الأربعاء 12 يونيو 2024

حيل الذاكرة في الطفو!

22-4-2017 | 10:22

فريد أبو سعدة - شاعر مصري

 لقد تحولت اللغة فى يد المبدع العربى إلى مادة مطواعة فاتنة، صنع منها عجائب فى التشكيل الزمانى والمكانى، فى الموسيقى والمجاز، كما تضعنا وجها لوجه أمام شاعرين، شاعر يعتمد على الإيقاع المتكرر المنضبط، وآخر يعتمد على الإيقاع المتنوع المفتوح، وبين التكرار والتنوع، أو بين الانضباط والتماثل من جهة، والمختلف المؤتلف من جهة أخرى، دلت اللغة على شعريتها وأبانت عن رقصتها الفريدة.

    أتصور أن شاعر التنوع المفتوح، بما قدمه من كشوف، وما ابتدعه من حيل، منقادا إليهما بالرغبة العارمة فى اللعب، ظل يمارس غواية هائلة لزميله المنضبط،، ويمكننى المجازفة بالقول إن شاعر التنوع المفتوح كان أشبه بشاعر تجريبى لا يقر له قرار، ولا يأخذه العجب بما يقدم، وإنما هو حيوية دائمة تسعى إلى كمال غير حاصل، في الوقت الذي راح شاعر التكرار الإيقاعى يأخذ من كشوفه وألاعيبه، ويدلى بدلوه أيضا فى الآبار التى انفتحت ليكسر قالبية شعره.

    وأتصور أننا لم نكن لنكسب شيئا لو أن شاعرا منهما سلم بصحة الآخر أو استسلم له، لأن الشاعر الحق لا ينفى الشاعر الحق، ورقصة الشعر لا تمضى بساق واحدة، فالشعر مثل الحب له سكك عديدة!

**

   يقول ماركيز فى روايته "ذكريات": "كما أن هناك أحداثا واقعية يمكن نسيانها هناك أيضا أحداث لم تقع أبدا ويمكن أن تظل ذاكرا لها كما لو أنها وقعت"!

    هذه العبارة تتضمن مفهوما مختلفا للفن، فإذا كانت المفاهيم السابقة للفن، من حيث قدرته على التغيير، أو التفسير أو تثوير الواقع، قد أصبحت من السرديات القديمة فإن فكرة توسيع العالم، فكرة الخلق والإضافة أصبحت هاجس الكتّاب، فمن ألعاب كاتب كبير مثل بورخيس هذه الرغبة في، والمقدرة على، خلق وتأسيس وقائع وشخصيات لم تكن أبدا، وإعطاء تكويناته السردية الخيالية مصداقية الحقائق الموضوعية، فنرى بعض قصصه تبدأ كما لو كانت دراسة علمية خالصة وأحيانا على شكل فكرة فلسفية أو طرح جدلى، وحيله فى ذلك متعددة، فقد يبدأ النص بفقرة من عمل أدبى قديم أو من مرجع تاريخى أو علمى، أو باستدعاء ومناقشة أسطورة قديمة أو فكرة فلسفية لم تحسم بعد.

**

   متى يكشف الكاتب عن مصادره، عن التجارب والوقائع فى حياته، تلك التى تكمن فى الظل طويلا، ثم تطفو فجأة لتكون قصيدة، أو واقعة شعرية فى قصيدة؟! متى يضع أمام القارئ وقائعه، ليرى الفرق بين الواقعة كما وقعت، والواقعة وقد أصبحت فى قفاز المجاز. بمعنى كيف يضع أمام القارئ نافذة يتلصص منها على تحول وقائع من السيرة الذاتية إلى عمل إبداعى؟ كيف تفعل المخيلة أفعالها السّرية، وما هى الطرائق التى تسلكها وهى تفعل ذلك؟!

   المخيلة، فيما أرى، تقوم بعمل المايسترو إذ تقود أوركسترا من عازفيها الثلاثة: الذاكرة، والوعى، واللغة فى أداء هذه المهمة، مهمة التحريف أو الانحراف بالواقعة من العارض إلى الخالد، من المألوف إلى المدهش، من الخلو من المعنى إلى المشحون بالمعنى.

**

   لا شك أن ما يعانيه الناقد "القديم" من ارتباك أمام النص الجديد تنتقل عدواه إلى القارئ، فيلتبس عليه الأمر ولا يعود يفهم من هذه الرطانات شيئا، لقد جعلوه ببساطة أمام خيارين مرّين، إما أن يفهم أن كل شيء مثل كل شيء، وإما أن يعطى الجميع ظهره ويمضى، مؤمنا بما يروجه البعض من أن زمن الشعر قد ولى وأننا نعيش زمن الرواية.

   هناك أيضا نقاد الوصفة أو"نقاد الباترون" وهم يشوشون على المشهد الشعرى بشكل مختلف، إذ يتقدمون على الشاعر ويشيرون عليه بما ينبغى عمله ليكون حداثيا، فيتمكنوا بدورهم من استخدام أدواتهم النقدية الحديثة فى مناقشة أعماله!

   والمشهد - بين ناقد متأخر عن اللحظة الشعرية وناقد متقدم عليها- لم يصرف القاريء فقط عن الشعر، بل ساهم أيضا فى تضليل الشعراء وخلق حالة من الاحتراب بينهم. لقد وثق الكثير من الشعراء بنقاد الباترون هؤلاء، صدقوا أن كل عقد هو جيل، وأن كل جيل قاتل بالضرورة لآبائه ومبتدئ من الصفر! صدقوا أن كل ديوان بداية جديدة، منبت الصلة عما قبله وما بعده، وانخرط الجميع فى حرب ضد الجميع.

   التعدد مهم، و تقليب النظر مهم، شريطة أن يتم ذلك بروح المنافسة لا القتل، والمزاحمة لا الإزاحة، بروح أننا شركاء فى الحقيقة وليس هستيريا الفرقة الناجية!