و الأرز و الزيت لتطول الأسماك و الدجاج و اللحوم و الخضراوات و غيرها من السلع الأساسية و الشائعات تتردد حول موجات ارتفاع جديدة مع قدوم شهر رمضان المبارك.
كل هذا يحدث و مصر تسير بثبات فى طريق تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى أشاد به الجميع والذى يعرف الجميع تبعاته على محدودى الدخل و حجم التضحيات المبذولة فى سبيل تطبيق أساليب الاصلاح الاقتصادى ..... و لكن علينا أن نعرف أن قدرة الشعب على التحمل هى المحك الاساسى فى سبيل تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى، و يجب على الحكومة أن تتخذ إجراءات عاجلة سريعة حاسمة من أجل رفع مستويات القدرة على التحمل، و ذلك من خلال زيادة موارد برامج الحماية الاجتماعية و ترشيد ما ينفق على الدعم و زيادة الإعفاءات الضريبية مع زيادة نسب العلاوة الاجتماعية للعاملين و أصحاب المعاشات و لكن كل هذه الإجراءات لن تفلح مع هبوب موجات جديدة من ارتفاع الأسعار و التى تحاول أن تستفيد من زيادة المعروض النقدى الناتج عن تطبيق إجراءات حماية محدودى الدخل و الطبقة المتوسطة ....
و بالتالى فلا بد من دراسة و تحليل أشياء أخرى للرقابة على الأسعار أو تخفيف موجات ارتفاع الأسعار، وهنا أتقدم للحكومة بالأفكار والاقتراحات التالية :
• اتخاذ قرار بإنشاء خلية إدارة أزمة خاصة بارتفاع أسعار السلع و الخدمات تضم كل من المسئولين المعنيين بهذا الموضوع على أن تطرح أمامهم كل البيانات و المعلومات المتاحة و يفكروا جميعا فى بدائل الحل المناسبة .
• يعقد الوزراء المختصون من خلال خلية إدارة الأزمة عدة اجتماعات سريعة مع منتجى و موزعى و مستوردى أهم السلع الغذائية التى ارتفعت أسعارها لوضع حلول قصيرة و متوسطة الأجل من أجل رقابة الأسعار من خلال تحديد هوامش ربح استرشادية و تحديد التكلفة المسموح بها و تحديد مدى لسعر أى سلعة له حدان أدنى و أقصى .
• دراسة منظومة التوزيع و محاولة اختصار حلقاتها وتحديد هامش الربح الاسترشادى لكل حلقة من حلقات التوزيع على أن يتم التوسع فى فتح منافذ توزيع جديدة تصل إلى أقصى القرى و الكفور و ليس فقط فى المدن والمراكز الكبرى .
• قيام لجنة من أساتذة طب التغذية بإعداد عدد من الوجبات الغذائية المثلى لكل فئة عمرية فى المجتمع تتضمن المواد الغذائية الأساسية اللازمة لصحة جيدة مع تحديد السعرات الحرارية المطلوبة لكل وجبة مع تحديد التكلفة المعقولة لإعداد هذه الوجبات و التى يجب أن يلتزم المجتمع ككل بتوفيرها بهذه التكلفة المعقولة لأفراد الشعب، وذلك حتى لا يؤدى ارتفاع أسعار السلع الغذائية إلى مشاكل صحية نحن فى غنى عنها بالذات مع الأطفال وكبار السن .
• ارتفاعات غير مبررة فى أسعار السلع و الخدمات تشكل حربا حقيقية ضد الاستقرار و التنمية و الإصلاح الاقتصادى، وهى حرب يقودها عدد كبير من التجار المستغلين الجشعين الآكلين على كل الموائد طيلة ٦٠ سنة ضد طبقات الشعب بأسره ... ولا سبيل للتصدى لهذه الحرب إلا بوقوف الشعب مع الحكومة لاتخاذ وتنفيذ إجراءات المقاومة المناسبة ... وإذا كان الشعب يرغب فى الإصلاح وعلاج المشاكل فيجب أن تشعره الحكومة إنها مقتنعة بخطورة هذه المعركة وضرورة حشد كل الأساليب والإمكانيات والإجراءات والقرارات النافذة التى تساعد على الانتصار فى هذه الحرب غير النظيفة.
• لابد من التنسيق بين وزارات التموين والصناعة والاستثمار والمالية والتضامن الاجتماعى والداخلية لمواجهة هذه المشكلة فالحلول لا تأتى فرادى بل إن فريق العمل المكلف بالعلاج يجب أن يتمتع بالرؤية المتكاملة التى تسمح بتحديد المشكلة وأسبابها وتحديد بدائل الحل وقياس عوائد وتكلفة كل بديل وصولاً إلى اختيار البديل المناسب.
• علينا أن نعترف هناك تخبط واضح فى بعض القرارات الاقتصادية بسبب سيطرة مفهوم الجزر المنعزلة .. وأقرب مثال على ذلك هو تفسير البعض لارتفاع أسعار الأسماك بأنه بسبب تصدير كميات كبيرة من هذه الأسماك للخارج .. فهل من ضمن أولوياتنا الاقتصادية الإستراتيجية هو تصدير الأسماك قبل استيفاء حاجة الطلب المحلى !!!
• علينا أن نعترف أيضاً بأن بعض السلع ترتفع أسعارها بسبب نقص المعروض منها وهنا يرتبط المعروض بكميات وطرق نقل وتوزيع وأساليب بيع ومستويات جودة وبالتالى فإن البعد التشغيلى لأزمة ارتفاع الأسعار لا يمكن إهماله وهذا يرتبط بسياسات زراعية وصناعية وتجارية يجب أن تتبناها الحكومة وتعلن عنها بمنتهى الوضوح والشفافية.
• حدوث تقدم فى تنفيذ المشروعات القومية العملاقة وكذلك حدوث تقدم فى تنفيذ مراحل وخطوات برنامج الإصلاح الاقتصادى يمكن أن تتأثر سلبياً وبشدة مع الارتفاع غير المبرر فى أسعار السلع والخدمات حيث يشعر المواطن بالعجز والضعف تجاه هذه الارتفاعات، لا سيما المواطن المنتج الذى يقضى ساعات طويلة فى العمل ولكنه لا يحقق الدخل الكافى لاستهلاك الكميات المناسبة من السلع والخدمات.
• هناك الآلاف من الشباب الذى يبحث عن فرصة عمل .. فهل يمكن أن نستغل هذه الأزمة ونبحث عن آلية مناسبة تسمح باستغلال طاقات هذه الشباب فى توزيع السلع بتكلفة معقولة، كما يمكن أن نستغل هذه الطاقات العاطلة فى الإشراف والرقابة على عمليات التسويق والتوزيع ووصول السلع الغذائية إلى مختلف طوائف الشعب.
• نحن فى حرب لا هوادة فيها تتطلب توحيد الصفوف وتنظيم الجهد وشحذ الهمم والأفكار نحو الخروج بحلول غير تقليدية تأتى من خارج الصندوق الحكومى التقليدى الذى يصبح رمزاً للترهل والعجز والشلل وسوء الأداء وضعف الإنجاز.
حرب الأسعار .. حرب ضد من .. كان هذا هو عنوان المقال، ولا أدرى لماذا أشعر بأن الحكومة غير مقتنعة بخطورة ما نحن فيه وأخشى أن نقول إنها مقتنعة ولكنها عاجزة عن فعل أى شىء حقيقى على أرض الواقع.. فلنتكاتف جميعاً قيادة وشعباً وحكومة لكى نعبر هذه المرحلة بأقل قدر من الخسائر، وعلينا أن نستغل هذه الأزمة نحو التفكير الجدى فى الإصلاح الحقيقى للجهاز الإدارى للدولة الذى أصبح مصدراً خطيراً للفساد والبيروقراطية والذى لا تقل أضراره عن أضرار الإرهاب الأسود الذى عانينا منه جميعاً.