محمد رضوان
كانت مسيرة فيلسوف الصعاليك عبدالحميد الديب (1898 - 1943) سلسلة من الراع مع المجتمع والناس والضنك سعيا وراء لقمة عيش تسد رمقه أو رداء يستره أو مسكناً يقيه حر الصيف وبرد الشتاء!
وفى وسط معمعة هذا الصراع كان لا يسلم من مناوشة بعض محبيه الذين كانوا يتندرون ببؤسه ويحاولون أن يجدوا فى مأساته مجالا للفكاهة والظرف!
وإذا كان الديب قد حرمه الدهر من أصدقاء يفضى إليهم بأحاسيسه ومشاعره الحزينة كإنسان له نفس حساسة وقلب رهيف يحب ويعشق مثل كل شاعر حساس مشتعل الوجدان فإنه قد أحب فى حياته مرتين المرة الأولى: فاطمة رفيقة بؤسه ومأساته فى بدايات محنته الإنسانية والمرة الثانية إحسان زوجته التى تزوجها فى سنوات عمره الأخيرة عام 1939 قبل وفاته ببضع سنوات.
الشاعر الضاحك الباكي
نشأ عبدالحميد الديب وسط سياج من البؤس والحرمان والقيود..
كانت نشأته فى جو ومحيط يذكرنا بأضرابه من شعراء الرومانسية المحرومين فى مراحل نشأتهم الأولى مثلما صور ذلك الناقد أنور المعداوى حيث وصف لنا بيئة الحرمان التى نشأ فيها على محمود طه ، كانت بيئة ضنت عليه بما يشتهى، وحرمته أكثر ما يطلب.. ولم يكن واحدا من الذين يرضون بالقيود ويخضعون للأصفاد، ولئن رضى بالأولى وخضع للثانية فى تلك الفترة التى يتنزى فيها شباب الروح والجسد، فلأنه كان نتاج مجتمعه ووليد بيئته، ومن هنا اشتكت روحه وتعذب جسده وضجت بخيبة الرجاء أمانيه.
اشتكت روحه من وطأة القيد وسطوة التقاليد وتعذب جسده من لهيب الغريزة وغلبة الحرمان، وضجت أمانيه وهو يتطلع إلى الأفق البعيد وبين جنبيه رهبة المشفق من مستقبل مجهول.. وانعكس هذا كله على فنه.. أنات متصلة ينقلها إليك شعر تكاد تشم فيه رائحة الدموع، شعر مظلم إن عثرت فيه على البسمة المشرقة فهى التماعة البرق الخاطف فى سماء داكنة، تظلل حوافيها ألوان من السحاب والضباب!
وإذا كان هذا هو حال الشاعر الرومانسى الحالم على محمود طه فى مطالع شبابه فى مدينة المنصورة وطن الحب والجمال وهو ابن الأسرة الميسورة فلم يعان الحرمان المادى، فما بالك بالشاعر عبدالحميد الديب الذى ولد لأسرة فقيرة لأب يعمل جزارا فى المواسم وبقية العام تعانى الأسرة ألم الحرمان وشظف العيش، فضلا عن أن الديب نشأ فى قرية كمشيش الصغيرة الفقيرة فكان الحرمان والبؤس يحيط بالفتى اليافع.. لا أمل فى حب مع فتاة وهو الفتى الفقير المحروم، لا أمل فى ملبس جيد أو مسكن ملائم أو عيشة كريمة كما حلم بها فى أحلام اليقظة والمنام، فإذا كان على محمود طه فى مطلع شبابه قد شعر بالوحدة، والغربة، والحرمان فأسهب فى الحديث عن نفسه، فى شعر تنبعث من أبياته اللوعة ويتدفق الأسى وتنطلق مواكب الأحزان فإن الديب فى فترة صباه وفتوته جللت الأحزان حياته، وأحال البؤس أحلامه وآماله إلى كوابيس، فران على نفسه الأسى وأطبقت الأحزان على قلبه ووجدانه، فجاء شعره حزينا باكيا يصف حاله أبلغ وصف :
أذله الدهر .. لا مال ولا سكن
فتى تزيد على أنفاسه المحن
إذا سعى فجميع الأرض قبلته
وإن أقام فلا أهل ولا وطن
مهاجر بين أقطار الأسى أبدا
كأنه بيد الأرزاء مرتهن
ثيابه كأمانيه ممزقة
كأنها - وهو حى - فوقه كفن .
أما المرأة .. التى ضج جسده شوقا إليها، وحنينا ليسعد بحبها ليروى جسده الظمأن، وروحه الوالهة، فلم يسعد بوصالها حتى بعد أن خاض غمار الحياة فى الإسكندرية ثم فى القاهرة، فزاد ذلك من حرمانه، وشقوته، وعذاب جسده وروحه.
وقد زاد بؤسه من إحساسه بالهوان والضعة، فاكتفى بمناجاة كل امرأة تمناها :
أحببت والبؤس تقصينى مخاوفه
فبت أضرب للأسداس أخماسا
ذات مرة بينما هو يلقى شعره فى بار اللواء صادف فتاة جميلة أقبلت تستمع إلى شعره فى شغف وسحرته ابتسامتها الرقيقة، وصوتها الهامس، وجمالها الفاتن، فتحركت مشاعره، وداخله وهم أنها تبادله مشاعره، وصادف أن رآها ذات يوم فى حديقة الحيوان بالقاهرة فدق قلبه بعنف واضطربت مشاعره وحاول تجاهلها لكنها نادته وسارت بجواره وليس معهما عزول، وشعر أن دماء الحب والرغبة تسرى فى عروقه، فجاهد ما استطاع كى يقهر جسده، كان يريد أن يحبها فى صمت وأن يعبدها فى خشوع، أن يتملى فقط من النظر إليها، أن يعيش سابحا فى جوها، أن يهيم فى المشاعر والعواطف التى ولدتها فى نفسه والتى أصبحت غذاء قلبه وروحه وغايته الوحيدة من دنياه، وخلق لها صورة ملائكية فى خياله وفكره تجمع بين الحقيقة والخيال، خلق لها فيها صورة كاملة للجمال والحسن والفضيلة.
وجسد الوهم للشاعر البائس أن كل ضحكة أو كلمة رقيقة إنما تعنى أنها تحبه وتبادله مشاعره وعواطفه المشتعلة ولبث لحظات مشتت العقل والحواس، واستبدت به نشوة المشاعر، وسحر تلك اللحظة التى رسم له القدر فيها هذه الخلوة مع هذه الحسناء الفاتنة التى لم يحلم بها خياله، وأصبح كالشارب الثمل يترنح من سحر عبير تلك الفتاة الساحرة التى تسير بجواره وهى تستمع فى نشوة إلى شعره العاصف، واستبد به زهو شبابه وسحر اللحظة فاستجمع شجاعته وبكل حرمان حياته وشقوته أمسك بكفها بقوة وهو لا يكاد يعي، ففوجئ بتحولها وغضبها وثورتها، وانتزعت يدها من يده بعنف وصاحت به:
- اتركنى.. ابعد عنى أيها الوحش!
ومادت الأرض بالشاعر البائس، وعصف به الدوار، بعد أن صدمته كلماتها النارية، وعصفت بعقله كريح الجنون فسقطت دمعة حارة على خده، وأيقن أنه قد كتب عليه أن يظل شاعراً ملعونا منبوذا بائسا لاحق له فى الحياة والحب ونعمة وصال من يحب ويعشق ووجد نفسه يتمتم ببضعة أبيات قاتمة تعبر عن غضبه المكتوم، وحزنه الكبير:
وللغوانى اضطراب كلما نظرت
عيونهن إلى عينى وتحديقى
عطشان للحسن طول الدهر مارويت
يوما به النفس إلا فيض تشويق
قد أبعد البؤس عنى كل غانية
كما يصد الهدى عن كل زنديق
إذن فالديب لم يملك إلا أن يتأمل من يحبها بعينيه دون أن يحلم بأن يقترب منها أو حتى يسعد بأن يمسك كفها، فأحس بالمشيب وهو فى عنفوان شبابه، وقوة فتوته، فودع هذا الشباب المعذب المحروم رغم تألق مجده وشهرته!
وداعا شبابى فى ربيع شبابى
وأهلاً حسابى قبل يوم حسابى
وما يبتغى من عاش غير موفق
ثلاثين عاما فى أسى وعذاب
بنى فوق دار الشمس دارة مجده
فساكنه فيها نذير خراب
طلعت على الدنيا فلا النور فى الدجى
ولا الروضة الفيحاء وسط يباب
وكم حاول الديب أن يحب ويعشق ويقترب من المرأة عل روحه تسعد وجسده يرتوى .. لكنه كان يصدم بإدبار المرأة عنه، وحينئذ كان يسترجع كلمات الروائى الهندى البائس محمد خالد رفيقه فى البؤس والحرمان :
"ما أكثر ما تعلمت من ضحكات الناس، وما أكثر ما تعذبت وشقيت.. كنت كلما التقيت بفتاة ، سواء كانت دميمة أم جميلة، لوت وجهها عنى فكنت أتمنى لو تميد بى الأرض وتطوينى، فأصبح فى مثل لمح الطرف، أقوى من السخرية وأقوى من الذل".
وكان الديب دائما يهمس بينه وبين نفسه :"أن الجنون يكاد يعصف بعقلى كلما شعرت أنى منبوذ من الناس، وأنهم لا يعترفون بى كواحد منهم.. فى حين أنى أحب الحياة مثلهم، وأهوى الجمال مثلهم، وأتمنى على الله ولو لحظة أن أخالس فى ظلمة فكرى ونفسى وحظى أضواء آمالهم وأحلامهم.. فأوصدت باب قلبى على لوعتى، وعشت وحيداً مستوحشا نفورا، مستغرقا فى عالم الشعر، وأضرب فى الطرقات كمعتوه، وأوجس خيفة من ظلى، وأعتقد اعتقادا راسخا أن لا مكان لى فى مأدبة الدنيا، ولاحظ لى فى الحب، ولا أمل فى المرأة والزواج والأولاد."
عاش عبد الحميد الديب حياته ظامئاً للحب والسكن والاستقرار، ولم يتح له أن يخلد قليلا للراحة إلا فى عام 1939 حين فكر أن يتزوج من جارته الأرملة “إحسان” التى يسكن فى حجرة فى الطابق الأرضى من نفس البيت الذى تستأجر فيه حجرة هي وولداها، فأحبها بجنون ومن معين بؤسه ويأسه وحرمانه انطلقت مشاعره الحبيسة تعبر عن حبه ووجده وهيامه بها وهو فى خريف العمر يناجى حسنها الغارب:
خلال أطلاله رغم الضنى جاسا
حب طوى العمر وجدانا وإحساسا
رد الشبيبة كهلاً من مدامعه
رد الربيع هشيم النبت حساسا
أحببت والبؤس تقصينى مخاوفه
فبت أضرب للأسداس أخماسا
أحببت أنعم من حدثته رشأ
به سمات الهوى روحاً وأنفاسا
ولم يستطع فيلسوف الصعاليك أن يطلب الزواج منها لأنه كان مفلسا بائسا، لا يملك مهراً لها إلا مشاعر حبه اليائس، لكن أحد محبيه ساعده ببعض المال، فتجرأ الديب وطلب يدها فوافقت، فكادت الدنيا لا تسعه ليلة زفافه عليها، فدعا أصدقاءه من الأدباء والشعراء ليشهدوا الزفاف السعيد فى غرفته البائسة التى سموها “جحر الديب”!
ظل الضيوف وقوفا فى الحجرة الخالية من المقاعد والأثاث وكان العريس المحظوظ يرتدى ملابسه الرثة وكان وجه الديب يتلون بين ابتسامة الأسى وابتسامة سعادته الحزينة.. وانتهى عرس الزفاف نهاية باكية مريرة.. إذ حاولت جارة عجوز له أن تنقذ الموقف فقدمت قهوة “سادة” لتزيد مرارة الليلة الوحيدة الباسمة فى حياته المنكودة فتساقطت دموع الأسى من عينيه التى ترجمها فى أبيات باكية صور فيها مأساة عرسه أو مأتم عرسه فى تلك الليلة المشهودة سجلها فى قصاصة ورق بعد انصراف الضيوف:
أقام لى الأصحاب عرسا فمذرأوا
به محنتى تشدو أقاموه مأتما
فلما رأت مبكاى ريعت وأقبلت
تبكى معى عيشا وحظا تجهما
إذا سجعت ورقاء تبعث فرحتى
تنوح غرابا فاحم اللون أسحما
وإن هيئت لى بالمدامة فرحة
رأيت مرير الحزن بالكأس خيما
وبعد الزواج لم يستطع أن يواجه تبعات الزواج، ومنها عجزه عن سداد قيمة إيجار الحجرة بعد أن ضاق به صاحب البيت وراح يصيح للشرطة أنه حتى لو رفع الأمر للمحكمة فإنها لن تجد فى حوزته أى شيء يصلح لتوقيع الحجز عليه، سوى أوراق صحف قديمة، وورق دشت، وليس هناك حصير ولا وسادة ولا غطاء ولا كوب ولا كرسى إلا حشية للنوم ولحاف بال.
ولكن صاحب البيت أصر على رفع قضية طرد، فلم يجد الديب فى ذاكرته من يقيل عثرته سوى الشاعر محمد الأسمر (1900 - 1956) فأرسل له رسولا بخطاب يتضمن الأبيات التالية:
مولاى قد حجز الغريم ولم أجد
إلاك من بيع الأثاث مجيرى
وغداً سيفضح ويفضح عيشتى
نذل يبيع أريكتى وسريرى
والناس قد جمعوا إلينا شامتا
أو باخلاً يسخو بكل مضير
ليروا مبيتى بالعراء وزوجتى
حيرى لبؤس مصيرها ومصيرى
فأرسل له الشاعر محمد الأسمر جنيهاً لسداد الإيجار المتأخر وكان ثمانين قرشا أرفق به قصاصة بها الأبيات التالية:
قد بعثنا إليك شيئاً يسيرا
فتقبله شاكراً أو عذيرا
لو حبانا الزمان أكثر منه
لحبوناك منه شيئاً كثيرا
كم بنيت البيوت فأنزل بما شئت
وطف بالجميع دورا فدورا
كيف تشكو ياديب مارحت تشكوه
وأنت الذى يشيد القصورا
أنت ياديب يا أديب غنى
بالقوافى وإن رهنت الحصيرا
لكن غنى القوافى وثراء الأبيات لا تشبع بطنا ولا تسدد إيجاراً، ولم تمض أشهر قليلة حتى برمت به زوجته إحسان وتحطم الحب على صخرة البؤس والفاقة، فطلبت الطلاق، فأنشد الديب بقلب مكلوم:
ظننت متاع العريس يبقى إلى غد
وأن بكورى بينه ومقيلى
وطوفت بالأحلام نشوان سادرا
لعلى بلذاتى أبل غليلى
لقد رضيت بى بعلها وكأنما
تطلبت البلوى بكل سبيل
رأت فجأة كأسى تفيض لكأسها
معيشة أفاق وضعف ذليل
فقالت وألفت سحنتى فى تغضن
معاذ الرضا أن يستشاط حليلى
فقلت: حنانيك اغفريها جريمة
فما عرف الشيطان زوج بتول!
ودعها الديب وفارقها وقلبه يبكى ولم يطل به زمنه طويلا فرحل عن الحياة إثر انفجار فى المصران فى 30 أبريل 1943 وقبل أن يغمض عينيه تمتم بصوت حزين أبياته الساخرة الباكية:
وداعاً شبابى فى ربيع شبابى
وأهلاً حسابى قبل يوم حسابى
وما يبتغى من عاش غير موفق
ثلاثين عاماً فى أسى وعذاب
وكتب الشاعر كامل الشناوي يرثيه: "اليوم ما شاعر جاع وأكلت الكلاب وتعرى واكتست أضرحة الأولياء".
رحل الشاعر الضاحك الباكى بعد أن فلسف لنا مأساة بؤسه فى أبيات ساخرة باكية مريرة مرارة العلقم:
وهام بى الأسى والبؤس حتى
كأنى عبلة والبؤس عنتر
كأنى حائط كتبوا عليه
هنا يا أيها المزنوق “طرطر”!