الأربعاء 26 يونيو 2024

ننشر نص كلمة وزير الخارجية فى مؤتمر الحضارات القديمة

24-4-2017 | 12:14

السيد نيكوس كوتزياس وزير خارجية اليونان
السيد وانج يي وزير خارجية الصين
أصحاب السعادة وزراء الخارجية وكبار المسئولين والسفراء
السيدات والسادة
بداية لا يفوتنى التقدم بخالص الامتنان للحكومة اليونانية الصديقة علي التنظيم المتميز وحفاوة الاستقبال والضيافة.
اسمحوا لى أيها الصديقان العزيزان وزيرا خارجية اليونان والصين أن أوجه لكما كل ثناء لاختياركم السديد لتلك اللحظة الدقيقة التى يمر بها عالمنا بأزمة عميقة من الاضطراب الحضاري، لدعوة وزراء خارجية جمع مُنتقي من الدول المنتمية لأقدم الحضارات التى تكن لها حركة التاريخ كل امتنان وعرفان، لنعلن معاً اليوم إطلاق منتدى "الحضارات القديمة"، من أثينا، تلك المدينة ملهمة الفلاسفة والحكماء، صانعة الديمقراطية فكراً وتطبيقاً.
السادة الوزراء
 يطيب لى أن أعبر عن مدى الترحيب الذى تُقبل به بلادي على المشاركة فى هذا الإطار الثقافي الجديد الذى يستجيب ولا شك لتحديات تلك اللحظة الحرجة من تاريخ الإنسانية. فمن يكون أشد منا – نحن شعوب الحضارات التى صنعت التاريخ – تأثراً ورفضاً لما تقترفه جحافل التطرف والإرهاب كنتيجة مباشرة للسقوط الحضاري المشين، من امتهان دنئ للقيم الحضارية والكرامة الإنسانية، ومن عدوان بربري علي حريات وحقوق الشعوب فى العيش المستقر الآمن، وذلك فى استخفاف فج بمبادئ الحق والعدل؟ ناهينا عما نشهده من انتهاكات مفجعة لقدسية التراث الحضارى المشترك للإنسانية بكل ما يحتضنه من إبداعات خالدة ومعان سامية وتراكم معارفي لا يُعوض. فإذا ما أطلت علينا الحضارات القديمة فما يكون قولها عن 

(2)
الصراعات المذهبية والطائفية الدامية والحروب والاحتلال الأجنبى التى تُجرف أعز مواطن الحضارة الإنسانية؟
السيدات والسادة
 إذ يبدو أن العصر الحديث، بل وفى تعبير أدق "عصر ما بعد الحداثة" فى ضوء الثورة المعلوماتية المذهلة التى يعيشها القرن الواحد وعشرون، والذى يشهد صدامات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية مُحزنة، بات فى حاجة ماسة إلى العودة لجذور الحضارات القديمة وأصالتها ليستقي منها حكمة التاريخ وعِبَرَ الزمان بحثاً عن ملامح مستقبل أكثر تحضراً وإنسانية.
تلك هى الرسالة السياسية البليغة التى يوجهها هذا المنتدى الجديد إلى الإنسانية جمعاء خاصة الأجيال الجديدة. إذ إنه بمجرد جمعه فى نسق واحد لأعرق ما جادت به الحضارات القديمة من معاني الرقي الإنساني، فهو يسلط مباشرة الضوء على المفارقة شديدة الوطأة على العقل والوجدان بين مدى عظمة حضارات الماضي وما حققته من تمازج تاريخي بديع فيما بينها عبر الزمان والمكان، وبين ما وصل إليه واقعنا اليوم فى أكثر من بقعة فى العالم من سقوط لمُثل الحضارة واندثار للقيم السامية.
فنحن الممثلون لهذا الجمع من الحضارات القديمة، علينا الالتزام بفحوى      ما أوصت به حكمة التاريخ، بالعمل من خلال التحركات النشطة والإضافات القيمة المنتظرة من هذا المحفل الجديد، على تضافر جهودنا نحو تذكير العالم بأهمية 

(3)
رسالة التحضر والسلام والاستنارة التى يحملها هذا المنتدى للإنسانية، فضلاً    عما يجب أن يؤكد عليه المنتدى من أهمية الاستمرار فى التواصل الحضاري الممتد عبر الأجيال حفاظاً على تراث الإنسانية التليد وحمايته بكل ما يتوافر من السبل والإمكانات، لاسيما إبداعات التراث التى تقع فى مناطق النزاعات المسلحة.
السيدات والسادة
 إن الحضارة تعبير يحمل وهجاً إبداعياً ذاتياً، إذ يطلق على محصلة نجاح الإنسان فى الاستثمار الأمثل لحالة الاستقرار والأمان التى يعيش فيها ليتفاعل بإيجابية مع الموقع الذى ينشط فيه مع غيره من أفراد مجتمعه، فضلاً عن البيئة المحيطة. هاهي إذن جملة العوامل التى تسمح بتفاعلها بإطلاق الطاقات الإنسانية الخلاقة إعماراً وإبداعاً وإنماءً. من ثم، فمهما تباينت السمات الشكلية للحضارات المتنوعة، فهى فى منتهاها تصب فى حضارة إنسانية عالمية واحدة تبغي الارتقاء بالإنسان، غاية ووسيلة، فى كل زمان ومكان.
 أليس هذا ما يمكن أن نستشفه من الكتابات على أوراق البردي المصرية واليونانية؟ أليس ذلك ما تلقيناه من الأهرامات المصرية والمكسيكية المتدرجة فى حضارات "الآزتيك" و"المايا" و"معابد الشمس والكباري المعلقة" فى حضارات "الإنكا" ألا تشهد عليه أيضاً معابد "الكرنك" و"الأكروبول" و"مدرج الكولوسيوم" و"سور الصين العظيم" و"حدائق بابل المُعلقة" ؟ فكل تلك الرموز الحضارية الشامخة إذا ما تحررت من إسار صمتها التاريخي، فهي لن تتحدث إلا بلغة "الإنسانية العالمية الواحدة".

(4)

السادة الوزراء
 ليس من شك أن إشكاليات الإرهاب والتطرف بكل ما يقترن بتلك الظاهرة السرطانية من تداعيات سلبية، سياسية/اقتصادية/ثقافية/اجتماعية، سوف تتصدر قائمة أولويات منتدانا الجديد، وقد آلت مصر على نفسها التصدي بكل قواها لقوى الظلام المحمومة. وفى الوقت الذى تجابه فيه الدولة المصرية بصلابة التنظيمات التكفيرية، فهى على إيمان عميق بأن التصدي الأمنى للإرهاب يجب أن يقترن فى ذات الوقت بمعالجة حضارية/فكرية/ ثقافية، مُذكرين أنفسنا بمطلع ديباجة ميثاق منظمة اليونسكو:
"إذا كانت الحروب تبدأ فى عقول البشر،
فيجب أن تبدأ فى عقول البشر 
بناء حصون السلام".
وانطلاقاً من تلك الرؤية الحكيمة، تشهد بلادى فى تلك الآونة تحركاً شاملاً يقوده الأزهر الشريف منارة الوسطية والاعتدال فى العالم الإسلامي منذ أكثر من ألف عام، لإصلاح الخطاب الديني والنهوض به وتفنيد الافتراءات التى أُلصقــت عنوة بالدين الإسلامي والتصدي لما إفتُري عليه به من اتهامات زائفة وإدعاءات ممجوجة. 
وعلي إثر فاجعتي "عيد السعف" بمحافظتي الإسكندرية والغربية، تشكل "المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب" من نخبة من أهل الرأي والفكر والعلم والثقافة والفنون ورجالات الدين الإسلامي والمسيحي، بغية حشد الطاقات وتضافر الجهود وتنسيق 

(5)

السياسات من أجل التصدي لأيديولوجيات الإرهاب والفكر الهدام وترسيخ أسس المواطنة والتسامح والتعددية والعيش المشترك وغيرها من القيم الحضارية التى تجمعنا وتحرر عقول الشباب من الأفكار المسمومة وأزمات الهوية والتغريب التى تراهن عليها التيارات المتأسلمة المتطرفة وقيادات اليمين المتطرف فى الغرب وغيرها من تحالف قوي الظلام المُعادى للتطور الحضارى للأمم.
السادة الحضور
 أود أن أذكر بأن مصر سليلة تمازج حضارات خالدة، جمعت الأقدار بينهم فى لحظات تاريخية متفردة : الحضارة الفرعونية أولى الحضارات التى آمنت بالتوحيد، بكل ما يرمز إليه ذلك من بحث عن الحقيقة، والحضارة الإسلامية التى بشرت أولى آيات الذكر الحكيم "إقرأ" بفيضها المعارفي الجارف، والذى تحقق بالفعل لاحقاً. وفى مصر نفسها هبط الوحى علي موسي عليه السلام وعاش عيسي عليه السلام وخرج منها فى رحلة العائلة المُقدسة. وتزاوجت وتداخلت وتعايشت تلك الحضارات والشواهد التاريخية الخالدة مع روافد حضارية أخري فى الشرق الأوسط، وأفريقيا، وحوض البحر المتوسط جاعلة من مصر بوتقة انصهار إنسانية رائدة عصية علي الانغلاق أو الانعزال.

(6)
السادة الوزراء والسادة الحضور
 أننى علي اقتناع أكيد بتعدد فرص التعاون والعمل المشترك بين أعضاء منتدي الحضارات القديمة وترجمة رسالته لواقع ملموس. ولعل من أمثلة ذلك: 
- التعاون من أجل صياغة منهج دولى يستحضر تراثنا الحضارى المشترك لمناهضة الإرهاب والعنف والتطرف بما فى ذلك من خلال تكاتف الدبلوماسية الثقافية لدولنا للترويج لحق الشعوب فى التنمية والسلام والكرامة الإنسانية.
- مناقشة سُبل الربط بين انجازات ومكتسبات حضاراتنا التليدة وتحقيق أهداف التنمية المُستدامة 2030 باعتبارها أساس التوافق الدولى لإنهاض عالمنا المعاصر من عثراته المتعددة.
- تسليط الضوء علي الدور الهام لحركة الهجرة والتدفقات البشرية التى لم تنقطع عبر التاريخ فى نقل الفنون، والأدب، واللغات، والعلوم وغيرها من مظاهر الإنتاج الثقافى والانجاز الحضارى. فالعولمة ليست فرضاً لقوالب نمطية قابلة للتعميم ولكنها تفجيراً لطاقات التعددية والاختلاف التى تتماس مُستحضرة لسيرة تعايش حضاراتنا القديمة وما شهدته من تفاعلات بينية هامة ومؤثرة.
- التنسيق فيما يتعلق حماية المنقولات الثقافية من التهريب والاتجار غير المشروع، ودفع التعاون الدولى لإعادتها لدول المصدر بما فى ذلك من خلال تقوية أطر حقوق الملكية الفكرية فى هذا المجال، فضلاً عن التعاون الفنى وتبادل الخبرات فى حفظ وترميم المواقع الأثرية والممتلكات الثقافية.

(7)

- التعاون والاستفادة المُتبادلة من تجارب تطوير الاقتصاد السياحى القائم علي التراث الثقافى الثرى لدولنا وكيفية توجيه ذلك لخدمة جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- كما أري فرصة سانحة لمحافل تتيح التفاعل علي مستوي الشعوب وتُوجد حيزاً للحوار المباشر بين الشباب، والعلماء، والفنانين، والإعلاميين وكافة الأطراف التى لديها القدرة علي تعظيم الاستفادة من قواسمنا المشتركة واستدعائها لعالمنا المعاصر.
السادة الوزراء
 خلاصة القول، أن "منتدى الحضارات القديمة"، ذلك النسق الذى يستمد خصوصيته من التداخل القائم بين عمق التاريخ ومتغيرات الحاضر، يمكن أن يمثل أداة هامة للدبلوماسية الثقافية ومنظوراً جديداً للتعامل مع قضايا عالمنا المعاصر، وبما يمكن من تحقيق التمازج بين التصورات المختلفة المقترحة فى نطاقه، بغية التوصل إلى رؤى مبتكرة جديدة قادرة على المساهمة فى استيعاب تحديات العصر. 
  وأؤكد لكم علي تأييد مصر الكامل لهذا المحفل واعتزامها المشاركة النشطة فى بلورة الأنشطة المشتركة التى ستنبثق عنه، ونتطلع تحت القيادة اليونانية-الصينية للمبادرة لبلورة خطة طموحة لعمل هذه المبادرة بما يسهم فى دفعها نحو آفاق رحبة تتيح تحقيق الرخاء والصالح المشترك للأسرة الدولية بأسرها.