الخميس 13 يونيو 2024

وصل الشعر أخيرا.. فهل تحيينا القصيدة؟

22-4-2017 | 10:24

مجدي عبد الرحيم - شاعر مصري

فى ديوانه الجديد "عادة الشعر.. يصل متأخرا"، يصوغ الشاعر عمرو الشيخ قصائده بوعى وصدق وعفوية، وينساب الشعر بين يديه برقة ونعومة دون تكلف أو إجهاد للنفس والأحرف والشطرات، ونلحظ جهدا كبيرا مبذولا وعناية فائقة فى البناء المعمارى والشكل الهندسى للنصوص.

    ويهتم ببناء القصيدة ويجيد استخدام خاصية الحذف والإيجاز، وعدم الاسترسال فى الوصف وكتابة شطرات كثيرة لا تخدم فكرته، ولا يكتب الشعر من أجل النظم وإخراج طاقات كامنة وحبيسة فى صدره، بل يطلق صرخاته لتكون جرس إنذار ينبهنا إلى خطر شديد، وأن الغد القادم أكثر سحقا للإنسان تحت ضغوط شتى، وصراعات جمة تدوس بقسوة وجبروت على كل ماهو جميل ونبيل. تتخطى أحلامه الذات الفردية إلى آمال وأمنيات أكثر رحابة، فى أن ترى العالم أكثر عشقا وحبا واحتراما للنفس البشرية، على اختلافها وتنوعها والانحياز المطلق للإنسانية بوجه عام.

   عمرو الشيخ شاعر متمرس يمتلك لغة وأخيلة ورؤية فلسفية عميقة وخبرات حياتية، وبراعته فى النظم والكتابة الشعرية الموزنة عروضيا سواء كانت عمودية أو تفعيلية مكنته من كتابة نصوص شعرية نثرية مختلفة ومغايرة لما هو سائد ومعروف، عبر تجربة لها صوت متميز خاص وثرى.

   يختار كلماته بعناية شديدة بحيث لا تستطيع الاستغناء عن أى مفردة، ولا يهتم بطول القصيدة رغم قدرته على ذلك فهو يصل إلى هدفه مباشرة بدقة من أقصر الطرق وأقل الكلمات. هناك نسق عام بين القصائد ووحدة تتداعى من خلالها الرؤى والأفكار فى تناغم رائع، ورغم أنه يطرح قضايا وجودية وصراعات أبدية منذ بدء الخليقة حتى واقعنا، وتعرية للمجتمع وفضحه ونزع ورقة التوت عنه، إلا أن أسلوب العرض الشيق يجعلك تعيش جو القصائد وأنت مستمتع كأنك أمام لوحة سريالية مفعمة بالجمال الخلاب الساحر، وقطعة موسيقية متكاملة العذوبة.

    الديوان لغته بسيطة سهلة لينة عميقة فى الوقت نفسه تصل للقلوب والعقول بسهولة ويسر، تسعد العامة وترضى المتخصص، فلم يلجأ إلى التلغيز والتقعر والتفلسف وحشر الكلمات الغريبة داخل النصوص، فقد اهتم بالجوهر والمعنى داخل المتن ووصول تلك الروح للمتلقى بمحبة وعشق وحرص بدا واضحا عبر القصائد.

   فى قصيدة "عادة الشعر.. يصل متأخرا" عنوان الديوان وأولى قصائده، يلقى بنا فى بحر الشعر مرة واحدة، لم يؤخرها بل وضعنا على المحك فى مواجهة شاقة وعسيرة، وعلينا فك الشفرات وفهم الرسالة ومعرفة لماذا يصل الشعر متأخرا؟ وهل هى عادته فعلا؟

"لم يتردد "قابيل"/ لم يمنعه النوم الوداع لأخيه/ لم ترتعش السكين في يده حين تذكر عبارة/ "لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"/ ربما اعتبرها فرصة!!/ كنت هناك/ لم ألمح في عينيه شرودا ما،/ ذكرى ما،/ ألم يلعبا معا طفلين؟!"

    هنا تناول بعين بريئة متوجسة تبحث عن مخرج ربما يمنع حدثا مهولا على وشك الوقوع، يسحرنى تكرار جملة "كنت هناك" لها مدلول قوى يقيم الحجة علينا والإدانة إلى يوم القيامة.

    ويقول: الآن وصل الشعر أخيرا../ يحمل بعض الحزن../ وبعض الصور../ وبعض الموسيقى/ ينعى القبر../ ويرمز.. فقط يرمز/ للسكين والغراب/ "قابيل" لا يكترث بالشعر../ و"هابيل".. هل تحييه قصيدة ؟"

     يكتب عمرو الشيخ قصيدته بحرفية عالية وبراعة فائقة، يعمل للعقل والفكر ويخاطب المشاعر والأحاسيس يعرى المجتمع بالكامل من الزيف والخداع والتقاتل على لا شيء. فى قصيدة "الوقت والحياة يفسدان قصيدتي" يقول: "أمي تعيد تصوير مشاهد طفولتي،/ تؤنس كل الليالي بالحواديت التي أدهشتني بدايتها"، ملمح إنسانى شفيف وخيط من الذكريات وبصيص نور قادم، ومشاعر منسابة فى رقة ونعومة ودلال.

وفى قصيدة "العرض" يقول: "الحياة خائبةٌ جدا/ كل يومٍ تصوب علي وﻻ يحدث شيءٌ/ اﻵن ظهري للحائط/ ألف تفاحةٍ فوق رأسي/ والحمقاء سهمها طائشٌ، قمة الملهاة أن تكون معرضا يوميا لاغتيال ما معنويا وأنت تؤدى دورك فى تمثيلية مرغم على الاشتراك دون إرادة منك"، وفى مقطع آخر يقول: "فقط يضايقني جدا ذلك العلم الذي لا يحتضن إلا الجثث/ والصف اﻷول من الجنازة/ لا أعرفهم"، هناك ملمح ساخر من أحداث متكررة نراها فى الواقع وعلى شاشاتنا وفيها وجوه نعرفها شكلا ولكنها منفصلة عنا تماما.

   وفى قصيدة "تعايشٌ ما" يقول عبر مقاطع قصيرة مركزة مكثفة: "أدخل المعركة وحدي/ أنا الصف وحدي/ أكثر ما أخافه الخيانة!!"، ما أروع الشعر حين يخاطب العقل ويثرى الفكر ويتوغل داخل النفس المنسحقة والمهزومة بفعل فاعل!

   وفى قصيدة "الممثل الرديء" يقول: "الممثلون الشعراء عادوا إلى غرفهم/ مسحوا مساحيق القصائد بسهولة../ الجمهور يحاصرني"، هل أصبح العالم من حولنا مزيفا لدرجة أن القصائد باهتة ومفتعلة، قمة المأساة أن يكون كل ما حولك مسخا ومفتعلا بلا روح وطعم. وفى مقطع آخر يقول: المخرج.../ في حرج وملل/ يبلغني عن طريق بعض أصدقائي الممثلين/ لا تأت غدا../ أداؤك مفتعلٌ جدا/ أصدقائي لم يتوقفوا لمواساتي/ كان لديهم ليلة عرضٍ أخرى"، وهكذا تستمر الحياة ويستمر الزيف والخداع وينساك الأصدقاء المقربون.

   وفى قصيدة "لا تشاركهم قتلي" يقول: "مخطئٌ جدا يا قيصر/ تقدم يا صديقي، تقدم.. لا تتردد/ انظر في عيني قبيل الطعن/ سامحني مثلما سامحتك/ أعرف../ لم أستطع أن أعيش بين يديك،/ ولم تستطع../ فلا حرج إذن أن أموت على يديك/ "بروتس"! ما هذا؟؟ تبكي!!/ لا... لا.. تقدم يا رجل.. صوب/ سأدلك على قطعةٍ سليمةٍ في صدري وأخصك بها/ هي لك"، منذ فجر التاريخ وتتكرر تلك الأحداث وخيانات وغدر الأصدقاء أمر جلل لكنه أصبح أمرا طبيعيا وعاديا مع الأسف لكثرة تكرارة، شعر يفيض بالحكمة ويجيد توظيف الأحداث التاريخية بحرفية عالية ودهشة وصدق فى التناول.

   وفى قصيدة "مجالٌ للرؤية في غبار الحرب" يقول: "المرآة تصر على تزويري/ بل كل المرايا/ من أين لظلي تلك النظرة القاسية/ وذلك المسدس المتدلي من جانبيه؟!"، قصيدة قصيرة تلغرافية مركزة تنتمى إلى شعر الومضة.

    وفى قصيدة "شرف" يقول: "زجاج النافذة المحكم جدا/ ادخر بخار السنين بأمانةٍ مدهشةٍ/ صار كفا تدخر أو تخبئ خطوطا لا تتجعد"، نص عميق فلسفى وبه قراءة للتاريخ وخبرة ودربة بالنفس البشرية وتقلباتها، وفى مقطع آخر يقول: "حاولنا العودة... لم نعرف إطلاقا/ الشوارع تشابهت علينا/ من كل زوايا الرؤية في الشارع لم نميز زجاج نافذتنا/ إما أن إحداهن نظفت الزجاج بعد مغادرتنا/ أو../ يبدو أن الجميع صاروا شرفاء"، تأمل السخرية المريرة كيف عبر عنها بسهولة ويسر وعمق نحن أمام شاعر يملك مفاتيح اللغة وشفرات التعجب.

    وفى قصيدة "صفقة مرهقة" يقول: "أكدس البشر الذين أعرفهم أو أجهلهم/ والقصائد التي كتبتها، وصخبهم/ وأبني أسوارا جديدة../ لعزلتي"، هل أصبح فعلا الإنسان الحالم الصادق يعيش فى عزلة عن العالم المزيف من حوله، ويقول: "ما كنت أعرف أن البناء سيكلفني إلى هذا الحد!!/ ضجيجٌ، وأسئلةٌ، ووجوهٌ"، من أمتع قصائد الديوان بها تعرية للواقع ودقة فى الوصف، بوح صادق شفيف يلامس القلوب قبل مخاطبة العقول، ويعرى الواقع بتجرد واتزان ويكشف طبائع البشر بدون تجميل أو رتوش زائفة.

   وفى قصيدة "الخوف" يقول: "أحيانا تفلت سمكةٌ من الصياد/ فلماذا ﻻ تنقل خبرتها لجميع الأسماك؟/ تسخر الشبكة من سذاجة الشاعر/ في حين يسترخي الطعم على كرسيه الهزاز"، تأمل العمق فى التناول وحكمة الحياة فى نص يشع فلسفة ورؤية تحتاج إلى بذل الجهد لكشف عتباتها، ويقول: "لماذا عن السمك.. يبدو منطقيا/ لكن العصافير!!/ العصافير شاهدت الصياد مرارا والضحايا كل يومٍ!/ لماذا ﻻ تفر؟؟"، يا له من رمز وإسقاط باتت العصافير والأسماك تمشى على الأرض ذليلة خانعة.

    وفى قصيدة "قصائد مترجمةٌ ليست لي" يقول: "اﻷصابع اليائسة والكاذبة أكلت كل اﻷرقام من فوق النرد/ لم يبق له إﻻ/ شغف اﻹلقاء واﻻنتظار"، من قصائد الومضة تحمل مراوحة ومزاوجة وربط بارع بين الشخص الملقى فى غرفة الانعاش على وشك الموت ولعبة النرد التى تمثل حياتنا وتجعلنا لعبة.